العزيز نارام سرجون
تحية فلسطين .. لم أتوقف عن المجالدة. وأتابع بعناد. فقط ظروف صحية وخاصة حالت دون تواصلي. لقد اطمأن قلبي على سورية وهي تكتب فصل الانتصار الأخير.. لتبدأ مواجهة من نوع مختلف: كيف نعيد بناء الوعي، وكيف نقرأ التجربة؟ لماذا حدث ما حدث؟ كيف سمحنا عن غفلة أو جهل بأن نضع سورية أمام أهوال ما جرى. آن الأوان أن نلتفت لأعماق ذاتنا، لأخطائنا وخطايانا.. الأثمان كانت باهظة باهظة باهظة… في التربية والتعليم والسياسة والاقتصاد والثقافة والإدارة. أعرف أن سورية مستهدفة، هذا واضح وطبيعي، لا أحتاج لمن يقنعني بأهداف المشروع الاستعماري – الصهيوني- الرجعي الظلامي المتخلف. لكن ماذا عنا، ماذا عن بؤس أدائنا. محذور أن أن نبدد دروس التجربة بما هي آلام، تضحيات، دماء، دمار لأننا بقولنا “كنا مستهدفين” . لماذا سمحنا للعبث بقلعة دمشق من داخلها. أسئلتي هذه لا تتعلق فقط بسورية بل بمسؤوليتنا جميعا ونحن الفلسطينيون أولا. نواصل هنا المواجهة السياسية الثقافية بكل عناد. والجميل الآن أن غالبية الحالة الشعبية الفلسطينية قد استعادت رشدها. أو لأقل عادت لذاتها الأصيلة. فيما التناقض بينها وبين السياسة المهيمنة أصبح حاسما.
إليكِ قلبي يا دمشق!
نصار إبراهيم
كان مروري في دمشق أول مرة عابرا. كان ذلك في نهاية السبعينيات من القرن الماضي. يومها شعرت أني فقط في دمشق. كان يكفيني حينها بهاء الاسم وشحنة الذاكرة وعناق دمشق للمرة الأولى.
أثناء ذلك المرور لم أصل إلى دمشق كما هي في الوجدان والقلب. فدمشق لا تمنح أسرارها للعابرين. كان يجب أن أعود إليها ولها وحدها. حينها سأعرف دمشق وتعرفني. حينها نتبادل الحب الذي ينضج كالحنطة على مهله. أو يأتي غامرا كفيض الياسمين النديّ.
عدت إلى دمشق في بداية الثمانينات وأقمت فيها، في مخيم اليرموك حولين كاملين. من يومها ودمشق تقيم في خوابي الوعي الأكثر وضوحا وفي الذاكرة الأكثر حضورا. دمشق مدينة لها سطوة العشق، ما أن تسكنك حتى تقيم فيك إلى الأبد.
غادرت دمشق قبل 22 عاما، وتحديدا في 1998. عدت إلى فلسطين. ومع أن العمر يمضي. إلا أن دمشق تتمدد وتنمو في أعماقي وتعرِّش كياسمين ينهدل من شرفات البيوت ومن خلف الأسيجة في أحياء “أبو رمانة” والمزرعة والمالكي.
لدمشق في فلسطين صدر وعيها وحبها، فهي وجه الشام الجنوبي الطبيعي بقدر ما هي الشام وجه فلسطين الممتد شمالا، فمن بمقدوره أن يفرق ما جمعه الله والتاريخ!؟
يقولون أن للمدن أسرارها وطريقتها في الغواية. ودمشق سيدة المدائن تمارس سحرها بأناة. نتنفسها مع الهواء، نشربها مع ماء عين الفيجة، تأتينا بعبق الغوطة حين تزهر فتملأ الفضاء بفيض زهر المشمش والنحل والفراشات.
لدمشق آياتها المعجزة. أحياؤها القديمة. قلعتها الراسخة. أبوابها البهية. بيوتها، نوافذها، أسواقها، مقاهيها، مطاعمها، حدائقها مساجدها، كنائسها، تكاياها، وجسور تنقل الفكرة بين ضفتي بردى كنبض القلب وأبعد.
لدمشق قدرة مدهشة على الجذب . أمشي فيها كمن يكتشف أول الوعي. هنا شارع الثورة، شارع 29 أيار، الصالحية، المزة…

لأحيائها إيقاع يوقظ الانتماء: الميدان، الشاغور، باب توما، قصَاع، السبع بحرات، المزرعة، أبو رمانة، المزَة، الزبلطاني، ساروجة، كفر سوسة، جوبر، ركن الدين، برزة، القابون، المهاجرين، البرامكة…
دمشق تنتمي لذاتها وتاريخها، إنها لا تخلع ثوبها العربي الأصيل، لهذا فهي لا تستييغ الرطانة الغريبة، فأسماء ساحاتها وشوارعها وأحيائها قادمة من تاريخها ووجدانها وشهدائها وتراثها وأبجديتها الأولى. فدمشق المسكونة بأوغاريت، وزنوبيا، صلاح الدين، خالد بن الوليد، سلطان باشا الأطرش، صالح العلي، هنانو، يوسف العظمة، جول جمال وآلاف آلاف الشهداء والرموز لا يمكن أن تنسى ذاتها أو تبيعها.
لهذا لا تتعثر دمشق بأذيالها، ولا يبهرها خرز الاغتراب الملون ولا تركض إليه بخفة ورعونة.
في ضجيج دمشق أضيِّع ذاتي لأجدها في المدينة. لغة أليفة، نداءات تأخذني نحو إيقاع بداية التكوين. الصحراء الممتدة، جبال تغسل أقدامها في المتوسط، جبل الشيخ يطل على فلسطين، سهول حوران، صهيل الخيل في جبل العرب، السيوف الدمشقية، العباءات العربية، دلال القهوة، طَرقات النَّحّاسين والصاغة، أسرجة الخيل والقرنفل والقرفة في سوق الحميدية، القدود الحلبية، حقول الزيتون، تفاح الجولان، وقبل هذا وبعده تبقى روح السوريين فصل القول وسرّ الوجود. حاضنة وعينا وعروبتنا.
لدمشق رائحة الشرق الأشهى، دافئة وقريبة. تأخذك مغمض العينين إلى حاراتها وأزقتها وهدوئها وهيبتها، وأيضا إلى عفويتها وروحها المقاومة.
أمشي مع سور دمشق العتيق أسمع ما تحكي الحجارة. أبراج تطل وأبواب تنفتح على جهات الأرض بقوة التاريخ ترحب بالقادمين لتعلِّم الحياة، فتأخذهم إلى حيث تمتد سورية بكامل حضورها وحواضرها الراسخة: حلب، اللاذقية، درعا، حماة، حمص، طرطوس، الرقة، إدلب، تدمر، السويداء، بصرى الشام، الحسكة، القامشلي، معلولا، سلمية، كسب، صافيتا، جبلة، النبك، عين العرب، عفرين، بلودان، الزبداني، دمر، القنيطرة، البوكمال….
للوقت في دمشق تجلٍّ مختلف: في النهار تشتعل بناسها والقادمين إليها فتفتح أبوابها لتصهر الجميع وتعجنهم كأغمار القمح ليولدوا من جديد. ومع المغيب تعود العصافير إلى أعشاشها بقصفة ياسمين وتغفو حتى الصباح.
تراتيل الفجر هي موعد نهوض الحمام في ساحات المسجد الأموي والمرجة والأمويين والسبع بحرات، العباسيين، وعرنوس، يحلق في سماء المدينة ليعتلي ذرى قاسيون. هنا معبد آلهة تحرس المدينة. هنا في الأعالي ينهض ضريح الجندي المجهول ليحرس ليل دمشق التي لا تنسى شهداءها فترفعهم حيث جبينها العليّ. فحين تشرق الشمس كل يوم وينهض القمر كل مساء فإن أول ما عليهما أن يفعلاه هو أن يعانقا ضريح الشهداء، حينها تنشد دمشق قسم الوفاء بما يليق.
وبعدُ: دمشق مدينة المدائن معشوقة لا يناسبها الإلتباس أو الحيادي أو الباهت أو بين بين، فإما معها أو عليها. إنها توأم روح حنظلة. لهذا:
حماة الديارِ عليكم سلام… أبتْ أن تذِلَّ النّفوسُ الكِرام