هاهي الحرب تحكي حكايتها أو حكاياتها .. وتجلس أمامنا على كرسي الاعتراف .. وجهها ملوث بالدخان والحرائق وعلى ثيابها بقع الدم .. وهانحن نستولي على حقائبها ونفتح أسرارها ودفاترها ومذكراتها .. والحقيقة انني كلما فتحت ملفا من الملفات أصاب بالرعب والقشعريرة .. وأستغرب كيف كسبنا هذه الحرب وقد كان دهاة الانس والجان يرسمون كل حركة فيها وكل كلمة وكل صورة وكل شعار .. أحس أنني كلما فتحت وثيقة سرية أدرك اننا كنا نسير بين أقدام التنين ونحن لاندري ماهية هذا الظل الذي يخيم فوقنا ويرمينا بالنار .. وأدرك كل يوم ان أخطر مافي تلك الحرب كان عملية ليّ الأذهان واستخدام العلوم النفسية لتذويب القناعات وتذويب مافي الرؤوس وتذويب الهويات وتغيير مافي النفوس ليصبح المرء فاقد الذاكرة وكأنه في يوم الحشر .. يوم يفر الأخ من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ..
فقد عملت الحرب النفسية على تفكيك المجتمع الى مجموعات متنافرة ولكن ضمن المجموعات المتنافرة تم العمل على اجراء تفكيك آخر داخل المجموعة .. وفي داخل المجموعة كان يتم العمل على تفكيك ماتحت المجموعة الى وحدات متنافرة بحيث لايبقى هناك شيء من مقومات المجتمع .. فالمجتمع رغم تجانسه الطبيعي الا انه فيه تضاريس وتنوع داخلي كي يتماسك ويتكامل مثل البناء والبرج الذي لايمكن ان يكون مكونا من حجارة فقط .. بل أعمدة وسقوف واساسات وحجارة وتوزيع هندسي .. ولكن وفق خبرة علماء علم اصول الانسان (الانثروبولوجيين) فان الخطة الخبيثة لم تكن مجرد القاء عقارب الارهاب والقتل والتهجير بل كانت ان يبقى في البلاد قشور ومحنطات بشر عمياء وصماء بعد افراغ الناس من انتماءاتها وتحويلها الى تماثيل مجوفة .. تسير في الطريق بلا هدى كما تمشي الحيوانات الضالة ..
ففي وثائق الحرب التي كانت أكواما من الاكاذيب والأضاليل .. تبين لنا ان هناك غير غرف الموك والموم التي كانت خلف حدودنا مباشرة .. فقد اكتشفنا اليوم هذه الغرف الخفية التي كانت في القارة الاميريكية ولكنها كانت بيننا توسوس في عقولنا وتنشر الخراب والفوضى والتمرد والشك .. وكل غرفة كانت مخصصة لطائفة او مجموعة سكانية تتلاعب بعواطفها ومشاعرها وتتحدث لغتها وكانت مثل الشيطان الذي يرتدي قناعا لأخيك ويتنكر في ثياب انسان ليغوي البشر ..
هناك صفحات كانت تبدو بريئة ويظن أحدنا ان الألم مصدرها ونتفهمها ونتعاطف معها .. ولكنها كانت معامل لصنع القنابل الجرثومية لتفجير الالم والقيح وصنع الخيبة والدفع الى اليأس وقتل الروح وانماء التمرد .. كما في تجربة صفحة (صرخة) التي تظهر في الرابط المرافق ** .. على طريقة المهرج فيصل القاسم الذي لايمل من البكاء على الشعب السوري ولكن بطريقة أكثر دهاء من طريقة المهرج فيصل القاسم ..
هذا درس يجب ان نراجعه بدقة كي نفكر في هذه الصفحات البريئة الطيبة القلب كما كانت تبدو التي كانت تصرخ باوجاعنا بالأمس وهي ربما اليوم تصرخ بأوجاعنا ولكنها تطعمنا النار وتحول دمنا الى سم .. لأنها أخطر بكثير من داعش فهي تعمل على جعل الانسان يفقد أهم شيء في القتال ألا وهو روح القتال وسحب ارادة القتال وتضخيم المآسي والآلام والجراح .. وهي كمن يفسد الباردود بخلطه بالماء .. ويخلط الروح بغوايات الجسد .. فكيف تنطلق الرصاصة ببارود مبلل؟ .. وكيف تتحرر روح قيدتها شهوات الجسد ..؟
اليوم في كل هذا التركيز على الاوجاع العامة والفقر يجب ان ننتبه جيدا الى الألم الحقيقي الصادق .. والالم المزيف والمصنّع .. والذي قد يكون مصدره عالم انثروبولوجي يتلاعب بآلامنا وأزماتنا كما كانت غرفة (الصرخة) تريد ان تقنع جزءا من المجتمع انه مظلوم ويدفع ثمنا باهظا وعليه ان يلقي السلاح .. ولاشك ان هناك صرخات كثيرة من أخوات الصرخة المشبوهة وربما تنمو في نفس الرحم على بعد آلاف الكيلومترات .. فخذوا حذركم .. هذا العدو لايشبه اي عدو .. انه شيطان لايشبهه شيطان .. وابليس من أبالسة الشر والدهاء ..
أظن أن أكبر خطا وقع فيه علماء الأنثروبولوجيا البريطانيون والاميريكيون انهم أطلقوا متضادات لاتعمل في نفس الوقت .. فقد أطلقوا التوحش والغرائزية في مجموعة لتفترس أخرى .. ثم أطلقوا صرخة الاستسلام في المجموعة الاخرى التي تتعرض لهجوم الاولى .. فكيف ستحرض الضحية على الحياد وعدم الدفاع بضراوة عن نفسها وأنت تطلق عليها وحشا يريد افتراسها .. تراه وتسمع صوته وعواءه وتشم رائحتة أنفاسه وأنيابه .. ثم تطلب منها أن تلقي السلاح ..
من حسن حظنا أن علماء الانتروبولوجيا الغربيين وقعوا في خطأ قاتل .. وغبي .. ونجانا الله من كيد هذا الشيطان الذي يصرخ .. ويطلق الصرخات ..
======================
** من تسريبات الحرب السرية في سورية: