أجدني مضطرا بين الحين والآخر الى أن أقوم كما الطبيب بعملية تعقيم وتطهير لأدوات العقل التي تنمو عليها الفطور والطحالب والاشنيات .. مثل التماثيل الذهبية والرخامية يختفي بريقها تحت الطحالب والأغبرة .. ويظنها الناظر اليها سببا من اسباب التلوث ومصدرا للبشاعة ..
علينا ان نعترف ان الثقافة عندما غابت علا الصدأ كل أدواتنا المعرفية .. وصارت مرتعا للجراثيم والامراض التي تفتك بنا .. ولذلك فان الكاتب لايجب ان يكتب كلاما عاديا في هذه الظروف الصعبة التي جففت المياه في نفوس الناس حتى صارت عقولهم مثل المستنقعات الجافة الطينية التي تموت فيها الاسماك والمخلوقات وتصبح مثل أسماك من طين .. كيف لا والماء متوقف عن العقول ..؟؟
ان غسيل الدماغ بالماء العكر والوحل الذي يغرقه بالطين ويغرقه بالملوثات والاصباغ يحتاج غسيل دماغ .. ولشدة ماغسلت أدمغتنا خلال العقود الماضية فان غسل ماعلق من غسولات الماضي لن يكون هينا .. ويحتاج منا ان نعمل ليل نهار .. ونسكب الكحول واللغة الصافية على عقول تشربت بمحاليل غربية .. ويجب ان نعترف ان المهمة لن تكون صعبة وتشبه عملية فطام مدمن عن المخدرات التي اعتاد ان يطعم عقله منها كل يوم ..
منذ أيام سمعت مثقفا أحترمه بمناسبة رحيل الزعيم عبد الناصر يكيل الشتائم للديكتوريات العربية وخاصة القومية الطابع مثل تجربة البعث في سورية والعراق وتجربة عبد الناصر في مصر والقذافي في ليبيا التي تسببت بقهر المواطن العربي واذلاله.. ويلومها على انها السبب في كل مصائبنا .. ولكن هذه النظرة الجاهزة والمعلبة والتي تعود الى مرحلة سابقة والتي في جزء منها نتجت عن عملية تسويق الاعلام الخليجي (الذي هو امتداد خفي للاعلام الغربي والاسرائيلي) .. هذه النظرة ناقصة ورومانسية الا انها ليست بريئة عندما تركز على تجارب رائدة مخلصة حاولت اطلاق النهضة وفشلت ليست لانها تجارب لنظريات فاشلة بل لأن ظروف قيامها لم تكن ناضجة ولان الجيل الذي حملها ايضا يتحمل جزءا من فشلها .. فالتجارب الفاشلة ليست كلها نتاج أفراد ومجموعات بل انتاج مجتمعات وثقافات ..
أنا شخصيا صرت أتأفف من هذه الاسطوانات التي تتلذذ باسترجاع ذاكرة الوجع والصراع .. وتتغنى بالسلام في المجتمعات الاوربية .. وتنظر الى الاوربيين على انهم محظوظون بقياداتهم السياسية الرشيدة التي تهتم بالمواطن الاوروبي .. وكأن هذه السياسات الرشيدة لم تأخذه الى حروب عالمية وحروب مع نصف الدنيا .. وصرت أرى ان هذه النظرة الرومانسية هي شكل من اشكال المرض النفسي الذي أصيب به العرب ويبدو انه جائحة مثل الجائحات التي تصيب البشر كالطاعون والانفلونزا الاسبانية والكورونا .. الا ان العرب ليسوا ملقحين ضد هذا النوع من الفيروسات الفكرية والنظريات الرومانسية الخطيرة التي تسببت بالتهابات الدماغ العربي ..


أنا أنظر الى هؤلاء على أنهم أنصاف مثقفين .. وأنصاف المثقفين مثل الطفيليين الذين يجلسون على موائد الولائم بين السادة .. ولايختلفون عن أنصاف المتدينين الذين أنتجوا لنا فقس الارهاب الاخواني والديني الوهابي وغير الوهابي .. فنصف الدين ليس دينا بل هو لا دين .. وانما هو جهل وكفر .. ونصف الثقافة تشبه نصف الدين وخطورة انصاف المثقفين لاتقل عن خطورة أنصاف المتدينين .. لأن الثقافة عندما تخرج لمواجهة الناس عليها ان تكون عالمة وشاملة في معرفتها .. وهؤلاء مثل اي خبير في المتفجرات او خبير في الزراعة .. لم يقرأ كل شيء وصار يعرف كيف يكشف المتفجرات ولكنه لايعرف كيف ينزع الصواعق فتبقى قابلة للانفجار وهي بين ايدينا لأنه ظن ان المهمة تنتهي باكتشاف المتفجرات والالغام وليس بابطال مفعولها ..
الديكتاتوريات العربية – ودون أن أدافع عن الدكتاتوريات – هي نتاج عملية تطور ونمو ولكن الصراع مع المستعمر الاوروبي له دور حاسم فيها .. فكما ان أنظمة الحكم تتهم بالديكتاتورية فان كل المعارضات العربية التي عرفناها بشكلها الشيوعي والاسلامي كانت أيضا تمارس العنف المدعوم من الخارج .. وهذه المعارضات ديكتاتورية في معارضتها بحيث ان اي خلاف مع السلطة يقتضي التمرد المسلح غالبا .. فمثلا في زمن عبد الناصر تقرر المعارضة السياسية الاخوانية اغتياله في حادثة المنشية عام 54 لأنه اختلف معها .. وتقرر اقامة تنظيم سري لأنه ليس لديها صبر العملية والنمو السياسي الطبيعي .. وعندما يندلع الصراع مع السلطة يلام عبد الناصر على انه تصرف كأي رئيس يقاوم حركة تمرد .. ولايختلف في هذه الحالة عن تصرف أبي بكر ضد قبائل اعلنت الردة والتمرد على دولته الفتية .. تلك نسميها حروب الردة ونثني على أبي بكر لانه تصرف معها بحزم وحفظ كيان الدولة الذي هدده التمرد .. وهذه نسميها ديكتاتورية عبد الناصر التي قهرت المصريين .. رغم ان عبد الناصر هو الرجل الذي حرر معظم افريقيا من الاستعمار وكاد ينجح في تحرير كل العالم العربي لو قيض له الزمان ان يعيش اكثر .. ولكن هزيمته تقررت في الغرب وعملية ازالته كرمز من النفوس في الشرق لاتزال مستمرة .. وهناك عمليات تشويه مستمرة له وتغيير في ملامحه .. لتجعله رمزا مكروها ..


ومثله الرئيس حافظ الاسد الذي واجه ديكتاتورية المعارضة الاخوانية التي لاتقبل الا ان تحكم باسم الشرع واسم الله .. وواجه من خلال الاخوان المسلمين حركة تمرد عنيف للغاية سلاحها القتل والذبح والتكفير دون اي مبرر من الناحية السياسية .. فهو كان خرج من حرب تشرين بإنجاز وطني منتصرا لأول مرة .. وهو الذي اوقف الحرب الاهلية اللبنانية .. ورفض كامب ديفيد والتفريط بفلسطين .. ومع ذلك لم تشفع له وطنيته وقوميته عند الاخوان المسلمين الذين تمردوا مجددا وبعنف غريب فظيع .. رغم ان الاخوان المسلمين تمردوا قبل عهده عام 1964 بعد عام واحد من فقط من وصول البعث الى السلطة عام 1963 .. وكان هذا التمرد عام 1964 استجابة لرغبة ملاك الاراضي والاقطاعيين في حماة الذين لم يعجبهم وصول البعثيين الاشتراكيين للسلطة .. فحركوا الطاحونة الدينية عبر الاخوان المسلمين .. اي ان هؤلاء تحركوا قبل وصول الرئيس الاسد للسلطة .. وبعد وصوله الى السلطة ارتكبوا مجازر لاتخطر على قلب بشر في مدرسة المدفيعة في حلب ثم في حماة .. وعندما يضع الرئيس حافظ الاسد حدا لهذا العنف ينبري المؤرخون وأنصاف المثقفين للحكم عليه يأنه ديكتاتور وتستضيف اوروبة كل ارهابيي تلك المرحلة وتعطيهم لجوءا بدل سوقهم الى محاكمات لاهاي .. وكأن السفاحين الاخوان في حماة كانوا يتسلحون بالورود وليس بالبنادق والمدافع لدرجة ان الجيش لم يتمكن من دخول الاحياء المتمردة الا عندما زج بالوحدات الخاصة وحرب الشوارع وخسر فيها المئات من عناصره .. أما لو ان حركة التمرد العنيفة المسلحة بالبنادق والسواطير هذه قامت في نيويورك وسحقها المارينز فانها ستعتبر نصرا للحرية والعدالة وسيكون تصرف الرئيس الامريكي في منتهى المسؤولية والديمقراطية .. ولذلك نلاحظ ان الديكتاتورية تصنعها المعارضات الديكتاتورية التي تفرض ايقاعا عنيفا للسياسة والعمل السياسي تجر معه الجميع نحو العنف ..
وهاهي مرحلة الرئيس بشار الاسد رغم انه أعلن انفتاح الدولة على الشعب وقلل من صلاحيات الاجهزة الامنية وبدأ مشوار الحياة السياسية نحو مرحلة جديدة تدريجيا نحو استقرار كامل ونحو مجتمع جاهز أكثر لتذوق الحوار السياسي والتفاعل بين المكونات السياسية .. وتراجع عدد السجناء السياسيين بشكل كبير .. الا ان اوروبة خافت من هذا الاستقرار وارسلت اليه كل متطرفي العالم وسمتهم ثوارا للحرية .. وأعطتهم كل اسلحتها واعلامها بلا سقوف .. وعندما واجه هذا العنف صار سلوكه ديكتاتوريا وصار بتقييمات الغرب سفاحا قتل نصف شعبه ..
علينا ان نعترف ان المشكلات التي تواجهنا مختلفة واننا بمشكلاتنا الاجتماعية والثقافية لسنا أوروبة الحالية .. وأن آليات الضبط الاوروبية للمجتمعات لم تستقر فيها الا في السنوات الخمسين الماضية .. بل ان اوروبة نفسها خاضت حربين عالميتين ذهب ضحيتهما مئة مليون اوروبي بسبب رعونة النظم السياسية الاوروبية (الديمقراطية) التي لم تفكر بمواطنيها بل بنظرياتها السياسية وانانيتها .. فقط منذ ستين او سبعين سنة .. أي أن الفارق الحضاري بيننا وبين الاوربيين ليس كبيرا حتى زمنيا .. لأن المجتمعات التي تخوض صراعا بهذا العنف المجنون الانتحاري ليست ناضجة تماما وواعية لفكرة السلام والحضارة .. كما أن الغاء الخدمة الالزامية في الجيوش الاوروبية لايزال حديث العهد وسببه الاستقرار النسبي بعد الحرب العالمية ولكن اي توتر سيعيد كل شيء الى الوراء في اوروبة ..
علينا أن نعترف ان اوروبا لم تتركنا في حالنا أيضا كي ننشئ انظمة حكم سويسرية تهتم بالتجارة والبنوك والرفاهية .. وهي سبب رئيسي في اذكاء الصراعات الداخلية لدينا وتفجير كل الازمات وتحويل العلاقة بين الحاكم والمحكوم الى علاقة متوترة .. فهي تخيف الحاكم بانها تثير عليه قوى شعبية تحت تاثيرها ونفوذها او نفوذ حلفائها وتستغل تناقضاتهم الاجتماعية والمذهبية الى اقصى مدى .. او انها تخيف الشعب من الحاكم بتسليط الحاكم على الشعب وتحكمه في رقابهم كمل هو الحال في دول الخليج المستعمرة التي يقول ترامب نفسه ان نظام الحكم السعودي سيسقط في اسبوعين اذا تخلى عنه الامريكيون .. وتجربة صدام حسين ملفتة في ان شعبيته الطاغية كانت في السبعينات في الجنوب العراقي الشيعي.. وهو اول من اعترف بحقوق ثقافية كردية في الشمال .. ولكن الانشقاق بينه وبين الناس بدا في الجنوب الشيعي والشمال الكردي بسبب عوامل خارجية غربية وتخطيط اوروبي بشكل رئيسي..
اما اوروبة واميريكا فلا يتدخل احد في شؤونهما .. فلايوجد هناك من يتدخل لفض الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين في اميريكا .. ولايجتمع مجلس الامن لنصرة ترامب ضد بايدن او يطلب من بايدن ان يرحل .. ولايوجد هناك مئة ألف مؤسسة اعلامية تضخ الفتنة في اميريكا بين السود والبيض وبين الكاثوليك والبروتستنانت وبين الهيسبانيك والانغلوساكسون .. بحيث ينتشر الجيش ودباباته في المدن الامريكية .. ولاتوجد فتاوى تحركها أموال خارجية .. ولا ولا ولا .. ولايوجد في اميريكا 8 آذار (كما في لبنان) تحركه سفارة روسيا او سفير الصين وتفرط عليه اتجاهاته السياسية وخطاباته .. وتقتل رئيس وزرائه وتطلب من الحكومة ان تطلب تحقيقا دوليا .. فهاهو جون كينيدي قتل ولم نعرف الحقيقة بعد مرور عقود .. ومع هذا لاتوجد محكمة دولية ولا قرارات دولية تطالب بالحئيئة .. وليس هناك من قال لطائفته الكاثوليكية القليلة في اميريكا انها مستهدفة وان هناك مشروعا “للهلال البروتستانتي”…
الا اننا لدينا كل أسباب اللااستقرار التي تجعلنا ننتج سلوكا ديكتاتوري الشكل .. أنصاف المثقفين يسمونه ديكتاتوريا .. ولكن هذا التشخيص يحتاج الى اعادة نظر اذا اخذنا بالاعتبار ديكتاتورية المعارضات العربية وعنفها .. وديكتاتورية الغرب في تدخلاته الكثيرة في حياتنا السياسية وتدميرها وجعلها مفخخة بالمصائب والثغرات والصراعات ..
أخشى ان يستمر أنصاف المثقفين في تعليمنا مما تعلموه في نصف الثقافة ونصف المعرفة ونصف الاطلاع .. وقد يأتي يوم يحس بعضنا بالخجل فيه من المتنبي ومن سيف الدولة ويفتي لنا انها علاقة شاعر انتهازي بديكتاتور حلب سيف الدولة الحمداني … فثقافتنا لاتزال مسلوبة ولديها شعور بالنقص بسبب نقص الثقافة والمعرفة المستوردة التي لانصنعها .. وقلة الاطلاع والثقة بالنفس .. وعندما تقل المعرفة والاطلاع يعلو الصدأ أدوات التفكير والعقل والتحليل .. وتنمو الطحالب والفطور والجراثيم والعفن على حروفنا وكتابتنا .. وأرواحنا .. ومن صدأت روحه أو تعفنت فلن يكون جسده الا وقودا للجهل والجاهلية .. فالجهل يبدأ في الروح .. ويدفع الجسد الضريبة ..
صور من معارضات عربية اخوانية سويسرية السلوك والحوار


