قرأت مقال هذا الكاتب المصري وكأنني أعثر على جوهرة لامثيل لها في العالم .. منذ زمن طويل لم نقرأ في مصر مثل هذه الكتابات .. ليس لأنها غير موجودة ولكن التيار الساداتي ومعه الاعلام الخليجي يملك كل وسائل الخطاب والاعلام التي لاهم لها سوى اظهار ان مافعله السادات كان عبقرية وقراءة واستشرافا لما يحدث اليوم .. وأن حكم ناصر هو الذي جلب الكارثة علينا جميعا .. وخلال فترة كامب ديفيد تمت عملية مسح للذاكرة المصرية بشكل غريب .. بل ان هناك اصرارا على الحاق كل الرزايا بزمن ناصر .. حتى ان قصة عن جريمة عادية او فساد تتم الاشارة اليها على انها قصة من زمن عبد الناصر .. في اساءة مقصودة لذلك الزمن وكأن زمن أنور السادات جاء بالمن والسلوى ولم يكن فيه فساد او جرائم ..
ان عملية الضرب بشكل متواصل على زمن ناصر لم تتوقف .. ويتم تضخيم هزيمة 67 بشكل مقصود حتى انها تحولت الى عقدة متأصلة في نفس المصري وصار ينقلها الى أبنائه مثلما تأصلت عقدة أوديب في نفس الرجل كما يرى فرويد .. رغم ان هزيمة حزيران هي معركة صغيرة في حرب كبرى وكان لها ان تنتهي خلال سنتين او ثلاثة ولم يعش ناصر ليرى جيشه ينهي ذلك الفصل الرديء .. بل قاتل السادات بالجيش الذي كان أعده عبد الناصر للعبور .. وصنع به العبور .. وصنع أيضا من جماجم الشهداء فيه كارثة كامب ديفيد التي كانت الهزيمة الكبرى والتي بسببها لانزال ندفع الثمن الباهظ في الشرق لأن مصر الزعيمة الطبيعية للمنطقة العربية غابت في غيبوبة طويلة .. وهذه المعاهدة هي التي ولدت اوسلو ووادي عربة وهي التي ولدت حرب الخليج وعاصفة الصحراء ومنها حدث سقوط بغداد ووصول الربيع العربي المشؤوم ..
هذا أول مقال أقرؤه منذ زمن فأحس انه كثيف جدا ومركز جدا ودقيق جدا وهو يختصر مليون مقالة ثرثارة عن مصر .. واستطيع بقدر كبير من الثقة أن اقول انه بحجم مكتبة كاملة وهو يشرح لك ماذا حل بمصر وبالشرق بعد كامب ديفيد .. اقرأ وتمتع:
كتب محمد أبو زيد:
صرت خبيرا بسيكولوجية السوريين ، فما عدت أغضب من إنفلات طائش ، أو تعليق منزوع الكياسة ..لكن ما اريد الوقوف عنده ومحاولة إيجاد تفسير له ، هو محور العتب المحق للشعب السورى على مصر ، والمصريين ..
مصر الرسمية خذلت سوريا ، ليس اليوم وإنما منذ أن فعل السادات فعلته الشائنة ..ولان سوريا ( ومعها الجزائر ) هما البلدان العربيان اللذان يعيدا للأذهان عروبة ناصر ، ومواقفة الراديكالية ..لذا فإن إجتنابهما من قبل كل الانظمة التى حكمت مصر منذ السادات وحتى اليوم ، هى سياسة ثابتة . فمازالت سوريا ومعها الجزائر تعتبران إسرائيل عدوا ، وأمريكا خصما إستعماريا .. وهو نهج يتصادم مع نهج التيه المصرى ..فالنظم المصرية المتعاقبة لا ترتاح للنظام السياسى السورى الذى لم يرى فيه السادات عيبا ليبرزه سوى التطاول على الطائفة العلوية الكريمة التى ينتمى إليها خالد الذكر القائد حافظ الأسد ، وهو سلوك يؤكد إكتمال حلقة الإنقلاب على كل شئ ..فالأزهر هو من أفتى بصفة جازمة بأن العلويين طائفة مسلمة ..ولكن سفه السادات ونهجه المدمر ماكان ليقف عند ذلك …

وإذا شئنا تحديد لحظة بداية إنغلاق المجتمع المصرى عن محيطه العربى ، بل والأفريقى فإنه يمكن تحديدها ببروز النهج الإستسلامى الرخيص لأنور السادات ( رحلة القدس _ مفاوضات السلام – كامب ديفيد ) والمقاطعة العربية الشاملة لمصر ..وقتها إنبرى مثقفوا السلطة فى تكريس عزلة مصر بالإنحياز إلى فرعونيتها ، وقطع كل الاواصر مع عروبتها ..بينما كان السادات ينقض بنفس حماس عباس الاول حفيد محمد على لتدمير معالم الناصرية ، كما فعل عباس الاول مع تجربة جده ، فحارب اليسار بالإخوان المسلمين ، وإستبدل فلسطين بأفغانستان ، وأنقض على العلم والتعليم وكافة المفاهيم البناءة التى ترسخت لدى المصريين على مدار آلاف السنين .. وشرد القوة العاملة المصرية تحت شعار حلول المبادرة الفردية مكان دور الدولة ..فتم إصطياد القوة العاملة المصرية فى بلاد الخليج المتخلفة والتى يسيطر عليها راس المال الدولى بأنماط قيمه ..فعاد الفلاح ومعه الفيديو والكاسيت ، وجرف ارضه ، فأنتكست الارض والزراعة والفلاح ..ونفس الشئ بالنسبة للطبقة العاملة .. وتضعضع البناء الإجتماعى وتفسخت الاسر ، وشاعت قيم اللى معاه جنيه يساوى جنيه ، وشيلنى وأشيلك ، وطنش وأنسى ..بل ونجح فى ضرب منظومة الفن المصرى الذى ربط اجزاء الوطن العربى فى الصميم ..فكان المسرح الذى يسخر من كل المقدسات الأجتماعية كدور المعلم ، ودور العلم …وكانت سينما المقاولات ، ثم الطرب على طريقة سلامتها ام حسن ، والاساتوك ..وغيرها ..
فى ظل هذه الاجواء التى تخاطب العين لا العقل ، والأذن لا القلب ، والذات لا الاخ والشقيق ..بدأت مصر تشق طريقها إلى الحضيض ..وظهرت أجيال متعاقبة فاقدة للإحساس بذاتها وبموقع بلدها ودورها ، ومحيطة الجيوبولتيكى ..وهى ذاتها الأجيال التى تعتبون عليها .
