مجلس “المبعوثان” السوري .. وأستاذ السوربون زعيماً للدبّيحة

لايبدو أن المجلس الانتقالي السوري المعلن قد ناله التوفيق والنجاح..المجلس الذي وصل عدد أعضائه الى 94 عضوا (رقم لاأدري لماذا يذكرني بأمّ 44) تجولت بين الأسماء فعرفت بعضها (ولاأفشي سرا ان قلت انني أعرف بعضها شخصيا) ولكني لم أجد شبيها تاريخيا لهذا المجلس الا مجلس “المبعوثان” العثماني الذي شكله العثمانيون عام 1877 ليمثل بداية حياة دستورية ..لكنه كان مجلسا كاريكاتيريا لسوء فهم الناس لوظيفته.. ولذلك وقف رئيس (مجلس المبعوثان) في ختام جلسات الدورة الاولى في شهر تموز عام 1877 وقال للمبعوثين :”ارجعوا الى ولاياتكم وأعيدوا الانتخابات واجتهدوا ان ترسلوا لنا مبعوثين أتم عقلا وأكثر وقوفا على احتياجات البلاد” ..

المجلس الانتقالي السوري بحد ذاته عبارة عن خليط من تنافرات مدهشة ..واللعبة من دمج هذه المتناقضات هي للضحك على الذقون في الداخل السوري وتمثيلية الديمقراطية للمراقب الغربي للدلالة على تلون المعارضة واستيعابها للرأي والرأي الآخر…هذه المجالس الانتقالية كما نعرف لايمكن أن تعمل في الظروف الطبيعية على الاطلاق ولابد من قوة خارجية ضاغطة جدا لتجميعها للتغلب على قوى الكهرباء السالبة بينها..والأحوال التي اجتمعت فيها هذه المجالس الانتقالية وتشكلت سابقا كانت استثنائية وهي الحالة العراقية عقب الاحتلال الأمريكي والحالة الليبية قبل الاحتلال الأطلسي..وكلتا الحالتين كان العامل الحاسم في التشكيل والاشراف هو العامل الخارجي وتحديدا الغربي- الأمريكي ..ولاشيء يدعونا لتصديق أن المجلس الانتقالي السوري نشأ وحده وبعفوية وبعيدا عن اليد الأمريكية التي تعجن وتطبخ وتمزج الألوان وهي على هذه الحالة من التنافر..التي تشبه الأزياء الافريقية المزركشة..

هذه المجالس هي تعبير عن نفاق المعارضة وليس انسجامها..هذه معارضات متعارضة في معارضة وكل منها معارضة للمعارضة..انها أشبه بأقزام يركبون على ظهور بعضهم ويتطاولون حتى يبدو للناظر أنهم جسم ممشوق القامة طويل وهم يغطون هذا التراكب بالعلم السوري ولكن ما ان يسقط هذا الغطاء حتى نعرف أن هذا الطويل الممشوق القد ماهو الا قزيمات تعتلي ظهور بعضها وما ان تحين فرصة الانقضاض المتبادل حتى تتناهش وتدمي جلود وعيون بعضها..

وكما قلت فأنني أعرف العديدين من هذا التجمع الذي يراد له أن يبدو طبيعيا لكنه شبيه بحفلات التنكر التي يحضرها المترفون حيث الحاضرون لايعرفون بعضهم في الحقيقة ومع هذا يتنكرون.. انني أعرف بعض تلك الوجوه عن قرب وبعض مموليهم ودار بيني وبين بعضهم جدال ودي في الماضي عندما كنت منخرطا في النشاط المدني والمنتديات التي نشطت في أواخر عهد الرئيس حافظ الأسد وبداية عهد الرئيس بشار الأسد حول تصورات الانتقال لعملية الدمقرطة ولكني لم أجد نفسي ميالا لطروحات لم تكن ناضجة.. ومازاد من نفوري وعدم ثقتي بها أنني اكتشفت أن بعضهم كان يتجسس على بعض متقربا من أجهزة الأمن بشكل انتهازي..!! وأذكر أنني حضرت جلسة حوارية حضرها قرابة 40 شخصا من بينهم الدكتور عارف دليلة لأفاجأ في الجلسة التالية أن أحدهم أبلغنا أنه اكتشف أن أجهزة المخابرات (وبالذات مكتب محمد ناصيف) تلقت قرابة 20 تقريرا من داخل الجلسة عما دار فيها بالتفصيل وبعضها كان على أشرطة كاسيت !!.. بل ان أحدهم وقد قدمته وسائل الاعلام معارضا وملاحقا من أجهزة الأمن (وأتعفف عن ذكر اسمه) كان صديقا مقربا من مأمون الحمصي ونزار نيوف وبسبب خلاف شخصي معه كتب يوما تقريرا كيديا الى أجهزة الأمن يتهمني فيه على أنني معارض وأدعو لاضراب !! وكان ذلك آخر عهدي بهذا النوع من المناضلين….وعلى مايبدو صار البعض لاحقا معارضا ونقل ولاءه من مكتب ناصيف الى مكتب الاستخبارات الأمريكية في الشرق الأوسط..

وربما كان عارف دليلة هو الشخص الذي حظي باحترامي دوما وخاصة عندما حضرت بعض أحاديثه في المنتديات التي انضم اليها ..لم يكن متحدثا بارعا أو جذابا لكنه بدا طيب السريرة وليس بالخبيث الوصولي …كنت معجبا بعارف دليلة منذ أن قرأت له كتابه الجامعي “تاريخ الوقائع والأفكار الاقتصادية” الذي أدخلني لفهم شيء من تاريخ علم الاقتصاد ومن خلاله عرفت روبرت مالتوس والنظرية المالتوسية وآدم سميث وآدم موللر وجان باتيسيت ساي وشارل كينز وغيرهم ..وحتى هذه اللحظة أحس أن انخراط عارف دليلة في نشاط هذه المعارضة سببه المرارة التي أحس بها من ادخاله السجن بلا مبرر قوي ..وربما تعاطفت معه في مرارته لكنني لاأستطيع على الاطلاق أن أتفهم انضواءه تحت هذه المعارضة الخطرة ذات الأنياب والمخالب وذات أخلاق قطاع الطرق ..والمنكّهة بطعم الموساد وعزمي بشارة وطعم آل خليفة وطعم بندر والمذاق العصملّي..انها سقطة وخذلان لنا من عارف دليلة الذي لايزال لدي شعور أنه سيتغلب على مرارته وينتصر لشعبه ولنبله وفطرته الريفية فقط..قبل أن يفوت الأوان..هو وقلة قليلة جدا معه اعتقد بقوة أنها مأخوذة بالأضواء وستستيقظ وطنيتها من غيبوبتها

تضفي المعارضة صفة القداسة والطهورية على المعارضين الذين تعمدوا بالنفي والسجن والمحاكم العسكرية ولكن – ومع اعتراضي على سياسة الاعتقال لأسباب سياسية أو لقول الرأي – فان هذا ايضا تجاهل لحقيقة أخرى وهي أن بعض هؤلاء المعارضين لايتمتعون بالحياة النظيفة على المستوى الشخصي وأن محنتهم السابقة مع السلطة لاتعني طهوريتهم وقداستهم على الاطلاق ولاتعني أنهم يتمتعون بالنقاء والصراحة مع الذات وأنهم ليست لهم مطامع النفس البشرية وأخطاؤها ..ولذلك ليس من الضروري اللحاق بهم لأن الطريق التي قد يقودوننا فيها ليست بالضرورة هي الصحيحة ..بل عندما نقترب من السير الذاتية لبعض هؤلاء المعارضين نحس بالنفور والاشمئزاز … ورغم أن لاأحد يستطيع “أن يرجم أحدا بحجر لأنه يزعم أنه بلا خطيئة” فان المعارض الذي يحمل همّ الوطن يجب أن يكون نقيا ونظيفا حتى في حياته الشخصية بحيث لايستطيع أحد رميه بحجر لأنه يمثل أقصى درجات الزهد والنبل والعطاء والشرف فهو يقدم نفسه وليا لأمور الأمة التي يمثل ألمها وطموحاتها وولي الأمر يجب أن يكون قدوة ..ويكفي في الغرب أن تظهر هفوة أخلاقية لسياسي حتى ينتهي الى الابد رغم كل الحريات الشخصية والجنسية في الغرب ..ولكن في معارضاتنا هذا مغيّب ..فمثلا أعرف ان أحد المعارضين وهو متزوج وله أولاد لكنه كان يطارد الفتيات كمراهق لمغامراته وقد اشتكت لي منه صحفية شابة عربية كان يعمل معها ويراودها عن نفسها بالحاح.. لاأستطيع الخوض في الفضائح والأسماء لأنها ليست شيمتي وليست وسيلة محترمة للمناظرات والمماحكات السياسية ولذلك لاأستطيع ذكر اسمه ولكن صحفيا عربيا معروفا بصدقيته كتب عن أحدهم وسماه بالاسم –الذي أنأى بنفسي عن ذكره الآن- وعرّج على الموقف التالي:

“..السيدة سعدية العجوز الشمطاء البالغة من العمر اكثر من سبعين عاما لم تكن في حقيقة الامر اكثر من” قوّادة” حولت شقتها الى وكر لاصطياد الزبائن ولم يكن فلان (المعارض؟؟) على اي حال زبونا فقد اكتشفت انه (طبّق) العجوز وانه كان “يدقّ” بها في مقابل ان يقيم في شقتها مجانا … ولما اخذت عليه هذا الامر واعربت له عن “قرفي” من شكل العجوز الشمطاء سعدية التي تجلس الى جانبه على السرير بقميص نوم تظهر من خلاله عظامها التي أكل عليها الدهر وشرب- فقع (هذا المعارض؟؟) من الضحك وشفط رشفة من زجاجة الويسكي وقبّل سعدية من رقبتها قبل ان يقول لي : انت حمار وما بتفهم بالنسوان…” !!

وقد خضت نقاشات حول الشأن السوري سابقا مع بعضهم وحول الأحداث السورية وكان بعضهم في الجدال يستعين بالكذب ويحاول اقناعي بالتحايل بالانضمام للمعارضة ولكنني عندما كنت أسألهم الأسئلة الصعبة كانوا يتعثرون ولايستطيعون الاجابة ويتلعثمون لأن فلسفة الثورة غامضة وأهدافها وداعميها مجهولون وأما مابعد الثورة فهو مالايستطيعون معرفته .. ولأن الانتظار لثلاثة أشهر لاختبار الاصلاح لم يعد ممكنا بنظرهم أدركت أنهم ليسوا بأصحاب مشروع سوري ثوري بل مشروع سوري-غربي وعند المصارحة والاعتراف كانوا يقرون أن “بعض” فعاليات الثورة عنيفة ويرمون باللائمة على من يسمونهم “أوباشا وأنذالا ” التصقوا بالثورة و”لوثوها”..ولكن كانت ألسنتهم تتحجر في أفواههم عندما كنت أقول لهم انني مستعد للانضمام للثورة اذا ماخرج بيان من ثورتكم يتبرأ ممن يمارس العنف باسم الثورة ويدينه..ويعتذر للشعب عن كل الضرر الذي لحق من أخطاء الثورة ويتعهد بمحاسبته كما نطلب من السلطة محاسبة رجال الأمن المخطئين ..وهذا موقف أخلاقي لانقاش فيه..

ومن بين كل الشخصيات التي ظهرت في المعارضة السورية لم يلفت نظري شخص مثل برهان غليون لالشيء، فلا هو بالكاريزمائي ولا هو يتمتع بموهبة الحديث الجذاب الممتع.. بل أحس بالارهاق كلما استمعت له بسبب تلك النبرة المتواصلة في صوته ومن غياب الفواصل والنقاط والاستراحات في جمله التي يلقيها علينا في “اطلالاته” الكثيرة..لكن لفت غليون نظري لكثرة الاشارة الى عمله الأكاديمي واستظلاله تحت فيء اسم السوربون..

أنا لاأعرف الرجل وليس بيني وبينه عداوة ولا خصومة ولاأنوي بالطبع منافسته على أي مكان أو كرسي يتربع عليه في المعارضة أو سيتربع عليه..ولكن الرجل يستحق أن نبحث عنه طالما أنه يقدم نفسه مخلصا للأمة ومنقذا لها..والشعوب عندما يتقدم لها منقذون ومخلصون يجب أن تدقق في سيرهم وامكاناتهم لأن نقل الأمم من مرحلة الى أخرى لايجب أن تترك للمتبرعين وللغوغائية وللعواطف والرومانسيات الحقوقية بل للانتقائية الصارمة والا وقعت في الفخاخ والأخطاء..

مشكلتنا في الشرق أن الألقاب تخدرنا كالمورفين فمابالك اذا كانت هذه الألقاب كبيرة ..هذه حالة نعرفها فكم التقينا أناسا تسبقهم ألقابهم الينا كتروس ودروع تحميهم من تطاولنا عليهم أو تساعدهم في التسلط علينا أو الضحك على ذقوننا..فهذا فلان ابن فلان وهو من الشخصيات الموثوقة من الرئيس أو نائب الرئيس …ويتصرف على هذا الأساس ويلقى المعاملة على هذا الأساس ولكن عند الامتحان نكتشف أنه مدّع وأن حاجب الرئيس لم يسمع به فما بالك بالرئيس..

وكم التقينا أناسا زائرين من الغرب يلثغون بالفرنسية والانكليزية ويتكلمون العربية بصعوبة لأنهم كما يقولون أساتذة في الغرب وقد نسوا العربية جزئيا فيطعّمون حديثهم ببعض العبارات الأجنبية ليتحدثوا لغة هجينة مضحكة.. ولكن ماان يصيبهم انفعال ويضطرون للجدال والمفاصلة أو للشتائم حتى تخرج منهم المصطلحات العامية أو الشتائم عربية خالصة غيرمخلوطة بالغربة ..صافية لم تمس أصالتها مما يستدعي سؤالا عن مدى الصدق في الادعاء انهم لايمثلون عندما يرطنون بهجين الكلام العربي المفرنج..

ولاأزال اذكر صديقا كان كلما زارنا في سنوياته من باريس وهو يلبس الأزياء الجميلة وآخر موضة واحيانا قبعة أوروبية هرع الأصدقاء للقائه والتبرك بباريسيته واستشارته وتنهال عليه الدعوات السخية حتى يزدحم جدول زيارته بالدعوات ولايشتري طعاما لأنه قلما لايحل على مأدبة غداء أو عشاء حتى أن وزنه يزداد في نهاية الزيارة ويضيق خصر بنطاله عليه..وشاءت الأقدار أن أزوره في عرينه الباريسي ففاجأني أنه يعمل عملا متواضعا في احدى الشركات ويستأجر “غرفة واحدة ونصف” في حي متواضع ..وكل الهيلمان والكهرمان في دمشق تبخر لحظة لقائنا…وأستطيع أن أقول ان كل أصدقائه يعيشون في دمشق رفاهية ودلالا ونعمة لن يقدروها حتى يزوروه في عرينه..الباريسي

منذ أن بدأ برهان غليون ثورته السورية مع رهط الاخوان وجدت أن من المفيد الاطلاع على الرجل خاصة أنه يقدم وباعتزاز على أنه أيقونة الثورة السورية ودماغها النير ومصدر فخرها ..لسبب واحد أنه يقدم نفسه على أنه رئيس مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون الشهيرة في باريس..وهو علاوة على ذلك استاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة ..

ولمعرفة شخص كهذا لابد من الاطلاع على انجازاته العلمية وأبحاثه ومكانته في السوربون لان من يتابع مواقع الثورة السورية يجد أنها تقدمه على أنه فلتة زمانه وأن باريس ستهتز لخروجه منها الى دمشق وأن علم الاجتماع السياسي سيتوقف اذا غادر برهان غليون باريس..

في الحقيقة لايمكن تجاهل أن غليون شخص مثابر يعمل في مجال أكاديمي وفي حقل الدراسات الانسانية بل ولاشك أن وصوله الى العمل الأكاديمي في السوربون يدعونا جميعا للثناء عليه ..ولكن هذا يكفيه ولايعني ان يعامل عى أنه رجل خارق مع أن الاعلام ينفخ في الرجل ويزيد من تصويره على أنه رجل غير عادي..

ولذلك قررت القاء نظرة فاحصة على مكانة الرجل العلمية في السوربون ..نظرت الى مؤلفات الرجل فوجدت أنها محدودة في مجموعة كتب عربية منها “المأساة العربية: الدولة ضد الأمة” وكتاب “اغتيال العقل” و كتاب “نقد السياسة: الدين والدولة”.. حتى أن الكتب التي كتبها غليون بالعربية لم تكن الا وجهات نظر ولم تحمل صفة الكتب العملاقة التي تلد نظريات كبرى أو صغرى مثل كتب محمد عابد الجابري أو الفيلسوف محمد أركون ..ان أي دارس للدكتوراه يكتب في أطروحته كتبا بنفس القيمة العلمية لكتب غليون ولكن قلما تشرئب قيمة هذه الاطروحات لتكون نظريات ضخمة انقلابية في العالم والحياة..وأقول بثقة ان في الغرب على الأقل عشرات الشخصيات العربية والسورية التي تفوقت عليه علميا لكنها مشغولة بأبحاثها وليس بطموحاتها السياسية ..كما أنها لاتلاحقها الجزيرة والعربية والأضواء..

وعندما قررت الاطلاع على عدد مؤلفاته باللغة الفرنسية وجدتها متواضعة بمقارنتها مع انجازات أساتذة في نفس الاختصاص..وفي نفس القسم الذي يعمل فيه..ولاحظت أنه يقدم نفسه على أنه رئيس مركز دراسات الشرق المعاصر ولكن لاوجود لموقع على الانترنت باسم هذا المركز الا ماوضعه برهان ملحقا باسمه، أو على الأقل فشلت في العثور على ذلك الموقع الذي يفترض أن يشرح طرق الاتصال به ومعرفة أبحاثه ونشاطاته العلمية، وأغلب الظن أن الموضوع لايعدو كونه وظيفة بحثية في مكتب في الجامعة لكن تسميته مديرا للمركز يعني للكثيرين من العرب والسوريين الشيء الكثير ويضفي هالة من الاحترام الشديد لمكانته .. وأخشى أن يكون هذا المركز مكونا من بضعة موظفين صغار وهو يدير عملهم..أقول هذا لأنني عشت في الغرب سنوات وأعرف كيف تطلق المسميات على المراكز أحيانا ..وأذكر حادثة لاتفارقني عندما وصل أحد الطلبة الأتراك للالتحاق بالجامعة ذات السمعة الكبيرة التي درست بها في فرنسا ولما التقى برئيس القسم طلب مني الأخير اصطحاب الطالب التركي الى ماكان يسمى “مركز أبحاث العلوم…” وبالطبع كان المركز مجرد غرفتين صغيرتين ملحقتين بالجامعة فيهما بعض التجهيزات المختبرية .. لكن كل الشروط الموضوعية والظرفية المطلوبة للبحث متوفرة فيهما..ولما وصل اليه الزميل التركي دخل الغرفة الصغيرة وبدأ يتلفت…ثم نظر الي مستغربا وقال: أين هو مركزالأبحاث؟ فأشرت الى اللوحة على الباب وقلت: أنت الآن في المركز..فبدت عليه الصدمة ..قادم من تركيا وقد سمع في النشرات العلمية عن التجارب العلمية الممتازة في هذا المركز واعتقد أنه سيجري دراسته في مبنى عملاق فيه عشرات ومئات الموظفين..فاذا به في غرفة صغيرة ومع موظفة صغيرة لتساعده…وسيكتب أنه أجرى أبحاثه في ذلك المركز..

الأغرب من ذلك أن غليون شخص مليء بالتناقضات وماقاله بالأمس يمحوه اليوم فمثلا قام شخصيا بالتهجم على قناة الجزيرة عام 2007 لأنها كما قال منصة المتدينين الذين يسيطرون على 90% من الاعلام العربي وهذا مايستنكره ..لكنه اليوم يخاطبنا من على منصة الجزيرة ويكتب لنا على موقعها ولايبالي بقرضاويها وفتنه وفتوى (ومالو) بل ويعرف غليون أن ثورته السورية تنطلق من المساجد وتحديدا أيام الجمعة ..ومع هذا قرر أن يصير رئيس الثورة ..لاحظوا في هذا الرابط ماذا يقول عام 2007 عن الجزيرة والاسلاميين الذين يراهم عقبة في وجه المجتمع:

فالجزيرة التي هي أهم أهم قناة عربية برأيه هي تحالف أسود بين الديكتاتوريات والتيارات الدينية حيث يلغى المفكرون والمثقفون لصالح الحركة الدينية وهذا لايبني مجتمعا حسب غليون “الثائر” نفسه..

ومما يردده غليون في كتبه، رأي يكرره كثيرا وهو ان المجتمع العربي مليء بأناس سذج تحبط نصفهم الأمية الأبجدية، فلا يفكّون الحرف أصلاً, وتعصف بنصفهم الذي يقرأ الأمية الثقافية التي تجعلهم لايختلفون بل يتساوون مع من لا يقرؤون. وهؤلاء وأولئك يصفقون ويهللون لمن يتلاعب بالعواطف ويخلق انتصارات زائفة, ويبيع الأوهام على عتبات القنوط والإحباط الجماهيري… ومايخشاه غليون في كتاباته هوكما يقول أن يحدث الآن نزاع بين الحكومات والأحزاب التي لاهمّ لبعضها سوى الزام البنات بالحجاب ولبعضها الآخر نزعه عنهن بالقوة ..وهذا برأيه لن يعني سوى انحدارنا وانحطاطنا إلى أدنى درك أخلاقي وبشري ..وتدمير وتخريب آخر ما تبقى من قيمنا العقلية والروحية واحترامنا لتاريخنا ولأنفسنا..

برهان يقول ذلك بعظمة لسانه ..وعلى الطرف الآخر من ثورته، العرعور وجمهوره ودبّيحة دير الزور ودبّيحة حماة ودبّيحة جسر الشغور ودبّيحة درعا (كما رأينا بالعين المجردة ذبائحهم في كل تلك المدن)..بل ان شيخ الدبّيحة في درعا الشيخ الصياصنة هو عضو في المجلس الانتقالي الذي يترأسه غليون نفسه ..كما أن المحرك الرئيسي للأحداث في سوريا هو صقور تنظيم الاخوان المسلمين وبالذات رياض الشقفة..وبرعاية تركيا “الاسلامية” ..

لاأدري ماذا أسمي ذلك الطيران الغليوني من علم السوربون الى علم الدبّيحة وعلم الفتاوى والمجتمع الديني..وبرهان لايزال صامتا عن كل النزيف والجهل الذي ينطلق أيام الجمعة مناديا بالطائفية وملوحا بالموت لكل من يعترضه..وأنا على يقين أننا اذا ماأرسلنا بعضا من صور الهمجية الثورية الدينية في سوريا الى مكاتب السوربون – نوفيل -3 لتعريف الفرنسيين بالثورة التي يقودها استاذ السوربون العقلاني لقامت مظاهرات ضده في الجامعة نفسها وأرغم على الاستقالة من منصبه الذي صار متناقضا مع طموحاته السياسية..

مايحز في نفسي أن أرى برهان غليون قد استدرج بشكل يستدعي الرثاء الى هذا الحفل الدموي وقرر أن يصم أذنيه عن أي مبدأ من مبادئ الديمقراطية ..الشعب السوري في غالبيته ليس مهيئا لهذه القيادات المتهورة والشعب السوري قال كلمته في مظاهرات لم يرغم عليها، محتجا على طروحات برهان وغيره ..ومع هذا يصر برهان بعناد على الغاء العقل والمنطق والمحاكمة العقلية ويمارس بالحرفية ماكتبه يوما عنوانا لكتابه الذي سماه (اغتيال العقل)..

———————-

مشهد طريف من مجلس “المبعوثان” العثماني الشبيه بالسوري

كتب نصرت مردان

كان مشهد مجلس “المبعوثان” الذي يضم نوابا من كافة الولايات العثمانية المترامية الأطراف ، يعكس التعددية الدينية والأثنية تحت المظلة العثمانية . وقد تحول المجلس بسبب ذلك إلى مسرح لا يخلو من الطرافة أحيانا، من جراء اجتماع الهويات المختلفة تحت سقف المجلس (مثل عدم تناغم المجلس الانتقالي السوري)..

الشيخ أسعد نائب حلب كان من الشخصيات الطريفة، إلا أنه تعرض إلى النفي من قبل السلطان عبدالحميد الثاني، بعد محاولته إشاعة أنه يجيد قراءة الطالع ومعرفة ما يخبئه المستقبل في محاولة منه للتقرب من القصر العثماني، إلا أنه ما لبث أن أعيد إلى المجلس بعد استلام حزب الاتحاد والترقي السلطة. وكان يجاوره في مقعده بالمجلس نائب بغدادي لا يجيد التركية ..وكان البغدادي غالبا ما يغط في النوم أثناء المناقشات ، وعندما كان يستيقظ ،كان يخاطب الشيخ أسعد قائلا:

ـ ماذا تقرر اليوم ؟

وكان الشيخ أسعد يوجز له في كل مرة مادار في المجلس من مناقشات، وما اتخذ فيه من قرارات . وكان صاحبنا البغدادي، ملحاحا في أسئلته اليومية إلى درجة أثار فيها سخط وتذمر الشيخ أسعد، الذي قرر أن ينتقم منه بعد ان سئم من إلحاحه في السؤال.. .

في أحد الأيام غط النائب البغدادي في النوم كعادته بعد اشتداد حمى النقاش في المجلس ، وعندما نهض من نومه على صوت تصفيق النواب، سأل الشيخ اسعد سؤاله التقليدي اليومي، فما كان من الشيخ إلا بادره إلى القول:

ـ ألم تعلم ماذا تقرر في جلسة اليوم ؟

ـ ومن أين لي أن أعلم ؟ قل لي أنت ماذا تقرر ؟

تنحنح الشيخ أسعد قليلا قبل ان يقول:

ـ لقد قرر المجلس تخصيص وابورين (باخرتين) لكل ولاية!!

امتقع لون صاحبنا وهو يتساءل:

ـ وحصة ولاية بغداد ؟!!

ـ لقد كنت نائما وفاتتك الفرصة .. حيث لم يمنح المجلس حصة للنائب الذي لم يتقدم بطلب

وهنا نال الغضب من النائب البغدادي مأخذه ، فانتصب واقفا وسط القاعة وأخذ يصرخ بأعلى صوته بالعربية:

ـ أربعة وابورات لدجلة والفرات ..أربعة وابورات لدجلة والفرات

ترى كم واحدا على شاكلة البغدادي يحوي المجلس الانتقالي السوري الذي تشكل في أنقرة؟…لاتقولوا الفرق كبير..كلا المجلسين يديرهما السلطان العثماني ..والأعضاء بنفس المواصفات ..والسلطان اليوم هو القبضاي رجب طيب أردوغان الذي وياللمفارقة يعاكس التاريخ القريب..ففي بداية القرن الماضي تحالف العرب سرا مع الغرب (الانكليز) لاسقاط الدولة العثمانية وكان وسيطهم لورنس العرب ..واليوم ومع بداية القرن الحادي والعشرين تحالف العثمانيون سرا مع الغرب (انكليز وأمريكان) لاسقاط الدولة العربية الوحيدة الباقية مستقلة من آثار تلك المرحلة السابقة لاحياء حلم عودة العثمانيين … ولورنس الأتراك هو ..برنار هنري ليفي..والعرب أكلوا خازوقا من ذلك التحالف في الماضي ..ولاشك أن الأتراك سيتذوقون طعم الخازوق عندما يعرفون ماذا يعني أن يخسروا سوريا التي لن تعود اليهم لابالحرب ولابالخديعة..عجيب هو التاريخ كيف يعيد نفسه بالمقلوب..

هذا المنشور نشر في المقالات وكلماته الدلالية , , , , , , , , , , , , , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s