التاريخ ليس دائما عن حكايات الهزائم والانتصارات وقصص الموت والحياة ..فالتاريخ وهو يروي لنا الحكايا يستريح أيضا من حديث أهوال الحروب والانقلابات والهزات، ويجلس ليحدثنا في استراحاته عن كاريكاتيرات تاريخية ومهرجين لايتخلى عنهم التاريخ فبدونهم لاتحلو الحكايات ولايتبدد سواد الأحداث ..ولعل أكثر مايجعل التاريخ يضحك بصوت عال هو أولئك الذين يحبون أن يلعبوا دور الأساتذة والوعاظ الناصحين وهم دراويش أميون ..ولكنه يضحك أكثر حتى تحمرّ وجنتاه وتنفخ عروق وجهه عندما يحدثنا عن أولئك الذين يعانون من العنانة وهم يريدون اظهار فحولتهم فيبعثون زوجاتهم الى فراش الباشا..ليحملن لهم منه..كي يبدو للناس أنهم فحول ورجال وتحبل منهم النساء ..وهنا يقصد التاريخ بالقول “المستأسدين علينا بالناتو” ..ثوار عنينون يريد أن يظهروا لنا فحولتهم فيتباهون بفحولة سيدهم وخصيتيه ..والتاريخ يتوقف عن الضحك لحظات ليقول: من كان فحلا فليظهر فحولته في فراشه ..ففحولة الناتو له وليست لكم…وأبناء ثورتكم “زوجتكم” التي شهدت فحولته هم أبناؤه ..ثم يغرق التاريخ في نوبة ضحك لاتنتهي..
منذ أن بدأت أحداث الشرق الأوسط والنزاع العربي الاسرائيلي في بدايات القرن الماضي ظهر لدينا الى جانب مآسيه وهزائمه هذا الخليط والفئة التي حدثنا عنها التاريخ من الوعاظ الأميين وعشاق دور الأستاذ الى جانب فريق العنينين ..هؤلاء يظهرون فجأة بعد الكوارث والملمات لأنهم يدعون أنهم يرون مالانراه .. ويكون نصحهم غالبا محشوا بالوعيد والتهديد والتخويف وغايته انتزاع شأفة العنفوان فينا..هؤلاء ليسوا الطابور الخامس بل هم الطابور السادس لأن الخامس هو الذي يتولى كل المهمات القذرة السرية التي تهيء للعدو الاختراق على الأرض أما هم فيتولون مهمة لاتشبهها الا مهمة الزبالين الذين على عكس زبالي العالم يقومون بجلب القمامة وتوزيعها على الاحياء والمنازل لجعل السكن فيها لايطاق وهؤلاء لايشبهون الا الدود الذي يأكل الموتى ..لاينشط الا على الجثث ..والجيف …لا لشيء الا ليذكرنا بحكمة أن كل نفس ذائقة الموت..
فعندما هزم المشروع القومي للرئيس عبد الناصر عام 67 نهض هذا الدود على جثث الجيوش العربية المهزومة وجثث السلاح العربي المقتول ..هؤلاء أعادوا على الأمة الدروس وذكروها بالعبر التي تستنبط من هزيمة عبد الناصر..القومجي وصاحب الخطابات الذي كلفتنا خطاباته وعنترياته الكثير.. وكانت هذه الديدان تتلوى في شماتة لاتوصف على جثة مشروع قتلوه طفلا يحبو..وقالت هذه الديدان: ان عبد الناصر لم يستمع لنصح الناصحين بأن أمريكا هي المحور الكوني ..فلقي جزاءه ..فاتعظوا ياأولي الألباب..واتعظ السادات فورا..
وعندما سقطت بغداد وهزم الرئيس العراقي صدام حسين أعاد هؤلاء ظهورهم كما توقعنا وسمعنا هسهسات الدود الذي يقتتل على وجه بغداد وفحوا فحيحهم لاضعاف هممنا ووعدونا أننا سنشرب من نفس الكأس الذي تجرعه نظام الحكم العراقي ..كيف لا ونحن النصف الآخر من البعث (في سوريا)..ولم يكن الرئيس بشار الأسد بحاجة آنذاك الى كولن باول ليأتي الى دمشق لابتزازه وتهديده وعرض خرائط الأهداف التي ستهاجم في سوريا -كما كشف مؤخرا- في المرحلة الثانية من اجتياح الشرق الأوسط لأن رسالة باول وصلت بسرعة قبله وبأمانة عبر الكاتب الكويتي أحمد الجار الله عندما كتب مقالا قال فيه: ان على طبيب العيون في دمشق أن يتبصر ويرى مصير نظام الحكم العراقي ..انها موعظة لمن يتعظ !! وبالطبع كان فريق الانشاد الصحفي العربي يردد ذلك بنشوة وشماتة..واتعظوا ياأولي الألباب..انها الأيام الأخيرة لسوريا..
وعندما اغتيل رفيق الحريري شمر القبضايات اللبنانيون عن سواعدهم ثم …توعدوا وهددوا بأنها الأيام الأخيرة لدمشق …ثم …أنزلوا سروال جورج بوش ليظهروا لنا “فحولتهم”..ولم يعرفوا أن بوش ترك فحولته معلقة في العراق .
وهكذا كلما وقع حدث جلل نظر الينا القبضايات مبتهجين بعيون تقول ..الآن جاء دوركم ..وانها أيامكم الأخيرة …واليوم وفي الهجوم الغربي على ليبيا يرقص فريق الانشاد ذاته بنفس ديدانه التي تقتات على جثث الليبيين وعيونه تنظر الى سوريا علها تتعلم الدرس .. وتتلوى هذه الديدان وهي تتوتر وتتحرك بحركات مقوسة سريعة نحو الجسد الليبي وهي تنظر الينا جذلى علّنا ندرك حكمتها وبعد نظرتها..ومن جديد أهل العنانة يباهون بفحولة سيدهم ..
مشكلتنا مع هؤلاء أنهم يعتقدون أننا نفكر مثلهم وهم يفكرون على طريقة حمار الوحش الحائر في ألوانه فلا هو أبيض مخطط بالأسود ولاهو أسود مخطط بالأبيض فان انتصرت رايات اللون الأبيض قال أن لونه أبيض مخطط بالأسود وان انتصرت رايات اللون الأسود قال ان لونه أسود مخطط بالأبيض ..هؤلاء انتهازيون لايستطيعون أن يقودوا قطيعا من حمير الوحش ولاأن يديروا محمية طبيعية في تنزانيا فما بالك بقيادة أمم وأجيال وانهاض المشاريع الكبرى التي تحتاج همما عذارى محرّمة على الهمم الكسالى ..
ومع هذا سننفق بضع دقائق نتحدث مع عرب ومعارضين “مخططين بالأبيض والأسود !! ” ويرتدون كوفيات بيضاء مخططة بخطين أزرقين وبينهما نجمة سداسية زرقاء (!) .. وسنقول لهذه المخلوقات الوديعة:
ماحدث في ليبيا لم يفاجئ أحدا.. فالعقيد لم يكن لديه جيش جرار ليحارب به جيش اسرائيل والعقيد لم يكن في منظومة دولية متماسكة .. بل ان خطأ العقيد أنه مد يده الى الغرب ووثق به آملا أنه يتجنب شروره وأصعد ساركوزي وتبرع بمفاعلاته النووية ولزم جانب الهدوء وابتعد عن الدب الروسي .. وتخلى العقيد كذلك عن تكوين منظوماته القوية بعد أن خذله العرب وبالطبع ليست المنظومة الافريقية بالتي يعتمد عليها لضعفها كما أن منظومة أميريكا اللاتينية لاتستطيع مساعدته لبعدها الجغرافي..أصدقاء العقيد مشتتون .. وأصدقاؤه الجدد مثل بلير وساركوزي وبيريسكوني دخلوا بيته عندما فتحه لهم ..وهؤلاء لصوص ومحتالون دوليون سرقوا مفاتيح خزائنه وأسراره..
ودخول المعارك الى طرابلس لم يكن ببطولة ثوارها بل بقصف الناتو العنيف لقوات القذافي..بطولة الثوار تشبه بطولة العنين بفحولة سيده التي حدثنا عنها التاريخ ..وتشبه كذلك فروسية أحد شيوخ العرب الذي توّج بطلا في الفروسية ورفع الكأس عند اعلان الفوز لأن حصانه الذي اشتراه هو من فاز بالسباق الدولي علما أن الحصان انكليزي والفارس الذي ركب الحصان في السباق كان انكليزيا (واسألوا أسامة فوزي عن هذا السباق وهذا الفارس …لأن فوزي سخر من هذا النصر وفش قلبنا اذ أنهى تعليقه على هذه النتيجة وهذه الفروسية في أحد مقالاته وقال بالحرف: **** على هيك بطولة وهيك بطل !!)..
وبالمقارنة تمكن النظام السوري من بناء منظومة متماسكة للغاية مبنية على التحالف والتخادم الاستراتيجي فلم يتخل عن الروس ولم يتخلوا عنه يوما رغم فترات فتور قصيرة متقطعة لم تصل الى حد التضحية بالحليف ..أما الغرب فلم نثق به مطلقا ولم نسمح له بدخول حديقتنا ناهيك عن بيتنا .. والتحالف القوي الآخر هو التحالف مع ايران .. أما التحالف مع تركيا الذي سقط بالطبع تبين أنه لم يكن تحالفا بل كان هناك حفلة تعارف ..وخطوبة .. وقد تعارفنا وكفى الله المؤمنين شر المعرفة..وشرالزواج من “أم صخر”..
لاأدري ماهي الحكمة من اضاعة الوقت مع هؤلاء الذين لايزالون يعتقدون أن الغرب آت الى ضفة البحر المتوسط الشرقية وأن الساعة السورية آتية لاريب فيها لأن مهمة القضاء على القذافي أنجزت وقد تفرغ الحلف كليا للوضع السوري..وكأن حلف الناتو كان قد زج بكل قواه لقتال القذافي ولم يكن لديه فائض لتوزيع الموت على السوريين..
العارفون بطبيعة التدخل العسكري في ليبيا يعرفون أن الناتو لم يخصص للقتال في ليبيا الا بضع قطع حربية تولى عملياتها -بشكل مباشر- بضع مئات من العسكريين..ولم يتورط الناتو أو يغامر في النزول على الأرض الليبية وترك مهمة الاحتكاك والموت لليبيين الذين تقاتلوا كما تقاتلت القبائل العربية في الجاهلية..بشكل لايصدق ..باسم الحرية والثورة
ولأن مصطلح “هذه الدولة ليست كتلك” أي سوريا ليست ليبيا يثير حفيظة الآخرين وسخرية العنينين فسنقول شيئا آخر أكثر دقة قد يفهمه الأساتذة الناصحون،وهو ما يقول الفيلسوف هيراقليطس:.لاجديد تحت الشمس ولكن لايمكنك أن تقفز في النهر الواحد مرتين …والشاطر يفهم مقصد هيراقليطس
ولعلم العنينين الذين يباهون بفحولة الناتو نقول ان تحطيم القوة العسكرية السورية سيحتاج حجم قوات يعادل ضعف حجم قوات غزو العراق لاحداث هزيمة محققة …علما أن فاعلية سلاح الجو الأطلسية ستكون أمام امتحان صعب أمام بطاريات صواريخ س 300 التي يعتقد على نطاق واسع أن الروس زودوا السوريين بها … والناتو يعلم ماذا يعني للطيار أن يعلم أنه قريب من مجال رادارات س 300 .. والناتوكذلك تذوق طعم الصواريخ البحرية على جسد المدمرة الاسرائيلية ساعر وهو يعلم أن صواريخ ياخونت الروسية ستكون بانتظار بوارجهم على الضفة الشرقية للمتوسط بمدى 300 كم والتي يمكن أن تزود به طائرات من طراز ” ميغ – 29″..صاروخ لا يتوقع الخبراء ان يشهد العالم مثيلا له خلال السنوات العشر القادمة على اقل تقدير..الصاروخ الذي تتعوذ من سماع اسمه كل قطعة بحرية وكل بحّار….ولذلك سينتظر الطابور السادس السوري كثيرا ولن يصل اليه الاسطول السادس
على كل حال ان كان هناك من درس نتعلمه من أعدائنا هو أنهم يعملون بجد ليل نهار وبلا كلل وبلا يأس فلا يكاد يمضي عام الا ولديهم أفكار جديدة ومشاريع ..وجهدهم في مؤسسات البحث ومراكز أبحاث السياسات يستحق الاعجاب والثناء…عمل متواصل لايهدأ ولايعرف له قرارا ولااستقرارا ..عقول تعمل دون توقف وبلا استراحات ..هم نظفوا بلدانهم من الأساتذة والناصحين الدراويش وأبقوا على الأساتذة ذوي العقول ونظفوا ثقافتهم من ثقافة العنانة ودود الأموات…ولذلك يستحق منا هذا الاعداد أن نعد أنفسنا جيدا ..وأن نعمل ليل نهار وبشكل متواصل لايكل ولايعرف اليأس ..وأن نضع أمامنا أن من هزم في أحد لم يهزم في الخندق…وأن الموسوسين في صدورنا حاولوا كثيرا اثناء الرعيل الأول عن مهمته لكنهم لم يوقفوا صوت “اذا جاء نصر الله والفتح”..من أن يهدر في مكة بالأمس..وأن يهدر في القدس غدا
الطابور السادس في انتظار الأسطول السادس
هذا المنشور نشر في المقالات وكلماته الدلالية قطر, نارام سرجون, أمريكا, أوروبا, أردوغان, إسرائيل, اﻷخوان المسلمون, اﻹرهاب, القرضاوي, المعارضة السورية, الأسطول السادس, الثورة السورية, الجيش العربي السوري, الجزيرة, الرئيس اﻷسد, السعودية, الشرق اﻷوسط, الصحف, العرعور, بشار اﻷسد, تركيا, جماعات مسلحة, جسرالشغور, حمد, عبدالحليم خدام, عزمي بشارة. حفظ الرابط الثابت.