لن يكتب عن الحرب الا المحاربون لان الحرب لن تعطي مذكراتها الا لهم .. ومهما كتب عنها المؤرخون فان الحرب لن تعطي مذكراتها التي كتبتها بخط يدها ودمها الا لمن يصنعها .. فمن سيكتب عن الرصاصة الا من يطلقها ويعطيها الحرية؟؟ .. ومن سيكتب عن الجرح الا من يداويه ويواسيه ويلمسه ويضمده؟ ومن سيكتب عن الحب الا المحبّون ؟؟ ..
عندما أسمع قصص الحرب في بلادنا فانني أدهش لأنها لاتتحول الى افلام عالمية وروايات عالمية بل تختفي كما لو ان الرمال المتحركة تبتلعها .. وتذوب وكأنها تماثيل الثلج .. او ان الثقوب السوداء في الكون كأنها صممت لابتلاع ذاكرتنا في الحرب السورية .. كثير من قصصنا تبتلعها الثقوب السوداء في اعلام العالم الذي تحول الى ثقوب سوداء تختفي فيها حكاياتنا ولاتخرج منها الا الافاعي السوداء .. فثقب الجزيرة الاسود وثقوب اليوتيوب وكل ثقوب الخليج السوداء لاتخرج منها الا الثعابين ..
تخيلوا أن عشرات آلاف القصص استشهدت أيضا كما استشهد الجنود ودفنت كما دفنوا في الصحراء .. فاذا استشهد اصحاب الحكايات فان من العار ان تموت الحكايات .. فالحكايات خلقت كي لايموت أصحابها لأنها ارواحهم التي تطوف .. واذا قتلناها فاننا نقتل أصحابها ثانية ..
فمنذ فترة علمت من أحد المقاتلين الجرحى انه لو لم يتم اسعافه في ارض المعركة لكان قد فقد حياته بشكل حتمي .. ولكن عندما سألته عن التفاصيل أحسست ان الامر صعب التصديق .. لأنه كان يتحدث عن اصابات بالغة وعن دخوله غرفة عمليات جراحية في ارض المعركة .. وكان يتحدث عن جراحين مهرة وغرفة عمليات حقيقية على خط النار .. وقررت ان أستفسر عن الامر لأن ماذكره لم أقرا عنه في اي مذكرات حربية لجنرالات الحروب في العالم .. فربما كان الجندي الجريح مشوشا اثناء اصابته .. وكي أقطع الشك باليقين قررت ان أطرح شكوكي واستفساراتي على اعلى سلطة طبية عسكرية في الجيش السوري .. وهو اللواء الدكتور عمار سليمان .. رجل الظل الذي لايحب الاضواء .. ولكن الاضواء اذا بحثت عنه لاتقدر ان تجده بسهولة لأنه يتحرك في جبهات متعددة مثل طائر مهاجر يبحث عن الشمس .. وهذا الطائر المهاجر كانت المعارك هي الشمس التي يهاجر اليها ..
في حديثي معه عن مذكرات الحرب توقفت امامه عما سمعته من الجرحى .. فلم يبد عليه الاستغراب بل هز رأسه وقال دون ان يبدو عليه التفاخر والتباهي وقال شارحا بشكل مبسط بأن الجهاز الطبي العسكري السوري وجد نفسه في الحرب أمام وضع يستحيل التعامل معه وفق النظريات العسكرية الطبية التقليدية المستمدة من النظريات والدروس العسكرية الروسية والامريكية وهي المدارس والنظريات التي تعتمدها جيوش العالم .. فالنظريات العسكرية الروسية مستمدة من تجربة الحرب العالمية الثانية ولكنها معتمدة اساسا على حقيقة استثمار الجغرافيا لصالح الجيش الاحمر لأن العمق الهائل للاتحاد السوفييتي سمح بوجود جيش طبي في الخطوط الخلفية للجيوش تنقل اليها الاصابات البالغة بأمان بعيدا عن تهديد العدو والتي كانت تعالج متأخرة على العموم .. فيما اعتمد الاميريكيون على فعالية الحوامات والاليات المدرعة ووفرتها وعمليات الاجلاء السريع للاصابات تحت غطاء ناري جوي كثيف.. وكان هذان العاملان غير متوفرين في الحرب السورية التي كانت فيها نقاط الاحتكاك مبعثرة جدا ولاتسمح بخطوط التنقل الآمنة نحو خطوط خلفية تتعرض للكمائن .. كما ان انتشار المسلحين وتسليحهم المتطور جعل عملية الاجلاء الفعال حتى الى خطوط خلفية محدودة وغير آمنة على الاطلاق .. اما المشافي الميدانية فانها تفتقر دوما الى قدرات الجراحات الفعالة .. والمشافي الميدانية تفيد كمرحلة اسعاف لاتفيد في الاصابات البالغة ..

ولذلك اجترح الاطباء العسكريون السوريون نظرية عبقرية في طب الحرب معتمدة على ظروف الحرب السورية التي كان كل شيء فيها جديدا في نظريات الحروب الكلاسيكية الحديثة .. فهي حرب غير متناظرة لانها ضد جيوش مرتزقة وارهابيين وانتحاريين منتشرين ضمن ازقة وشوارع وفي الصحراء مع سلاح واستطلاع متقدمين تسبقهم تكنولوجيا اعلام غربي فائق التطور .. في مواجهة جيش نظامي متدرب على حروب الجبهات المفتوحة والعمق الخلفي الأمن ..
وكان التأخر في اجلاء الاصابات مشكلة تجعل معدلات الاستشهاد مرتفعة او الاصابات المسببة للعجز تتحول الى مشكلة اكبر .. فقرر الجهاز العسكري الطبي ان يتم بناء مستشفيات بامكانات كاملة وغرف عمليات مقاتلة .. بحيث ان المقاتل يكون مطمئنا انه ليس وحده في المعركة وان المشافي بكامل تجهيزاتها تكون في قلب المعركة خلفه مباشرة واذا اصيب فانه سيتلقى افضل علاج فوري .. وابتدع الجهاز الطبي طريقة بسيطة وهي تحويل حاويات الشحن البحرية المتينة الى أقسام مشاف متنقلة بعد عزلها حراريا من الداخل بطريقة ذكية ..





وفي الداخل غرف عمليات مجهزة بكل التقنيات والتجهيزات .. وينتقل اليها المصابون فورا من ساحة القتال لتلقي العلاج من قبل جراحين اختصاصيين وفريق طبي عسكري وبهذه الطريقة كانت المشافي الكبرى هي التي تنتقل بامكاناتها الى قلب المعركة لتشكل مايسمى بالمشفى المقاتل .. وهي نظرية عسكرية جديدة خاصة بنا لاشك انه سيتم دراستها في الحروب القادمة بين جيوش العالم ..
في سياق الحوار عن هذا التطبيق العسكري الطبي علمت ان الاميريكيين يركزون على هذه المؤسسة العسكرية المقاتلة وان احد الاهداف مابعد الحرب هو قتل هذه المؤسسة المقاتلة التي يجب تدميرها من وجهة نظر الجيش الامريكي .. ولذلك فان قانون قيصر يخصصها بالكثير من المواد والقيود الصارمة .. بحيث ان المشافي العسكرية السورية تحديدا محرومة من استيراد أي شيء حتى الخيوط الطبية والادوية والمسكنات وقطع الغيار للادوات الطبية .. لقتل الجندي السوري حتى في زمن السلم .. وصار قتل المشافي العسكرية بالحصار هدفا غربيا اساسيا من اهداف مابعد الحرب
ومع هذا فان نظرة الثقة التي بدت على محيا اللواء عندما سألته ان كان قلقا جعلتني احس بالرضا والطمأنينة وحصلت على اعظم جواب من صمت رزين لايحب الاستعراض وكشف الاسرار وهو يعلم ان الايام ستكشف لي عن طريقة هذه المؤسسة في قهر قيصر .. قيصر الذي سيقهر على ايدي جنرالات وشباب سورية ..
ومع هذا فان أكثر ماأعجبني في تلك المصارحة هو هذا الفهم العميق للمشاكل التي تلت الحرب بل والاحساس بالهمّ اليومي الذي يشغل الجنود والكادر الطبي في حياتهم .. حتى ان المشاكل الصغيرة التي يظن الجنود والممرضون والاطباء الشباب انها تعنيهم وحدهم وجدتها على الطاولة بأدق التفاصيل وكأنها قضايا استراتيجية والسبب هو فلسفة راسخة وهي ان الجندي وكل من هو منخرط في الحرب هو اهم وأغلى عنصر في المعركة وهو من ستواجهه اميريكا وليس سلاحه اذا فكرت في الاقتراب ثانية ..
اتمنى من كل قلبي في عيد الحيش العربي السوري ان تطلق ادارة الخدمات الطبية اسرارها الكثيرة وان يتم نشر الوثائق بالتفاصيل الدقيقة التي عرفت شيئا يسيرا عن هذه المرحلة لانها ان لم تنشر فانها ستستشهد وتموت .. وتدخل الثقوب السوداء بدل ان تكون نجوما ترصع السماء .. وتوشّي عباءة التاريخ بالذهب ..
ياصديقي .. رصّع السماء بالقصص والروايات السورية .. والبطولات .. والمعجزات .. واطلق ارواح الحكايات .. انها أرواحنا جميعا ..
لا نريد للمؤسسة العسكرية أن تفشي أسرارها،، و هي لم و لن تدفن في خبايا النسيان ، فهذه أسرار عسكرية لا تذهب إلا بذهاب المؤسسة نفسها، و حاش لله أن تذهب فذهابها يعني ذهابنا كلنا كسوريين…. شكراً لك على هذه المقالة. التي أظن أن كم المعلومات فيها كافياً لنا كشعب سوري و أقل من كاف لاعداءنا.