اللعبة التركية تدخل دور النهاية .. الكلب والعظمة .. حلم لم ير الشمس


أعياني البحث في المصطلحات كي أعرف مايناسب منها الانسحاب التركي من مورك .. لأن الاتراك في زمن أردوغان تحولوا الى ظاهرة صوتية أكثر من العرب .. ظاهرة أولها مسرحي وآخرها كوميدي .. فأردوغان يبدأ بشتم الاسرائيليين وينتهي بالانحناء لهم والركوع بين اقدامهم صامتا .. ويبدأ بنية الصلاة في الجامع الاموي وينتهي بالصلاة في اياصوفيا عندما لم يبق له جامع في الشرق يستقبله .. فقد خسر الأموي والازهر والحرم المكي وطبعا هو لايجرؤ على المطالبة بالمسجد الاقصى واعتبره مفقودا .. فلم يجد امامه بعد اغلاق مساجد الشرق في وجهه الا ان يحول اياصوفيا الى جامع .. انها استقطاب الكوميديا والدراما التركية .. لذلك لم اجد ماينطبق على الانسحاب التركي (من ريف حماة) الصامت الخالي من المسرحيات والسيمفونيات العثمانية والبطولات من مصطلح الا انه يشبه بصمته أفلام تشارلي تشابلن .. لاصوت ولاكلمة بل ايماء وحركات .. وهذا التناقض بين الدخول الصاخب الى سورية المحشو بالخطابات والتهديدات المجلجلة والخروج الحزين المكتوم هو مايثير حيرتي .. حتى الانسحاب التكتيكي الذي خبرناه لدى المعارضة لايشبه هذا الرحيل الحزين للانكشاريين العثمانيين .. ولكن كان من المسلي والجميل جدا ان نتعرف على الانسحاب التكتيكي على الطريقة التركية التي نراها الان ..
لمن لايعرف المستقبل فان منظر الانسحاب من مورك الذي ستتلوه انسحابات اخرى الى ان ينتهي الوجود التركي على الارض السورية بسرعة فانه يعبر عن الانسحاب التركي من الحلم الذي دام قرنا كاملا .. لأن هذا الخروج نهائي .. وليس عبثا ماصرح به وزير الخارجية الروسي بأن الحرب والمواجهات العسكرية في سورية انتهت .. لأن الاتراك صاروا يدركون ان لعبتهم انتهت .. وأن الخروج بهدوء هو افضل المخارج ..


ولكن لماذا يفشل المشروع التركي بعد ان كان واعدا ويتقدم بزخم؟؟ قد يقول قائل ان الفشل الرئيسي كان في سورية وكان ضربة قاضية .. ولكن التحليل يجب ان يقودنا الى ان مجرد التفكير التركي بكسب الحرب في سورية وضمها الى السلطنة بهذه السهولة كان يعبر عن سذاجة فاقعة .. وربما كان من الافضل للأتراك الاستماع الى دهاة العرب وهم ينصحون ألا يدخل المرء في اي معضلة قبل ان يدرك انه سيخرج منها كما تسل الشعرة من العجين .. المشروع التركي في سورية كان فخا مزدوجا غربيا لضرب سورية بتركيا .. ولكن لم يكن الغرب ليسمح لتركيا بأن تتمدد لابتلاع الارض السورية .. أي سيستخدم تركيا في تدمير سورية كما فعل في الحرب العالمية الاولى حيث سمح للعرب بتدمير الامبراطورية العثمانية ولكنهم لم يسمح لهم بوراثتها .. وكان مطلوبا من تركيا ان تلعب نفس الدور وأن تترك عملية وراثة سورية للغرب الذي كان يعد ترتيبات أوروبة واسرائيل مابعد الأسد .. وليس ترتيبات تركيا في سورية مابعد الاسد ..
اردوغان تصرف بسذاجة فائقة عندما ظن انه يستغل الظرف والحاجة الغربية والاسرائيلية اليه في تدمير سورية وكان يظن ان سيسبقهم الى دمشق وبعدها يفاوض ويقايض .. كما ظن صدام حسين انه بسبب الحاجة الغربية لاحتواء ايران فانه سيسمح له باسترداد شط العرب والاحواز .. غم ان الدور المرسوم له كان ان يحتوي ايران ويعاقبها ويضعفها فيدخل الغرب في صفقة معها مغايرة لصفقته مع الشاه .. وكان صدام يظن ان الحرب ستستمر 3 أشهر على ابعد تقدير ولكن الغرب تمكن من ابقائها 8 سنوات .. فكان يسلح العراق وايران في نفس الوقت .. واليوم تمددت الحرب السورية الى عشر سنوات لم تحسم لصالح تركيا ..
ومن يتابع كيف تصرف الغرب تاريخيا مع القوى الناهضة في الشرق الاوسط فانه لاشك سيدرك ويحلل دور تركيا ومستقبلها وماهو مسموح لها .. فمنذ نهاية الامبراطورية العثمانية وهناك مبدأ تقوم عليه السياسات الغربية على شكل تحالف واتفاق منذ نجاحها في ايقاف مشروع محمد علي باشا الطموح في مصر .. فالدول الغربية تركت محمد علي باشا يناوش الدولة العثمانية ويشاغلها ولكن عندما سنحت له الفرصة الذهبية بالتقدم نحو استانبول واسقاطها تحركت الدول الغربية ووضعت العصي في عجلاته العسكرية واعيد الى مصر .. وانتهى مشروعه ضمن حدود مصر والسودان ..
وبعد ان نجح الغرب في تدمير الامبراطورية العثمانية لاحقا فانه لم يقبل بأي شكل ان تنهض هذه الامبراطورية ولا أن ترثها اي مشروعات شبيهة في الشرق .. وبعد خمسين عاما عندما فكر عبد الناصر في اطلاق المشروع القومي العربي من مصر الي سيرث الامبراطورية العثمانية في الشرق عمليا .. تم ضربه في حرب 67 التي كان سببها شيء واحد فقط وهو أنهم لايريدون امبراطورية قوية في الشرق مركزها مصر .. فضربوا الفكرة الوليدة واجهض المشروع القومي يوم الخامس من حزيران ..


وعندما جاء الخميني بمشروعه الاسلامي وكان من الممكن ان يشكل امبراطورية اسلامية لأنه رفع شعار الوحدة الاسلامية بين السنة والشيعة .. تم التصدي له بالعرب .. وتم ايقاف المشروع الاسلامي الايراني على مراحل .. بدءا من الحرب العراقية الايرانية التي سمح فيها لصدام حسين ان يفعل مايريد وان يحصل على مايريد من سلاح لايقاف المشروع الخميني .. وعندما فكر صدام حسين انه يمكنه ان ينطلق في مشروع توسعي عربي وظن انه يستحق مكافأة غربية على نجاحه في ايقاف المد الثوري الايراني ووراثة الفكرة وقرر أن يكافئ نفسه بجائزة اسمها الكويت عندما قال (الكويت جائزتي) .. فان الغرب تحرك وسحقه بعد ان كان بطله المفضل ..


تركيا ليست استثناء .. فصاحب تركيا الطيب اردوغان ظن انه يتلاعب بالغرب وانه سيلاعب الغرب وأنه سيقايضه .. فقبل بفكرة الربيع العربي وصدق انه سيسمح له بقيادة المجموعة العربية والاسلامية .. ولكن الغرب الذي سحق الامبراطورية العثمانية وكل فكرة وليدة لوراثة الشرق لم يكن ممكنا ان يسمح له الا بأن يلعب دور صدام حسين .. فأردوغان تبرع بالتدخل في سورية عشرات المرات وكان يمهد لذلك بالقول انه سيصلي في المسجد الاموي .. ولكن الغرب كان يرسم له دورا محددا ولم يسمح له بتجاوزه .. ودوره كان الاشراف على تدمير الشرق وتفكيكه ولكنه ليس مسموحا له ان يتمدد خارج حدوده .. ولذلك فان داود أوغلو اعترف ان تركيا فقدت فرصة تاريخية في انها لم تتدخل عسكريا في سورية وعزا ذلك الى تردد ورفض الجنرالات الاتراك هذا الاقتراح .. ولكن الحقيقة هي ان الجنرالات اذا كانوا قد اعترضوا فانهم نقلوا اعتراضا غربيا قويا .. وحتى ان كان لوم الجنرالات ذريعة لاخفاء الحقيقة وهي ان تركيا لم تحصل على الاذن بدخول سورية في تلك اللحظة الفاصلة عندما كانت الدولة السورية محاصرة وممزقة .. لأن الغرب ليس ساذجا ويدرك ان اردوغان ان دخل سورية فانه صار زعيم الشرق لأنه حصل على أهم نقطة ارتكاز في الشرق كله وامتلك مفاتيح الطاقة والمواصلات .. وصار يهدد الشرق والغرب .. وسيكون لذلك تداعيات قوية في الشارع العربي والاسلامي الذي سيلتحق بمعسكر اردوغان الذي نفذ حلم توحيد الشرق واحياء الخلافة الاسلامية .. وعندها سيكون الغرب قد أدخل الدب التركي الى كرمه .. ولن يقدر بسهولة على اخراجه ..


ولذلك ظل الغرب يماطل ويسمح له بلعق العسل من مشروع الربيع العربي .. فسمح له بسرقة المعامل والنفط والحقول والأثار ولكنه لم يعطه مايريد وهو الارض السورية والعربية عموما .. وعندما نجح وكلاء اردوغان في اقتحام ادلب وتمكنت داعش من الوصول الى تدمر ظن البعض ان اردوغان سيبدأ الزحف نحو دمشق .. وفيما كان الغرب يراقب ان كان اردوغان سيذعن لاتفاقاته مع الغرب والخطوط الحمر فيجعل سورية تحت وصاية غربية متعددة ولاتتمدد تركيا فوق الاراضي السورية .. فوجئ الجميع أثناء المفاوضات بوصول الروسي قبل الطرفين المتفاوضين ..


ولذلك ظل الاتراك غاضبين من ضياع الفرصة التاريخية لهم بسبب رفض الغرب تفويضهم بالدخول الى سورية .. وكان حادث اسقاط الطائرة الروسية سببا في ان يكتشف اردوغان ان الغرب يريد لتركيا خوض معركة نيابة عنه .. والاقتراب من الروس وشراء صواريخ اس 400 هو نوع من الحرد والتعبير عن الغضب وهو تهديد للغرب ان ماحدث في بداية الربيع العربي لن يتكرر فتركيا قادرة على تنفيذ مشاريعها بدون الغرب ..
التعاطي الغربي الهادئ والمنضبط والتدريجي مع اردوغان رغم كل استفزازاته يدل على ان اردوغان لايزال تحت السيطرة وان الكلب التركي لايزال مربوطا بالسلسلة ولكن طولها أعطاه مجالا اكبر للمناورة .. ولكن عقل الكلب سيبقى معلقا في العظمة العثمانية يلعقها كلما جاع .. ولو لم يكن له عقل كلب معلقا بعظمة فانه كان سيدرك قبل التورط في الربيع العربي وفي سورية ان دوره هو اعداد المسرح للاوروبي وليس الاستيلاء على المسرح ..


ولذلك فان الانسحاب من مورك هو ادراك متأخر جدا للعبة الكلب والعظمة التي رميت له .. وربما ادرك الكلب اليوم أن تركيا هي تركيا وليست امبراطورية وانها دخلت لعبة أكبر منها .. وعليها ان تفيق من الحلم .. وان تتوقف عن لعق العظام القديمة ومحنطات سلاطين بني عثمان ..

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

2 Responses to اللعبة التركية تدخل دور النهاية .. الكلب والعظمة .. حلم لم ير الشمس

  1. قرأت مقالتك وتذكرت مقالاتك الكثيره عن تركيا وحلمها وافعالها قبل 6سنوات..
    وكأن كلماتك الآن تتحول لرصاص ابتهاج بنصر طال انتظاره سنوات.
    هناك جمل مرعبه لم تكن تتجرأ وتكتبها لنا (على سبيل شحذ الهمم والتفاؤل آنذاك) وهذا مانريد أن نعرفه بعد ان اصبحنا ببر الأمان
    هل كنا بهذا الخطر ؟؟و هل كنا نحن السوريون سنسمح للاتراك باحتلال العاصمه ولو دعمه كل الكون؟؟

  2. رائد زياد كتب:

    رائع جدًا

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s