(ريف حماه الشمالي 2016)
مضى على التحاقي شهرٌ واحد بالخدمة الاحتياطية، لم أكن أعلم أنّ السنوات الأربع الماضية التي كنت أقاتل فيها إلى جانب الجيش غير محسوبة كخدمة فعلية…
منذ عام تزوجت، وكانت زوجتي امرأة طيبة القلب ودودة تحب الخير وتكره الخطأ كثيراً، كانت تحب الهدوء والسلام، في كل حديثها كنت أرى رغبةً بحياةٍ آمنة تتخلل حروفها، كان طلبها الوحيد عندما تزوجنا أن ألتحق بالخدمة الاحتياطية كي نتجنب أية مشكلة قد تحدث لنا في المستقبل بسبب تخلفي عن الواجب.
التحقت بالجيش ولأنني مقاتل ذو خبرة سابقة، لم أبق َ في الدورة التدريبية أكثر من شهر واحد وانتهت هذه الدورة بإجازة سبعة أيام، انطلقت إلى منزلي في ريف اللاذقية وربما ستضحكون إن أخبرتكم أنني تذكرت نفسي عندما كنت في المرحلة الابتدائية وعدتُ يوماً إلى المنزل فرحاً لا أصدق متى أًصل لأخبر أمي أنني حصلت على درجة امتياز في “الإملاء”، كان الشعور نفسه، ففرحتي بإجازتي الأولى تشبه فرحتي بدرجة الامتياز التي أخذتها في الابتدائية.

لم يمض ِ يومان على إجازتي حتى اتصلوا بي من القطعة العسكرية، وأخبروني أن ألتحق بسرعة، وسيعوّضون لي الإجازة فيما بعد، نظرتُ إلى زوجتي التي كانت تحاول منع نفسها من البكاء وقلت لها: -لا تقلقي، سيتم تعويض الإجازة ، هكذا أخبرني الملازم أول، وهم لا يكذبون أبداً.
ابتسمت زوجتي وعينيها تذرفان الدموع وقالت لي وصوتها تخنقه ألف غصّة:
-عدْني أن تعود قريباً ، عيد زواجنا بعد شهرين تماماً، عدني يا محمد أن تأتي في الموعد.
فتحت فمي لأقول الوعد ولكن لا أعرف كيف أغلقته بسرعة ولم أتكلم، لا أعرف كيف تملكني الخوف من إعطاء الوعد وأنا معروف منذ صغري بإيفاء وعودي التي أقطعها على نفسي، حاولت التهرّب من الوعد وإضفاء حالة من المزاح، فقلت لها:
-ماذا ستحضرّين بعيد زواجنا؟ يجب أن يكون مميزاً، أليس كذلك يا حبيبتي؟
ابتسمت زوجتي وهي تنظر إلى الأعلى كأنها تتخيل الصورة المستقبلية لعيد الزواج وقالت:
-سأطهو لك الرز ولكن بدون لحم، لأن اللحم زاد سعره كثيراً وهو ليس من ضمن قدرتنا على شراءه، لكن سأقلي لك البطاطا ، فلدينا عبوتين من زيت القلي أحضرتهم من عند أمي بعد حصولها على كرتونة معونات لأنها والدة شهيد، آه كم يصعب عليّ تذكر أخي الشهيد، رحمه الله…
-رحمه الله، تمتمت بيني وبين نفسي وعدت للإصغاء إليها ، ولكن سرعان ما قاطعتها قائلاً:
-حسناً لا تكملي الحديث، أريد أن أتفاجأ عندما آتي في الإجازة القادمة، والآن ساعديني بتوضيب حقيبتي كي لا أتأخر عن الالتحاق.
سافرت بسرعة إلى مركز التجمع بالقرب من العاصمة، ومن ثم تمّ اختيار ستون مقاتلاً للتوجه إلى ريف حماه الشمالي لمؤازرة القوات هناك.
انطلقنا في اليوم التالي، ولحظة وصولنا أتتنا المهمة بتحرير إحدى القرى من مسلحيّ النصرة وعناصر من الجيش التركي، اقترب مني الملازم أول، وقال لي :
-اسمع يا محمد، ستتمركز هناك مع عناصرك، وأنا سأتجه إلى تلك النقطة، ستكون مهمتكم حمايتنا وتأمين المنطقة أمامنا.
بدأت المعركة، لم أتوقع أن تكون أعداد المسلحين كبيرة إلى هذا الحد، والمشكلة التي اعترضت عناصرنا هي أنّ كل أسلحتنا خفيفة، باستثناء بعض قواذف الآر بي جيه، لم يمض على المعركة أكثر من ساعة حتى بدأنا بالانسحاب، لقد كان المسلحون يمتلكون أسلحة ثقيلة وعشرات القناصات، بدأ العناصر بالانسحاب لكنني بقيت مكاني، وصرخت برفاقي قائلاً:
-الملازم أول وعناصره أمامنا، يجب أن نؤمن الحماية لهم ريثما ينسحبوا.
لم يلق صوتي أيّة أهمية عند رفاقي بل تابعوا صراخهم بأن ننسحب وأنا أرفض، إلى أن أمسكني اثنان من رفاقي وسحبوني مرغماً، لم أكن أفهم ما يجري هنا، فأنا كنت شارد الذهن بزوجتي والحياة السعيدة التي تنتظرني معها، لقد انسحب الملازم الأول وعناصره دون أن أعرف، وعندما عرفت بذلك، تابعت السير مع رفاقي لكن فجأة أحسست أن صدري يتشقق، رأيت السماء زرقاء ثم وشاحاً أبيضاً غطاها فجأة، سمعت أصواتً كثيرة للجنود لكن لم أفهم منها شيئاً بل رأيتهم يبتعدون عني راكضين وخلفهم يتطاير التراب من القذائف التي تتساقط تباعاً عليهم…
في تلك اللحظة رفعت يدي إلى صدري لأعرف ما الذي حدث، تحسست الدماء تفور من تحت بزتي العسكرية، ذرفت دمعة وأنا أبتسم، فالأولى كانت لأنني لن أحضر عيد الزواج مع زوجتي أما الابتسامة فكانت لأنني لم أعدها، وهكذا لم أخلف بوعدي لها.
نظرت إلى السماء وابتسمت من جديد، لقد زال الوشاح الأبيض وعادت زرقتها كما كانت، إذاً لم أمت، سيأتي رفاقي ليسحبونني بعد قليل، يجب أن أصمد، سأحاول الضغط على مكان الطلقة كي لا أنزف دمي كله، تباً، إنّ يدي مخدّرة لا يمكنني رفعها إلى صدري، حسناً سأبقى مستلقياً على ظهري وهكذا لن أخسر دمي كله، فجأة وَمَضَتْ في صدري لمعةُ ألمٍ من يمينه إلى يساره كادت أن تودي بحياتي، شعرت بها كأنها صدمة كهربائية، يا إلهي ما هذا الألم الذي هجم فجأة، أشعر بصدري يتشقق كما يفعل قالب الثلج، لماذا تأخر رفاقي عن القدوم، أنا على قيد الحياة وسأنجو بإذن الله، يا إلهي الألم يشتد، السماء لم تعد زرقاء، إنها تتحول إلى السواد، ما هذا يا إلهي؟؟ أه مهلاً، إنه الليل، لا أدري كيف نسيت أنّ الليل سيأتي، اححححح أشعر بالبرد، أشعر بأنّ مكان الجرح يتمزق، لعلّ البرد يساعد في تقلص عظامي، الرحمة يا الله، لا أستطيع تحمّل كل هذا الألم، لماذا تأخر رفاقي عني؟؟
يبدو أنّ ساعات كثيرة مضت، أشعر بدفء يلامس صدري ووجهي، فتحت عيناي جاهداً، لأكتشف أن الصباح قد بدأ وأن الشمس قد أشرقت… الحمد لله مضت هذه الليلة ولم تقترب الوحوش البرية مني، وبفضل البرد الشديد تجمدّ الدم على الجرح ولم أنزفه كله، أعتقد أنها ساعات قليلة وسيأتي الرفاق لإسعافي…
في منزل محمد كان الخبر قد وصلهم منذ لحظة إصابته، استُشِهدَ محمد، فسأل أهله عن جثمانه فقال رفاقه لهم، سنحضره عندما يخيم الليل، ففي النهار المنطقة مكشوفة ولا يمكن الوصول إليه…
في ليل اليوم التالي ، تقدم عناصر الجيش من مكان جثمان محمد، وعندما وصلوا إليه وسحبوه، لاحظوا بأنّ جسده ساخن وأن دمائه كانت تسيل بهدوء من صدره، لم يكن قد مضى على استشهاده أكثر من ساعة، كان من الممكن أن يعيش لو وصل فريق الإسعاف إليه قبل هذا الوقت.
بقي محمد ثمان ٍ وأربعون ساعة على قيد الحياة وهو ينتظر أن يسحبه أحدهم ولكن المعركة حالت دون ذلك، أرسلوا جثمانه إلى المشفى العسكري في اللاذقية في تابوت خشبي مغلق بإحكام، اقترب شقيقه من التابوت ليتعرف على وجه أخيه، فتحوا التابوت له، لم يتمالك نفسه من البكاء بقهر ، فمنظر محمد وهو مبتسماً كان لا يُنسى، أغلقوا التابوت وبقيت ابتسامة محمد عالقة في ذاكرة شقيقه لا يعرف لها تفسيراً حتى هذه اللحظة، وعاش شقيقه ألماً آخر وهو أنه يخفي عن والدته حقيقة أنهم عندما أقاموا مجلس العزاء كان محمد على قيد الحياة لمدة يومين كاملين، وكم هي كثيرة القصص التي تروي حكايات مجالس عزاء لشهداء على قيد الحياة…
من حسن الحظ أن تمكن شقيقه من إخفاء الحقيقة وتحمّل ألمها وحده، فأيّ ألم سيسيطر على أمه عندما تعرف ذلك، وكم هي كثيرة الهواجس التي ستقضّ مضجعها وهي تفكر كيف أمضى كل هذا الوقت وهو يتألم…