حلب 2013 – 2019
وليم ياسين عبد الله
كان البرد ينهش سكان “حيّ النيرب” بلا رحمة، ظلام داكن وهدوء ثقيل إلاّ من بعض القذائف التي تنطلق أو تسقط بين حين ٍ وآخر يتخللها عشرات رشقات الرصاص الطائشة.
جلست أم عمر بالقرب من النافذة طوال النهار، تمسك الهاتف النقال بيدها منتظرة أن يتصل ابنها “عمر” بها، فقد اعتادت على أن يتصل بها كل نصف شهر والآن هو موعد اتصاله، لكنه لم يتصل.
عاشت أم عمر على الكذبات التي تقولها دائماً لكل زعماء الميليشيات المسلحة في حيّها الذين يسألون مراراً عن ولدها وهي تقول أنه تائه منذ أشهر عديدة ولا تعرف عنه شيئاً، وتعيد ابنتها “بتول” نفس الكلام وكأنها ترمم الثغرات التي يحدثها الخوف في صوت والدتها، فويلٌ لهم إن علم زعماء الميليشيات أنّ “عمر” هو جندي في الجيش السوري.
اقتربت بتول من والدتها ووضعت يدها على كتفها قائلة:
-ابتعدي عن النافذة يا أمي، فقد تسقط قذيفة بين لحظة وأخرى وتصيبك شظاياها.
-لا أستطيع يا بتول، فأخوك عمر لم يتصل بعد، أخشى أن أبتعد عن النافذة فتذهب التغطية بلحظة اتصال عمر. قالت الأم وهي تنظر إلى شاشة الموبايل ومن ثم تحركه يميناً ويساراً كأنها تلاحق الشبكة كي تمنعها من الهروب.
لم يطل انتظار الأم كثيراً، فقد رنّ موبايلها، وسرعان ما أجابت على الاتصال لتتفاجئ أنّ المتصل هو جندي في الجيش ، يخبرها أن عمر قد استشهد صباح اليوم.

سقط الموبايل من يدها لم تعد تعرف ما تفعل أتصرخ وتولول أم تضرب نفسها،كان الخبر ثقيلاً أكثر من الظلام ومؤلم أكثر من الجوع، أمسكت بتول الموبايل وتحدثت إلى الجندي وأخبرها أنهم سيرسلون جثمان عمر مهما كلف الأمر، فهناك أصدقاء يمكنهم أن يوصلوا الجثمان إلى منزلهم.
مضت الأيام كأنها أعوام، وفي ليل مظلم، وصل بعض الأشخاص إلى منزل عمر مع جثمان الشهيد، أدخلوه إلى المنزل وغادروا تاركين خلفهم أم ثكلى تنوح بألم فوق جثة هامدة لا روح فيها وفتاة بعمر الورد تستند إلى الحائط وتنظر للأعلى باكية دون أن تصدر صوتاً…
لم تمض ِ ساعة على وصول جثمان عمر حتى بدأ الطرق على الباب بقوة، سارعت الأم وابنتها إلى إخفاء جثمان عمر تحت السرير الحديدي ووضعوا فوقه بعض الأغراض كي لا يظهر منه شيء، كفكفتا دموعهما وتظاهرتا بالهدوء ثم فتحت الأم الباب ليدخل شقيقها بكامل سلاحه وصوته يهدر كالبحر سائلاً:
-أين عمر؟
أجابت الأم كالعادة أنها لا تعرف عنه شيئاً، واجتهدت بالتظاهر بأنها على طبيعتها رغم الألم الذي كان يعتصر قلبها، فجثمان ولدها أمام عينيها وهي عاجزة على أن تبكيه كما تفعل الأمهات.
جلس شقيقها فوق السرير الحديدي وقال مهدداً:
-إن علمت أنك تخفين أمر عمر عنّي فسأقتلك وأقتله عندما أراه، كان عليه أن يكون مع جماعاتنا الجهادية وأنا أشك أنه يحارب مع الجيش.
لم تجب الأم بشيء وكذلك بتول لم تفعل.
غادر الشقيق المنزل فانفجرت الأم والابنة باكيتان من القهر، فكم هو مؤلم أن يُحرم الإنسان من حق الحزن؟!!!، في كثير من المناطق الآمنة كانت تُقام الأعراس على جثامين الشهداء ، أما والحال في هذه المنطقة الساخنة فكان عليهم أن يخفوا الجثمان عن أعين الآخرين، وكم هو صعب على الأم أن تتظاهر بالراحة وولدها مسجىً أمام عينها لا روح فيه!!!
مضت السنون ونزحت الأم مع ابنتها من المكان ، انتقلتا إلى طرطوس ثم عادتا إلى حلب بعد إعادة الأمان إليها، ولكن لم تعودا إلى النيرب خوفاً من بطش من بقي فيها، فذهبتا إلى مساكن الزهراء، وهناك بقيتا حتى جاء اليوم المشئوم وهجمت الفصائل المسلحة القادمة من ادلب بأعداد هائلة، هرب المدنيون من بطش الفصائل المسلحة لكن وقوف بعض الجنود وعلى رأسهم “باسل قرفول” في وجه هذه المدّ غيّر وجه المعركة كليّاً، فقد تمكن باسل ورفيقيه “خطاب” و”عباس” من تفجير ثلاثة مفخخات قبل وصولها إلى أهدافها المنشودة ولكن لم يحالف الحظ باسل وعباس ليفجرا المفخخة الرابعة قبل اقترابها منهما، فانفجرت وقذفت باسل من على سطح البناء ليسقط على سطح قرميدي ويسقط عباس في مكان آخر أمام نافذة أحد المنازل.
كان ذلك المنزل ل بتول وأمها، لم تغادرا المكان عندما بدأ الهجوم، وما إن رأت بتول أحد الجنود الجرحى مرمياً بالقرب من نافذة منزلها، خرجت من النافذة وزحفت حتى وصلت إليه، وحاولت سحبه لكنها لم تنجح بسبب وزنه الثقيل، فعادت إلى المنزل وأخذت ما لديها من قطع قماش نظيف ومعقمات وعادت تحت القصف زحفاً حتى وصلت إلى الجندي الجريح، وضمدت جراحه ومنعت الدم من النزف.
مسحت على رأسه وعادت زحفاً إلى المنزل لتجلس إلى جانب أمها وهما تتذكران بطولات عمراً التي عادت لتتجسد في هذه الملحمة العظيمة التي قادها باسل ورفاقه.
انتهت المعركة ولم تكتب النجاة ل باسل، فأثناء اندفاع جنود الجيش تقهقر المسلحون وتراجعوا للخلف وخلال انسحابهم لمح أحدهم باسل قرفول وهو مرمي على سطح القرميد وكان لا يزال على قيد الحياة، اقترب منه وأطلق عليه النار حتى ارتقى شهيداً.
دُفنت الحكاية هناك، في جنوب حلب، عمر الذي لم يُزّف شهيداً كما يليق به، وباسل الذي صنع معجزة مع رفاقه ، وبتول ووالدتها اللتان عاشتا لحظات الموت بكل تفاصيله دون أن يسمحا لمشاعر البؤس داخلهما أن تخرج فكانت غصّة أبديّة لا تغادرهما…