آراء الكتاب: حكواتي خارج مقهى النوفرة – بقلم: محارب قديم في الجيش العربي السوري

يكثر في رمضان الساهرون السامرون ، بعد صلاة التراويح ، في قهوة النوفرة لصاحبها الحاج المرحوم ابو عبدو الرباط حيث يتصدر المكان الحكواتي ابو تيسير الحواط جالسا على عرشه بوقار وعلى رأسه طربوش أحمر ذو ذؤابة سوداء طويلة وفي يده اليسرى كتاب أكل الزمان عليه وشرب وفي اليمنى يلوح بسيف دمشقي قبضته مزخرفة و مرصعة والجالسون المستمعون حوله في صمت و ترقب ولهفة لسماع حكايات أبو ليلى المهلهل والزير سالم و كليب وجساس وقصص عنترة ابن شداد و تابعه وصديقه شيبوب . صمت يتقاطع مع قرقرة الأراكيل و قرقعة اكواب الشاي خمير و فطير وصوت صديقي الشاب فهد ابن الحاج ابو عبدو صارخا لأحد عماله : وااااااااحد كمووووووون مع الليمون . تدخل مسرعا وانت خايف أن تكون قد تأخرت وفاتك أول حديث الحكواتي ابو تيسير الذي و بمهارة يتحكم بصوته الجهوري ، تارة يلعلع و أخرى يخفض نبرته تماشيا مع تصاعد الأحداث والمعارك و مصير أبطال الرواية وهو يلوح ويتلاعب بالسيف يمنة و يسرى

 

149679430692

والحاضرون مشدودة رقابهم إليه و أفواههم مفتوحة من الدهشة يتعالى صراخهم مهللين مكبرين عند انتصار بطلهم المحبوب او مستنكرين : يا باااااااااطل ، عند إنكساره او وقوعه عن فرسه بعد ضربة غدارة من عدوه . كل ذلك وبالكاد ترى وجوههم من كثرة دخان الأراكيل العابق في المكان مثل غيمة كانونية ذات عبق حلو شرقي يجعل راسك مختمرا أكثر من الإدعشري نفسه . اليوم سأكون أنا الحكواتي في سهرتكم و سوف أقص عليكم حكاية واقعية حصلت و جرت في العصر الحجري قبل انقراض الديناصور . هي حكاية حياة لا يعرفها ولم يعيشها أولادنا و أحفادنا ويمكن أن تكون بالنسبة لهم أسطورة خرافية . وهيك يا سادة يا كرام وبعد الصلاة والسلام على النبي العدنان ( على قولة الحكواتي اب تيسير ) :
حكايتي اليوم عن حبيبتي و معشوقتي حد الجنون ، سوريا . لكنها ليست سوريا اليوم ، سوريا الألم و الحزن العاصف و شلال دم الشهداء القديسين و دموع الثكالى و الأرامل و اليتامى والمشردين وااااأه حارقة لملايين المهجرين في الداخل وفي المغترب و مخيمات اللجوء العابر للحدود ، بل سأحكي لكم عن سوريا البهية الجميلة البسيطة الخيرة التي لا يعرفها أولادنا ولا أحفادنا ، سوريا الخمسينات و الستينات من القرن الماضي . كنت فتى صغيرا أنهى للتو مرحلة المدرسة الابتدائية أعيش مع أهلي في حي الميدان العريق منطقة المجتهد – بستان الفوال . كل ما كان يلي مشفى المجتهد والى مشفى المواساة والمزة عبارة عن بساتين و مزارع خضراء يتخللها جداول و سواقي مياه جارية نسبح فيها في خلسة عن أهلنا . يرسلني أبي إلى الدكان في الحاره ( لصاحبها مسللم ) لشراء نعارة لبن ٢ كيلو و ثمنها ليرتين و نص و ٦ بيضات ثمن الواحدة فرنكين و نص و قالب زبدة بربع ليرة . يأتي عيد الفطر السعيد بعد انتظار طويل و صيامي درجات المادنه و فرحتي لا توصف بالعيدية التي سيعطيني اياها ابي ، في اليوم الأول ٣ ليرات وفي الثاني ليرتين والثالث ليرة واحدة .

يعني كنت وقف عليه كل العيد ب ٦ ليرات ( أمي تعطيني بدون ما يعرف ابي كمان ليرتين ) . لا يمكن وصف شعوري بالفرح والخيلاء ٨ ليرااااااات بالعيد ليرة تنطح ليرة . المرجوحه فرنكين ، القلابه تلات فرنكات ، ابيلو جعيصو فرنكين ، دزينة فيتيش ربع ليرة ، صحن هيلطية مرشوش عليها جوز الهند ٣ فرنكات ، سندويشة فلافل مدعومة ربع ليرة مع قنينة كازوز سينالكو فرنكين من عند ابو معروف بياع الفلافل اللي كان يحول دكانه بالعيد الى سينما لأولاد الحارة الى جانب بيع الفلافل على الرصيف . تشتري سندويشتك و الكازوزه و تدفع فرنكين و تفوت عل سينما . الأفلام كانت تثير فرحتنا و ابتهاجنا الطفولي و صراخنا عندما ينتصر البطل ( كما في حكايات حكواتي النوفرة ) على الاعداء . كنت احب كثيرا فيلم ماشيستي في أرض السيكلوب ، و هرقل ( الممثل ستيف ريفرز ) ، زورو والسرجنت السمين الأهبل سانشيز ، و طبعا فيلم بطلي المفضل شازام ( نسخة عن سوبرمان ، قبل اختراعه ) . نفوت على سينما ابو معروف الصبح ما نطلع من عندو للظهر ، فيلم ورا فيلم مع استراحة ١٠ دقايق حتى تشتري سندويشة جديدة . نلعب قمار و نتراهن مع ولاد الحارة ، الدفع ربح و خسارة علكة ناشد اخوان او بابابي او شطي مطي او دحاحل مع ضرب ومعارك فيتيش . المهم كل هل بعزقة كانت تكلف ليرة او ليرة ونص ، يبقى معك ليرة ونص من ٣ ليرات اول يوم العيد وتاني يوم رح يعطيك ابوك ليرتين يا سلااااااام رجعوا بكرا ٣ ليرات و نص و صار بدها نزلة على سينما العباسية بالشام ٧٥ قرش بلكون و بعدها سندويشة فلافل عربي عند التجهيز و وراها صحن نابلسية جنب قهوة الهافانا و بترجع على البيت و لسا ب جيبك ليرة او ليرة و ربع و تالت يوم خرجيتك ليرة وهي صارو ليرتين وربع ، هدول غير ليرتين أمك اللي مخبيهم . تالت يوم بالحارة بتصرف مو أكتر من ليرة حتى يبقى معك بعد العيد ٣ ليرات كاملة ، هدول الهن شغل تاني مهم جدا و هو :
في زقاق الموصلي ، غير بعيد عن منزلنا ، كانت هناك دكانه صغيرة ١،٥ × ٢ متر هي مكتبة الحارة ، صاحبها رجل عجوز محني الظهر يبيع الجرايد و المجلات والقصص القصيرة و بعض الروايات الطويلة التي كان المحل يغص بها على الرفوف من السقف إلى الأرض ولم يكن هناك من فراغ سوى مكان يتسع الكرسي الصغير الذي يجلس عليه صاحب الدكان ( المكتبة ) . إلى جانب البيع كان يؤجر المجلات والقصص عن كل يوم فرنكين وهذا ما كنت اصرف لأجله أغلب المبلغ الذي وفرته لما بعد العيد . كنت زبون دايم عنده و مدمن قرأة المجلات و القصص القصيرة التي استأجرها من عنده واحاول قرأة المجلة او القصة في يوم واحد فقط لأتمكن من إعادتها إليه في اليوم الثاني حتى أوفر الفرنكات لأكبر عدد ممكن من المجلات و القصص . أذكر من مجلات أطفال ذاك الزمن الجميل : سمير ، بساط الريح ، تان تان ، سوبرمان ، أسامة ، مغامرات في الفضاء . ومن أحب القصص سلسلة اللص الظريف الفرنسي ارسين لو بين ، ومغامرات روبين هود و كلاهما كان لصا يسرق الأغنياء ليعطي الفقراء .

في العطل الصيفية الدراسية عملت في مهن عديدة مختلفة لتوفير مصروف الجيب خلال العطلة ، أذكر منها : بعد أن نجحت من الصف السابع إلى الثامن عملت في ورشة نجارة عند مدخل البناء الذي كنا نسكن فيه و يملكه جار لنا اسمه ميشيل و هو معلم نجارة موبيليا ، في السنة التالية اشتغلت عند نجار آخر محله ملاصق للاول يصنع علب ضيافة موزاييك وقد عملت عند كليهما مجانا لتعليم الصنعة ، في الصيفية الثالثة عملت في مطبعة سوريا أول شارع رامي بأجر يومي ليرة أي ٣٠ ليرة في الشهر و هو مبلغ لم أكن أحلم به . في صيفية العاشر حادي عشر سعى لي والدي بالعمل في فندق قطان عند جسر فكتوريا ، صبي مصعد ( اسانسير ) أحمل حقائب النزلاء إلى غرفهم وكانوا يعطوني بخشيش من ٣ إلى ٥ ليرات ، كنت اطير من الفرح عند وضعها في جيبي واستمتع برنينها وهي تسقط فيه ، أما راتبي الشهري في الفندق فكان ٦٠ ليرة ( ليرتين في اليوم ) ، ثروة لا يحلم بها أحد من أصدقاءي هذا إلى جانب الفطور و الغداء و العشاء المجاني . في الصيفية التي بعدها كررت العمل في نفس الفندق و بنفس الشروط . بعد النجاح في البكالوريا اتبعت في الصيف معسكر فتوة في طرنجه بيت جن بعد أن قدمت أوراقي إلى الجامعة وقبلت أدب انكليزي لحصولي على علامة ٢٨ من ٣٠ في المادة و لكن ……. كان لوالدي ( رحمه الله ) رأي آخر كضابط في الجيش العربي السوري فأرسلني إلى الكلية الحربية لأتابع مسيرته في الحياة . كان هذا في العام ١٩٦٩ لتبدأ معه حياة أخرى كليا ، ولهذا مقام ومقال آخر .

هذا المنشور نشر في آراء الكتاب, المقالات. حفظ الرابط الثابت.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s