الكبار عندما يلعبون يحاولون مسك خيوط اللعبة بحرفية عالية ، والضغط ليتحرك اللاعبين ويتموضعون حسب رؤيتهم وما تقتضيه مصلحتهم الاستراتيجية الكبرى وهدفهم النهائي ، لأنهم لا يقبلون بأقل من الفوز بالمركز الأول، مع إرضاء أو تنفيذ جزء من مصالح اللاعبين الأساسيين المشاركين ، وترك باقي المراكز لهم.
هذه اللعبة لعبها الرئيس بوتن بحرفية عالية،بعكس أمريكا التي حاولت أن تمسك خيوط الإرهابي الإسلامي وخيوط كل من و تركيا والإمارات وقطر والسعودية، وقد تداخلت كل تلك الخيوط ببعضها لدرجة ( الشربكة) كما يقال باللهجة العامية.
بوتن خريج مدرسة الاستخبارات الخارجية للاتحاد السوفيتي سابقا. و لاعب الجيدو.. والسامبا… لا يعتمد بقوته على العضلات… ولا يعتمد بقوته على إلغاء منافسيه، بل بكل دهاء ومكر وسرية رجل الاستخبارات ورشاقة وتهذيب لاعب الجيدو..قدم عروضه المدروسة ، بثقة ، وشجاعة، وصلابةا . هذا ما رأيناه من بوتين على الساحة السورية ، فلنستعرض كيف تمكن من مسك كل تلك الخيوط…
الخيط الأول ( سورية )
قدم دعم عسكري لا محدود في سماء سورية عبر غطاء جوي مهم وقوي ورادع . دك الإرهابيين دون تردد، بصواريخ أطلقت من روسيا ومن سورية . وقف مع الشرعية السورية المتمثلة بالرئيس السوري بشار الأسد دون مواربة…. استخدم الفيتو في مواجهاته الدبلوماسية في مجلس الأمن منذ بدء الحرب على سورية برقم قياسي دون تردد، وتمكن من إمساك الخيط الأول في يده وهي اللاعب السوري الأساسي الأول .. وقام بإرضائه وإرضاء جمهوره، في تلك المرحلة،لدرجة أن بعض السوريين أطلقوا عليه لقب( أبو علي بوتين) .

الخيط الثاني ( إسرائيل )
أ-نصبت روسيا صواريخ س ٣٠٠ في سورية بمواجهة إسرائيل وتحت يد الجيش السوري لكن تركت قرار ضغط زر الإطلاق بيد قيصرها بوتن.
ب- تعايش بوتين مع الوجود الإيراني في سورية، وتعامل معه كحليف تكتيكي، واستفاد من دعمه العسكري بمواجهة الإرهاب المسلح على الأرض، وترك التواجد الإيراني في سورية كفزاعة لإسرائيل… وبهاتين النقطتين مسك الخيط الإسرائيلي.. مع غض النظر الروسي عن إجراء بعض الضربات الإسرائيلة الجوية،ان كان لأهداف إيرانية او سورية او تابعة لحزب الله وذلك لإرضاء إسرائيل وجمهورها .
الخيط الثالث: ( تركيا)
نتف أجنحة أردوغان كي لا يحلق بعيدا ، وأعطاه درس في عدم (العنطزه) من خلال تحجيمه ، ولم يلغيه بل تركه بمنطقة الشمال السوري بشكل مؤقت ، أعطاه القدرة للمناورات المحدودة في الشمال السوري لإرضائه جزئيا، وكفزاعة للدولة السورية وقت اللزوم . وهكذا ربط أردوغان بخيط معلق كلاعب غير أساسي .
أصبحت الساحة السورية ملعب بوتن دون منازعة ، واستطاع مسك خيوط اللعبة كاملة .
استطاع بوتن أن يعطي الوعد لأمريكا بتحقيق ما عجزت عنه أمريكا نفسها ومعها أوروبا وتركيا ودول الخليج… بتفكيك تيار المقاومة، وبذلك فوضت أمريكا وإسرائيل الملف السورية لبوتن دون أي منغصات . بل أستطيع القول أصبح من مصلحة أمريكا وإسرائيل تفويض روسيا بالملف السوري، بعد أن تمكن من مسك خيوط اللعبة (وكماأعتقد سيليها تفويض أمريكي إسرائيلي لبوتن بالملف اللبناني، ولهذا الموضوع محور خاص) ، وبذلك مسك الخيوط الرئيسية جميعا بين يديه ، سورية وأمريكا وإسرائيل.
وكانت هذه المرحلة الأولى.
المرحلة الثانية :
كانت مع تنفيذ الحصار الأمريكي والذي أطلق عليه
( قانون قيصر ) وأعتقد أن إطلاق ( اسم قانون قيصر) على هذا الحصار ليس من باب الصدفة، ولا من باب المزاح الأمريكي، بل لأنه حصار مقترح من قيصر روسيا، أو على أقل تقدير، تمت دراسة هذا الحصار والاتفاق عليه وعلى مراحله وطريقة تفعيله، بين قيصر روسيا وأمريكا، فانتزعت روسيا السيطرة على ميناء طرطوس، ووضعته تحت نفوذها، كحالة تمهيد لتفعيل الحصار الأمريكي ، لأن الميناء بهذه المرحلة يعنبر بمثابة النافذة الوحيدة التي يمكن من خلالها الالتفاف على حصار قيصر، وللأسف ذهبت القيادة إلى إعطاء الميناء من باب الهروب من الحصار الأمريكي، فوقعنا بفخ بوتن، إضافة إلى المشاريع الحيوية التي لا نعلم عنها شيء.
الحصار الأمريكي ( قانون قيصر) لا يمكن بأي حال من الأحوال خنق سوريا اقتصاديا، مع أن له ما له من تأثير سلبي للوضع المعيشي والاقتصادي للدولة والشعب، لكن لا يمكن أن يؤدي للاختناق الاقتصادي ومرحلة التجويع الذي يعاني منه الشعب والدولة السورية اليوم إلا في حالة واحدة أن يتم تفعيل هذا الحصار والمساهمة بتنفيذه من قبل قيصر روسيا بوتن. ترافق هذا الحصار، ووضع ميناء طرطوس تحت اليد الروسية، وحرق المحاصيل الزراعية في الشمال السوري ، وتلاها حرق الغابات والأحراج وأشجار الزيتون في الساحل السوري، لإطباق الحصار القيصري الأمريكي ، على الاقتصاد السوري وإرهاق الدولة السورية لدرجة الاختناق ولا سبيل إلا الاستعانة بروسيا، لنكون ( كالمستجير من الرمضاء بالنار ) وهنا تم حصار القيادة السورية لتتموضع بالموقع ،الذي لا تستطيع رفض العرض الروسي، إما عملية السلام مع إسرائيل، وإما الموت جوعا.
وما تريده روسيا بالمرحلة الحالية واضح وبسيط ،حل سياسي للحرب على سورية وخلق استقرار عسكري وأمني في المنطقة بشكل عام وفي سَورية بشكل خاص،
وهنا تقاطعت المصالح الروسية مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية ، الأمن والسلام في سورية ومع سورية وترجمته ( اتفاق سلام بين سورية و إسرائيل) مقابل فك الحصار،. إعادة الإعمار، تعويض سورية من أموال الخليج عن خسائر الحرب، وأعتقد عودة الجولان المحتل الذي قدم للراحل حافظ الأسد . وبذلك استطاع بوتن أن يقدم لأمريكا وإسرائيل ما عجزت عنه كل ٱلة الحرب الأمريكية و الإسرائيلية وحلفاؤهم من تركيا وأوروبا والإمارات وقطر والسعودية . نعم استطاع بوتن تنفيذ أجندة عجزت عن تنفيذها داعش وجبهة النصرة والجيش الحر و ٱكلي لحوم البشر والإرهابيين.. واستطاع بوتين أن يقدم لإسرائيل و أمريكا ما عجز عن تقديمه الخونة السوريين بكل انتماءاتهم، ويتمثل ( بتفكيك تيار المقاومة)
القيادة السورية بتموضعها الجديد لم يعد أمامها حل إلا القبول بمعاهدة سلام كانت ترفضها، وصمدت أمام ويلات حرب همجية دامت عشر سنوات كي لا يتم تفكيك محور المقاومة. لكن بوتن الذي أمسك كل خيوط اللعبة استطاع أن يحقق ما عجزت عن تحقيقه عشر سنوات من الدماء، والسحل، وتقطيع الجثث، واغتصاب النساء وإبادة قرى بأكملها، وتدمير سورية.
بوتن بالتأكيد حليف سورية، وقدم دماء على الساحة السورية، وناصر الرئيس السوري ، وناصر سورية ، وكل هذا لا يمكن نكرانه، لكنه ناصرنا من موقعه ومن موقع مصلحته، وغاب عن بال القيادة السورية أن روسيا بوتن اليوم، مصالحها وأحلامها وصراعها تحت مظلة الفكر الرأسمالي، وليست روسيا الاتحاد السوفيتي الماركسية، المتصادمة والمتناحرة فكريا وعقائديا مع الفكر الرأسمالي . والشيء بالشيء يذكر ، كنت قد أرسلت للسيد الرئيس أكثر من رسالة ومنذ عدة أعوام، ألفت الانتباه بعدم المبالغة بالدور الروسي لأن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفيتي الماركسية البارحة ، ومواقف روسيا بوتن ليست متناقضة مع الفكر الرأسمالي ، بل روسيا اليوم تحاول إثبات وجودها ومصالحها تحت سقف ومفاهيم الرأسمالي وبالتحاصص مع أمريكا وليس بالتصادم مع أمريكا .
لا نستطيع اليوم القول بأن بوتن تخاذل ضد سورية بهذا المعنى، بل من مصلحته أن يطالب ويسعى لتحقيق استقرار أمني وعسكري في سورية، ويضمن مصالحه في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام وسَورية بشكل خاص، ومن حقه إثبات وجوده أمام العالم كلاعب كبير وأساسي ويضمن مصالح بلاده لأنه لم يأت إلى الساحة السورية ليقوم بأعمال
( السخره) ولم يقف إلى جانب سورية من منطلق العقيدة العربية . بل أتى ليحقق مصالح روسيا المتقاطعة مع مصالح سورية في مرحلة الحرب، ومن منطلق فهمه للصراع السوري الإسرائيلي، وليس من منطلق عروبي
لا تستطيع سورية، والقيادة السورية، أن تطالب بوتين بأن يرى الصراع السوري الاسرائيلي بعيون عربية، وعقائد إسلامية، ولا نستطيع نحن كسوريين أن نلوم روسيا لأنها لا تعادي إسرائيل فجميع الدول والممالك العربية في حالة مصالحة واعتراف وتطبيع مع إسرائيل ، بل العرب بحالة دفاع عن إسرائيل بما فيها الحكومة الفلسطينية.
و الصراع السوري الإسرائيلي بالنسبة لروسيا، نزاع من أجل الجولان، وإسرائيل بالتأكيد مستعدة لحل هذا النزاع بشرط تحقيق عملية سلام مع سورية، وكلنا يعلم أن إسرائيل سبق وأن قدمت الجولان كاملا إلى الراحل حافظ الأسد.
وفي الوقت الراهن لا نستطيع التحدث عن تفاصيل السلام( إن صدق تحليلي ) قبل أن تضعنا القيادة السورية أمام تفاصيل الاتفاق المطروح . وهذا ما نطالب به القيادة السورية اليوم أن تضعنا أمام التفاصيل بشفافية ، لا أن تترك الجوع والفقر كحالة تمهيد للشارع والشعب السوري، وننتظر لنعرف كيف سيتم طرح قضية الجولان . لكن أعتقد أن الجولان عائدة بشكل كامل إلى حدود ماتبقى من بحيرة طبريا وهذا أقل الإيمان ، وهكذا يكون بوتن استطاع تفكيك محور المقاومة.
كل الأطراف تحتاج إلى ترتيب بيتها الداخلي لطرح عملية التسوية ، وتحتاج إلى حوامل لهذه التسوية، وأعتقد أن الدولة السورية ستخطب ود المتدينين بهذه المرحلة لأنهم يشكلون مع البعثيين وأحزاب الجبهة الوطنية الحامل لهكذا مشروع .
اليوم نحن نمر بمرحلة تسمى مرحلة تقديم حسن النوايا من الأطراف المعنية،.. وسَورية قدمت بعض الخطوات منها (تسريح عدد من القوات المسلحة إضافة إلى إصدار مرسوم يحدد مدة الخدمة الإلزامية وترافق مع طرح قبول البدل الداخلي بشروط محددة .
بالمقابل نجد الحديث مجددا عن الجولان بأنه تحت الاحتلال في المحافل الدولية،.. التحدث عن العقوبات الاقتصادية وضرورة إعادة النظر بها ومن ثم رفعها عن سورية، الوعود بإعادة الأعمار والمهجرين وتدفق أموال خليجية . التحدث عن افتتاح بعض السفارات الخليجية، تغير موقف السعودية وفتح خط الترانزيت أمام الشاحنات السورية، زيارات عدد من الوفود الأمريكية بشكل سري إلى سورية .
اختم بالقول اننا خلف قيادة الرئيس بشار الأسد، ونأتمن الوطن والروح معه ، ونرجوا من سيادته عدم السماح بتهميش البسطاء الذين كانوا درعه الحقيقي ودرع سورية المحميه بمصطلح ( سوا ) لأننا سوا على الحلوه والمره.
ابراهيم الحمدان