” أيها الله، هل تسمعني؟ لا تدعهم يبترون قدمي، أيها الله أرجوك لا أريد أن أبتر قدمي…”
بين الأشجار الخضراء التي اتشحت مرغمةً بلون رمادي، سار متعرجاً محاولاً أن يصغي فقط إلى زقزقة العصافير، قدمه الآن متعبة ولا يمكنها أن تحمله فترة طويلة بسبب الكسور التي سببتها الإصابات السابقة.
وقف أمام الضابط مستلماً مهمته إلى ريف حلب ليغادر مع رفاقه بصمتٍ بليغ يسميه البعض إيماناً والبعض الآخر قدراً، وآخرون يسمونه واقعاً، بينما يسميه الجندي عبثيةُ حرب…
كان صيف العام 2014 حاراً مقارنة بالصيف الذي سبقه، لعلّ موت الكثير من الأشجار، وغور المياه الجوفية الذي قتل الخضار في الأرض، أثرّ على المناخ في هذه البلاد وزاد حرارتها وكأنّ ما كان ينقصها هو المناخ القاسي…
تحركت القافلة العسكرية باتجاه الشمال، الدبابات على الحاملات، وعلى الدبابات لم تتغير المناظر، ربطة خبز، اسفنجة أو اثنتين، بعض حبات البطاطا والبندورة، كانت هذه لوازم يحملها الجنود معهم أثناء ترحالهم من مكان لآخر، منظر الدبابات يشي بشيء من الجنون، خليط من القسوة والحنان، كتلة حديد لا تعرف الرحمة تحمل فوقها جندي بسيط مع بعض حبات البندورة والبطاطا والخبز.
وصلوا إلى ريف حلب الشمالي، بالكاد توقفوا ليلتقطوا أنفاسهم حتى أتت الأوامر فجأة بالتحرك سريعاً، ركبوا الشاحنات وانطلقوا بسرعة…

يصدح صوتٌ غريب في تلك المنطقة الموحشة، يشبه صوت وطأة الأقدام على الثلج أو على رمال البحر، عجلات سوداء تتدحرج برتابة على طريق ترابي كان في وقت ما، قبل الحرب معبّداً بالاسفلت، صناديق حديدية تحوي في داخلها أجساداً بشرية ناعمة رغم صلابتها، جنودٌ يقفون في عربات الشاحنات يضعون أيديهم على جوانبها، يمدون رؤوسهم كي يتمكنوا من النظر كما يفعل الأطفال تماماً…
-أهذا هو سجن حلب المركزي؟ سأل الجنديّ “مازن” وهو يقف في عربة الشاحنة متأملاً كل ما حوله بصمت رهيب.
-نعم هذا هو. أجاب صديقه “وسام” وأكمل قائلاً:
– منذ شهرين تمّ تحريره ويا لهول القصص التي حدثت داخله.
انتهى حديثهما فوراً وكأنهما يعرفان مدى قسوة القصص التي حدثت بداخله ولا يرغبان باسترجاعها، تابعا النظر إلى كل شيء والعربات تسير بمنتهى الرهبة بين دمار الموت المترامي على طرفيّ الطريق وبين خيالاتٍ لجنود ركضوا ثم ارتقوا وهم يصرخون من الألم.
وصلت القوات إلى القرب من تل المضافة، نزل الجميع من العربات، وبدؤوا بنصب الخيام وتدشيم محيط معسكر القوات منتظرين وصول قوات أخرى موجودة في حلب، بدأت المعارك بشكل متقطع مع فصائل جيش المهاجرين وجبهة النصرة وكأنها مناوشات استعراض قوة للفصائل المسلحة لترهيب الجيش ومنعه من تنفيذ مهمته باستعادة حندرات وتحرير القوات المحاصرة هناك، مضت الأشهر وبدأ فصل الشتاء ولم تصل قوات كافية للمؤازرة بسبب اشتعال كل الجبهات في البلاد، أصبح وضع الجنود سيئاً للغاية في تلك المنطقة وخصوصاً بعد انقطاع كل طرق الإمداد عنه.
بعد أيام، قام القائد بجمع الجنود وبعد الاطلاع على عدد الجرحى والشهداء، خطب بالجنود قائلاً:
-أنتم هنا رجال كتيبة المهام الخاصة، تمّ انتقاؤكم من مختلف التشكيلات العسكرية نظراً لسجلكم الحافل بالبطولات والإخلاص، لن أقوم بالتنظير، نحن عالقون هنا، ولن تتمكن أي قوة من الوصول إلينا في القريب العاجل، والآن جاءنا ضيف جديد إلى المعركة هو العدو التركي، لذلك أصبحت المواجهة صعبة، لكنها واقع. إما نهاجم وقد ننتصر وإما ننتظر ونمضي الوقت بالمناوشات، فماذا تقولون؟
صرخ الجميع بصوت واحد:
-سنهاجم.
كانت القوات متمركزة أسفل تل المضافة الذي كان آمناً بالنسبة للجيش، فكانت الخطة أن يتقدم عناصر المشاة في المساء ليؤمنوا نقاط لهم، وفي الصباح تتقدم الدبابات للاقتحام.
ساعات قليلة وبدأت المعركة، تقدم المشاة، وبدأ الرصاص يتساقط عليهم كالمطر، لم يكترث الجنود بل تابعوا التقدم مراقصين الرصاص، إلى أن بدؤوا يتساقطون الواحد تلو الآخر، فالمسلحون الموجودون على التل وفي حندرات يكشفون المنطقة بالكامل بالإضافة إلى الأسلحة المتطورة التي يمتلكونها.
-انبطحوا !!!… صرخ وسام الذي كان بسبب إصاباته العديدة قد أصبح خبيراً بأمور التصدي للقناصين.
انبطح الجنود، وتابعوا التقدم زحفاً، كانت الساعة لا تزال في تمام الثامنة، وأعتقد أنها بقيت كذلك أكثر من ساعة، فرغم احتدام المعارك، يمضي الوقت بطيئاً حتى يخاله الجندي واقفاً لا يتحرك، ومن خاض المعارك يعرف أن الزمن الذي يمضي في حياة المقاتل يختلف كليّاً عن الزمن الذي يمضي في حياة أي شخص آخر.
لحظات قليلة وبدأت قذائف الهاون تتساقط عليهم من كل حدب وصوب، وتبعتها جرار الغاز، اختلطت الأصوات بين انفجارات لئيمة وصرخات متألمة ، هكذا حتى هدأت المعركة إلاّ من بعض القذائف التي كانت تسقط بين لحظة وأخرى.
يحاول “وسام” بين الفينة والأخرى أن يرفع رأسه قليلاً كي يلتقط أنفاسه، فأنفه مغمور بالتراب أغلب الوقت، نظر إلى يمينه فرأى مازن منبطحاً وهو يضحك، ضحك وسام وكأنه فهم سبب ضحك مازن وقال:
-سنبقى منبطحين حتى الصباح، يا إلهي كم هي عبثية هذه الحرب.
مضى الوقت ثقيلاً على الجنود، كل دقيقة تمضي كأنها ألف عام، الجو خليط من العبثية والألم والجوع والعطش والقهر… نعم القهر، ففي هذه اللحظات ينسى الجندي كل الآلام في جسده لكنه لا ينسى القهر الذي يسيطر على روحه.
بعد قليل أمطرت السماء، رغم أنّ الماء رمزٌ للخير لكنه لم يكن يحمل أيّ خير في هذه المعركة، تجمعت مياه المطر في أعلى التل وسالت بقوة إلى الأسفل حيث ينبطح الجنود، غمرت المياه أجساد الجنود الذين بقوا في أماكنهم ، منهم من يسعل بسبب دخول بعض الماء في فمه والبعض الآخر يئنّ بسبب البرد القارص في ذلك المكان، وفوق كل هذا كانت طلقات القناصين جاهزة لاصطياد أي جندي يفكر بالنهوض.
بدأ وسام يرتجف، انتبه مازن إلى صوت أنين وسام، فعاجله بالسؤال:
-شبك وسام؟
-أشعر بالبرد الشديد، جسدي يرتجف بالكامل. نطق عبارته بأحرف متداخلة بعضها ببعض وكأنها لحظات من الموت المؤجل.
صبر الجنود على وضعهم المزري، منبطحون يعانقون الأرض لا حول لهم ولا قوة، منتظرين الصباح حتى تتقدم الدبابات.
وصلت الدبابات مع شروق الشمس، وكأنّ ميعاد قدومها مرتبط بالأساطير التي تقول: انتظرونا عند شروق الشمس ، سنأتي ونتقاسم معكم لوعة الألم ولذّة الانتصار.
بدأت الدبابات بالتقدم يتبعها الجنود ليحتموا بها من رصاص القنص، لحظة واحدة وتلقت الدبابة الأولى صاروخ حراري أدى إلى انفجارها واحتراقها بالكامل، طار البرج على علو يبلغ عشرة أمتار وهو يدور بشكل مغزلي حول نفسه، ركض الجنود مبتعدين عن الدبابة كي لا يسقط البرج عليهم وانسحبوا إلى الخلف، وأعادوا تشكيل صفوفهم، وتغيّرت المهمة من استعادة حندرات إلى السيطرة على تل المضافة.
تمّ إسعاف الجرحى ونقل الشهداء إلى أقرب نقاط طبية تابعة للجيش، وفي تمام الساعة الرابعة عصراً عاد الجنود للتقدم من جديد وقاموا بالتفاف صغير ثم تبعوه بتسلل غريب نوعاً ما، يزحفون ثم ينامون قليلاً كي يبدو منظرهم وكأنهم جزء من الأرض، ثم يزحفون إلى أن وصلوا إلى إحدى نقاط المسلحين التي لم تكن مكشوفة بشكل يسمح لهم بتحديد أين العدو بالضبط.
دقائق وكشف المسلحون عملية تسلل الجنود، وبدأ إطلاق النار عليهم بشكل جنونيّ، كانت هناك نافذة صغيرة، يخرج منها الرصاص بشكل كثيف، رصاص عشوائي وآخر منظم، وهذا يعني أن هناك اثنان يطلقان النار من نفس المكان.
التزم وسام الهدوء وهو ينظر إلى النافذة ، انتبه إلى أن أحد المسلحين يرفع رأسه كل دقيقة ويطلق النار ثم ينخفض، سدد وسام إلى النافذة منتظراً ظهور المسلح، وما أن رفع المسلح رأسه حتى أطلق وسام النار عليه وأرداه قتيلاً، في هذه اللحظة كان على الجنود أن يقتربوا أكثر من هذا الساتر، ركضوا تباعاً، سقط الأول، فأكمل الثاني، سقط الثاني فأكمل الثالث، وهكذا حتى اقتربوا من الساتر ورموا قنابل عليه حتى تمكنوا من اقتحامه وقتل من تبقى من المسلحين خلفه، لكن لم تكن النهاية سعيدة لدى هؤلاء الأبطال، فما هي إلاّ لحظات حتى تساقطت قذائف الهاون عليهم كأنها كلاب شاردة أطلقوها عليهم دون رحمة، سقط مازن أرضاً وهو يصرخ من شدّة الألم، بينما دار وسام حول نفسه وهو يتفادى القذائف متقدماً إلى الأمام وهو يصرخ كأنه فقد عقله، لكن لم يستمر جنونه أكثر من دقائق، فقد سقطت قذيفة إلى جانبه وملأت جسده بالشظايا.
ارتمى وسام على الأرض يتقلب يميناً ويساراً من الألم، لا يعرف إن كان هو يحترق كما حدث معه منذ سنتين في دوما عندما احترق بالكامل، ولا يعرف إن كانت الشظايا قد اخترقت جسده كما حدث في جوبر.
تابع الجنود التقدم رغم تساقط الكثير منهم، لكنّ عادتهم كانت أن لا يتراجعوا مهما حدث لهم، وخلال ساعات بدأ المسلحون بالتراجع أمام التقدم الانتحاري الذي نفذه الجنود، واستمرت المعركة حتى المساء وانتهت بالسيطرة على تل المضافة.
هبط الليل ثقيلاً على الجنود، لا ضوء في الأرض ولا حتى في السماء، كانوا يستدلون على بعضهم بالهمس، ثبتوّا نقاطهم، وانقسموا إلى ثلاث مجموعات، مجموعة تحرس النقاط المتقدمة ومجموعة تجمع جثامين الشهداء وتدفنهم داخل معسكر القوات عسى تُفتح طرق الإمداد قريباً فيتمكنون من نقل رفاهم إلى أهلهم الذين ينتظرون خبراً عن ابنهم أو اتصالاً منه، أو تابوتاً ينهي كل الحكاية.
في ذلك الليل الثقيل، ارتفع أنين الجرحى، فلا دواء معهم سوى بعض القطن والمعقمات، ولا سبيل لإسعافهم إلى المشافي بسبب خطورة الطرق.
بقي وسام يرتجف من البرد والألم، فالشظايا ملأت جسده وقضّت مضجعه فلا هو قادر على النوم ولا هو قادر على احتمال الألم، وإلى جانبه كان مازن لا يتوقف عن الدعاء :
-يا إلهي ، أرجوك لا تدعهم يبترون قدمي، لن أسمح للغرغرينا أن تنتشر بها ، أعدك إلهي، أرجوك لا تسمح لهم أن يبتروا قدمي…
لم يصغ ِ الله إلى ابتهال مازن، فقد بقي بدون علاج لمدة أسبوع بسبب انقطاع الطريق، وعندما تمّ تأمين الطريق إلى المشفى، تمّ إسعافه و كان أول ما فعله الأطباء هو بتر قدمه كأنهم يبترون قصة مؤلمة من قصص غجر الحرب…
لم تنته الحكاية هنا، فهي ليست إلاّ غيضاً من فيض مما حدث في هذه الحرب، وأدعو الله أن يمدني بالقوة لأكمل توثيق هؤلاء الغجر، الذين جالوا في هذه الأرض أكثر مما فعلت الطيور…
يتبع…