“تشرين2012- آذار2013”
((وبينما كان يوضب حقيبته ، اقتربت شقيقته منه وهمست في أذنه:
-المرة الجاية بدّي اعزمك ع مطعم مرتب وتحكيلي.
أغلق حقيبته وحملها على كتفه ، ثم نظر إلى شقيقته وقال مبتسماً:
-إذا رجعت.
عانقها وعانق والدته وخرج من المنزل شارد الذهن متجهاً إلى رفاقه في الغوطة الشرقية.))
كان من المفترض أن يبقى “مهند” عشرة أيام في المنزل، هكذا هي مدّة إجازته كما كان يدّعي ولكن إحساس والدته أخبرها أنّ “مهند” لا يقول الحقيقة، الحقيقة التي كانت أنّ هذه الأيام العشرة هي نقاهة وليست إجازة كما قال.
قبل ثلاثة أيام من هذه اللحظة وصل “مهند” إلى المنزل حاملاً حقيبته الملوثة بالغبار وبعض قطرات الدم، لم تصدق عائلته أنه قد أتى بعد غياب عام كامل عن قريته، عانقته والدته التي سرعان ما جفلت دون أن تعرف السبب، “مهند” لم يكن بخير هكذا أخبرها قلبها، ولكنها صمتت كي لا تزعجه بقلقها عليه، ففي الحرب أيضاً كان قلق الأمهات ثقيلاً على أبنائهنّ في الجبهات، لا بل كان الأبناء يخافون قلق أمهاتهم أكثر من قذائف الهاون أو الصواريخ الحرارية.
مضت الأيام الثلاثة الأولى غريبة، “مهند” لا يبتسم كعادته، رنّ هاتفه النقال أجاب “مهند” وهو يمضغ لقمته بسرعة ثم توقف فجأة عن المضغ وكأنه غصّ بها، انتهى الاتصال، نهض “مهند” وقال:
-بدّي التحق بسرعة.
التحق “مهند” برفاقه أو بالأحرى التحق بمن تبقى من رفاقه…

بعد كل إجازة كان يعود الجندي إلى الجبهة ليفاجئه رفاقه بأخبار استشهاد بعض الرفاق في ساحات الوغى…دارت رحى الحرب بقسوة كبيرة وفي كل يوم جديد كانت الحرب تزداد صعوبة وكأنّ العدو يزداد بدل أن ينقص.
بدأ الجو يميل إلى البرودة كما هي العادة في هذا الوقت من العام، كان اصفرار الورق في فصل الخريف قاتماً أكثر من اللازم ولم يكن هذا الورق يتفتت تحت جنازير الدبابات المتقدمة لخوض معركة أُعلنت بدايتها ولن تُعرف نهايتها كما كان يبدو…
في أول أيام عيد الأضحى طلب المسلحون هدنة فتوقفت الحرب احتراماً لطقوس الدين معلنةً بذلك أنّ الحرب السورية عبثية بالمطلق، فأي احترام للدين والناس تُقتل وتخطف باسمه وما إن يأتي أحد الأعياد الدينية يتوقف القتلة لإحياء طقوسه؟؟؟!!!!
اتصل “مهند” بأمه وهنئها ومن ثم قال:
-هالعيد ما في هدايا ياموو، بس في بوسات للكل .
كان صوته مبحوحاً والتعب ظاهرٌ فيه، و رغم أنه نجح بإخفاء آلام إصابته عن أمه لكنه لم ينجح بإقناعها أنه بخير، فالأم لا يخطئ إحساسها، ولكن ماذا يفيد إحساس الأم إن صدق أو خاب في الحرب؟؟؟ فلا أحد يمكنه ردع الموت إن أتى…
في اليوم التالي نقض المسلحون الهدنة وبدأت الحرب من جديد، تقدمت قوات الجيش متجهة إلى موضع لمقاتلي جيش الإسلام الذي كان في بداية تأسيسه في ريف دمشق، ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان، أعداد كبيرة من المسلحين نصبوا كميناً عند محطة الكهرباء في زملكا و هاجموا القوات المتقدمة بصواريخ حرارية وكان نصيب “مهند” أن تتلقى دبابته الصاروخ الأول ويرتقي شهيداً في ثاني أيام عيد الأضحى.
استشهد مهند دون أي مقدمات، هكذا فجأة كما هي حال الكثيرين في الحرب، بالأمس كان يتحدث ويضحك ويهتم بالآخرين، واليوم هو نائمٌ نومته الأبدية،، أي ألم ٍ هذا الذي صنعته الحرب في سورية ولم تقدر الابتهالات إلى الله أن تخلّص الناس من هذا الألم…
في منزل “مهند” هدوء ثقيل، عيون شاردة مليئة بالدموع التي أبَتْ أن تنزل قبل وصول مهند إلى بيته…
لم تتمكن شقيقة “مهند” من تنفيذ عزيمتها له ولم تقم أمه (بتسخين الحمام) كما كانت تفعل في كل مرة عندما يأتي أحد أبنائها إجازة، لقد أتى الموت ليغيّر كل شيء.
دُفِنَ “مهند” في أواخر الخريف وكأنه يتمنى أن يكون ورقة الخريف الأخيرة التي تسقط في هذه الحرب.
انتهى الخريف ولم تتوقف الحرب، أتى الشتاء وانتهى دون أن تطفئ أمطاره نيران الحرب، وبين الخريف والشتاء لم تنقطع والدة مهند عن الذهاب كل صبح إلى قبر ولدها لتتحدث معه في الصباح قبل أن تبدأ يومها المعتاد، وفي يوم عيد الأم ذهبت إلى ضريح ولدها لتسمع تهنئته لها، فأيُّ فرق بين أن يأتي الولد إلى أمه في عيدها أو تذهب هي إليه؟
في ذلك الصباح عادت إلى المنزل وهي تحمل كل حزن العالم في قلبها، فكم هو صعب أن تقضي الأم عيدها هي فوق التراب وولدها على بعد متر ٍ واحد منها تحت التراب؟؟!!
جلست أمام المنزل شاردة الذهن تتأمل الورود تارةً وتتأمل هاتفها النقال تارةً أخرى وكأنها تنتظر رنينه وفعلاً لم تمض ِ بضع دقائق حتى قطع شرودها رنينه فأجابت بلهفة:
-أهلين يامو مصطفى
-كل عام وإنت بخير إمي، انشالله كل سنة وإنت تاج راسنا ، هنئها “مصطفى” وهو يحاول أن يكمل الطقوس التي كان “مهند” يفعلها في كل مناسبة مثل هذه، لكن لم تلبث أمه أن بكت وقالت له:
-ما عايدني أخوك “مهند” اليوم، لأن ما كان بيقدر يجي لعندي، لهيك رحت انا لعندو..
غصّ “مصطفى” محاولاً منع نفسه من البكاء، فهو كان يحاول أن يظهر دائماً رابط الجأش لا ينال الحزن منه كي لا يسبب ألماً أكبر لأمه بعد فقدانها لشقيقه “مهند”، استجمع قواه وكفكف دموعه وقال لأمه:
-إمي نحنا طالعين مهمة، ادعلينا الله يوفقك.
ذهبت التغطية فجأة، فأغلقت الأم هاتفها وهي تدعو لابنها الثاني، وفي تلك الأثناء كان “مصطفى” يأخذ موقعه في برج الدبابة وهو يقرأ بعض الآيات القرآنية كما كان يوصيه “مهند” أن يفعل قبل المهمات القتالية.
انطلق “مصطفى” مع رفاقه وما هي إلا ساعات حتى وقعت القوات في كمين أعدّه المسلحون لهم، بدأت الصواريخ الحرارية وقذائف الهاون تتساقط عليهم من كل حدب ٍ وصوب وكأن يوم القيامة قد قام فعلاً، قام سائق الدبابة بحركة دورانية وبدأ “مصطفى” بإطلاق النار بغزارة لتغطية رفاقه الذين بدؤوا بالتراجع، ففي هذه الحالات من الكمائن كان لا بدّ من كبش فداء كي ينجو الآخرون.
كان “مصطفى” و طاقم الدبابة هم كبش الفداء في هذه المعركة، عُطِبَت الدبابة، ومن ثم انفجر برج الدبابة واستشهد “مصطفى” وتمكنت بقية القوات من الالتفاف على المسلحين والسيطرة على المكان ثم سحبوا جثامين الشهداء الذين ارتقوا في هذه المعركة السريعة.
في تلك الأثناء كانت والدة “مصطفى” لا تزال تبكي على “مهند” لأنها لم تعتاد على أن تمضي يوم عيد الأم دون اتصالاته، لم تكن تعرف أنها بعد قليل ستتلقى اتصالاً آخر يجعلها تبكي أكثر وأكثر.
رنّ الهاتف (ألو هون بيت “مصطفى محمد”؟ … العمر إلكن، استشهد “مصطفى” بالمعركة وكان بطل بكل معنى الكلمة )
وقعت الأم أرضاَ بعد سماع الخبر، وفي اليوم التالي لم تبك ِ عندما وصل جثمان “مصطفى”، بل ركضت لملاقاته وهي ترقص كالمتصوفين ، وبقيت تدور حتى أغمي عليها ، وكيف لها أن تحتمل استشهاد ابنها الكبير في عيد الأضحى وبعده بأربعة أشهر يستشهد شقيقه الأصغر بعيد الأم، أي عيد أضحى وأي عيد أم هذان اللذان تحوّلا إلى فاجعتين في أشهر قليلة؟؟؟؟
في اليوم التالي لم تكن والدة الشهيدين في المنزل، لم يعرف أحد أين هي، بدؤوا البحث عنها في كل مكان، وبعد عدة ساعات عثروا عليها في مكانٍ ما من الطبيعة تناجي الله وتطلب منه أن يعيد أولادها إلى الحياة، فلعلّ الأساطير القديمة قد تكون صحيحة ويعود الموتى إلى الحياة مع ولادة الربيع…
مضى الربيع وأتى الصيف ولم يعد “مهند ومصطفى” لكنهما لم يبخلا على أمهما فأنبتا من جسديهما وروداً غطّت قبريهما وفاحت عطراً زكياً يسكر كل من يشمّه وكأنه رائحة الجنة على الأرض، وهكذا بقي مهند ومصطفى يحيطان بأمهما وأصبحا عطراً لا يزول أثره مهما تبدّلت الفصول.