سأقول في التحقيق ..

بعد مقتل بلقيس .. كم توعد الشاعر الدمشقي الكبير نزار قباني كل الحكام العرب في ان يوجه لهم الاتهام في غرفة التحقيق .. وتحدى كل من أغضبه وملأ قلبه قيحا انه سيقول في التحقيق كل مالم يقله أبدا خارج التحقيق .. وكانت غرفة التحقيق لنزار هي غرفة الاعتراف الارادي وليس انتزاع الاعتراف وكأنه في غرفة اعتراف في كنيسة .. بل ان وعيده كان يحوّل غرفة التحقيق – التي يتوقع ان يحضر اليها موجودا – يحولها الى غرفة الاتهام لكل المستبدين ولكل الديكتاتوريين ولكل النظام العربي الرسمي الغارق في صراعاته .. وفيها توعد نزار انه سينفجر ويتهم ويهز اصبعه في وجوه الزعماء العرب ويضع سبابته في أحداق من جرح قلبه وكبرياءه وقتل حبيبته وقطع أطول نخلة في العراق ..

كان نزار يبحث عن غرفة التحقيق ويسعى لدخولها سعيا محموما وكأنها مكان ولادته وخلاصه ويعتبر انها المكان الذي سيعلن فيها ثورته .. والمكان الذي سيطلق فيه التحدي المطلق وسيبني القرار الشجاع الذي لايمكن ان يتحول الى قرار مواجهة عشوائية في الشارع بل في قلب غرفة التحقيق حيث كل الخوف سيتحول الى شجاعة لانهاية لها .. بل مواجهة مع كل الخوف .. وتحولت غرفة التحقيق الى غرفة للثورة وغرفة للرعب للحكام العرب ..


ولكن الايام تغيرت .. ويبدو اننا سنقول في غرفة التحقيق الاشياء التي لم يقلها نزار والتي ربما نسيها او تجاهلها خجلا .. نعم في غرفة التحقيق سيوجه الاتهام للحكام العرب ولملوك العرب ولشيوخ العرب .. ولكن سيحضر لأول مرة الى غرفة التحقيق المواطن العربي نفسه كمتهم لأنه نسي كيف يصنع الثورة الحقيقية .. ونسي معنى الوطنية .. ولم يحافظ على وطنه كما أوصاه عليه أجداده الذين حرروا له بلاده وقدموا له الاستقلال .. فهذا المواطن العربي الذي فقد عقله وفقد يقينه وفقد دينه ووقع في غيبوبة استمرت عشر سنوات وصار مما ملكت أيمان طويلي العمر وطويلي اللحى .. هو الذي تسبب بكارثة وزلزال لم يشهد الشرق مثيلا لها ..


انني نيابة عن كثيرين .. سأقول في التحقيق: ان المواطن العربي الذي دمر بلاده واعاد الاستعمار الى بلاده يستحق ان يحاكم وأن يصادر منه وطنه وجواز سفره .. وسأقول في التحقيق ان المواطن العربي الذي قبل رشوة أهل النفط وسكت عنهم وسكت عن عمالتهم وفسادهم وخيانتهم .. وسكت عندما حولوا الصحراء الى قواعد عسكرية لقصف الشعوب العربية .. هذا المواطن لايستحق الثروة التي تركها لهم فتصرفوا فيها كالسفهاء .. وساقول في التحقيق ان المواطن العربي هو اليوم المسؤول عن هذا الاستهتار به وبكرامته وماله .. وهو المسؤول عن تحويل القراصنة الى فراعنة .. وأبقار حلوب .. وهو المسؤول لأنه لم يعد يعاقب الخونة والعملاء بل صار دمية في ايديهم .. تحارب معهم .. وتخون معهم .. وتبارك اميريكا معهم ..


ساقول في التحقيق ان المواطن العربي الذي رأى ان اوسلو وسلطته التي تبيع الوهم وتبيع الامن وتبيع الارض وتسكت على عربدة اسرائيل .. ومع هذا لم يغير هذا الباطل فانه يستحق اوسلو وان يتم تداوله مثل العملة في عملية السلام .. ولايستحق ارضه ولازيتونه ولابياراته الا بعد ان يمزق اوسلو ..


وسأقول في التحقيق ان المواطن العربي الذي سمع باذنيه ان ملك الاردن جاسوس وان ابنه جاسوس وان جده جاسوس ولم يرجم قبورهم كما رجمت العرب ابا رغال ولايزال يقدم الولاء لهذه الاسرة من الجواسيس .. انه مواطن لايستحق الحرية ولا يستحق الديمقراطية ولايستحق وطنا يخان بهذا الشكل المهين ..


وسأقول في التحقيق ان المواطن العربي الذي عرف ان ملك المغرب كان يبيع اسرار المؤتمرات العربية لاسرائيل ويتنصت عليها لصالح اسرائيل ومع هذا لايزال يبجل هذه الاسرة الملكية ويقدم لها فروض الولاء والطاعة .. سأقول ان هذا المواطن جدير بالاهانة وجدير بأن يهرب في القوارب ويرمى في البحر على الشواطئ ..وأن يعمل في جمع القمامة في بلديات الغرب ..


ساقول في التحقيق ان المواطن العربي الذي صار مثل الخروف الأممي تحركه اميريكا يوما شمالا ويوما يمينا وتأخذه مثل الكبش ليذبح في افغانستان والفلبين والصين وسورية وفي القادسيات الامريكية وفي الربيع العربي .. هذا المواطن الذي لايزال لايعرف اميريكا جدير بأن يكون خروفا للأمم وكبشا يفتدى به .. وحري اي يكون أصله في نظرية التطور خروفا ..


سأقول في التحقيق ان المواطن العربي الذي يتفنن في اذلال اسم بلاده من أجل لجوء وفيزا وحفنة من المساعدات مواطن يستحق ان يشترى والعصا معه .. ويستحق التمييز العنصري والاستعلاء الغربي والاحتقار الغربي .. ويستحق ان يهان دينه امام عينيه ..


سأقول في التحقيق .. ان المواطن العربي الذي يأخذونه في لبنان من فخ الى فخ .. ومن فتنة الى فتنة .. ومن غباء الى غباء .. ومن وصاية الى وصايات .. ويتداولونه من عائلة الى عائلة .. ومن بيك الى بيك .. ومن بطريرك الى بطريك .. ومن سفير الى سفير .. مواطن لايستحق بلده ولايستحق حرية ولا استقلالا .. وأن الحقيقة الوحيدة التي يجب ان يدركها هي أنه لعبة بين الامم ودمية يلهو بها السكارى والأفاقون ..


ساقول في التحقيق .. ان الانسان العربي الذي رحب بالناتو ورحب بعاصفة الصحراء ورحب ببرنار هنري ليفي الاسرائيلي ورحب بقصف الناتو واسرائيل لسورية ورحب باحتلال تركيا له من اجل خلافتها العثمانية وهرب من الارهاب وصار يعمل أجيرا في شوارع تركيا واستانبول وسط كراهية الاتراك له وترك بلاده لكل الغزاة يستحق ان يعيد سيرة السفربرلك .. وان يخدم في قصور بني عثمان وان يخصى كما الغلمان ..


سأقول في التحقيق ان الانسان العربي الذي قبل بكامب ديفيد وقبل ان يسمى الاستسلام سلاما وعبقرية .. وان يمر في سيناء مجردا من سلاحه وثيابه وأن يستأذن اسرائيل كلما أراد ان يمشي شرق القناة ببندقية صيد .. يستحق ان يخسر نهر النيل .. فمن لايسترد سيناء الا تحت الوصاية الاسرائيلية لا حقّ له بنهر النيل الذي صار مثل سيناء ملكا للآخرين .. فالانهار لاتحب من لايكرم الارض ويسقيها بالكبرياء ..

سأقول في التحقيق ان معظم المثقفين العرب كانوا يكذبون علينا ويكتبون قصصا خيالية عن الكرامة والكبرياء والاوطان والانسان العربي الذي سيأتينا بالغضب الساطع .. فنصف المثقفين ظهر انه بلا كرامة .. ونصفهم بلا كبرياء .. وجلّهم سكت وقلع عينيه واقتلع اذنيه وهو يرى الخيانات والجرائم وحفلات التطبيع والزنا في وضح النهار .. نعم .. سأقول في التحقيق ان كل النخب والشعراء والمثقفين الصامتين هم لصوص كغيرهم .. وغشاشون .. ومرتشون .. وطلاب جوائز وشهرة .. ولذلك كانت كلماتهم مخصية واختفت اصواتهم ..


غرفة التحقيق باقية .. لكنها لم تعد للحكام فقط .. بل للمواطن العربي الذي خذل بعضه الوطن أيما خذلان .. وكان هو السكين التي ذبحت الوطن .. وعندما يؤخذ اي منا الى غرفة التحقيق فاننا سنقول في التحقيق ان الحاكم لم يعد هو الذي يخيفنا ولم يعد هو الذي نخشاه .. بل صرنا نخشى ذلك النوع من المواطن العربي المصاب بالجنون والمصاب بلوثة العمالة ولوثة الخيانة ولوثة التجاهل ولوثة العمى ولوثة الدين المريض ولوثة المذهبية ولوثة العبودية للغرب ولوثة الغباء ولوثة السذاجة .. المواطن الذي يرتشي بذهب الحكام ويرتشي بصكوك الغفران من الشيوخ والمؤمنين ..


ماساقوله في التحقيق لاينتهي .. ولن ينتهي .. ولكن غرفة التحقيق يجب ان يحضر اليها كل المذنبين .. وكل المغفلين .. وكل الآثمين .. من أكبر فرد فينا .. الى أصغر فرد فينا .. ومن أكبر شيخ الى أصغر شيخ .. ومن أكبر أمير الى أفقر فقير .. ولن نعود أمة جديرة بالاحترام الا اذا دخلنا كلنا غرفة التحقيق متهمين .. واعترفنا بكل أخطائنا وخطايانا ..

آه ياغرفة التحقيق .. كم ساشكو لك .. وكم ستطول لائحة اتهامي .. ولائحة خيبتي .. ولائحة وجعي .. ولائحة أحزاني ..

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

2 Responses to سأقول في التحقيق ..

  1. غ ر كتب:

    شكرا لكم الاستاذ نارام سرجون

    20211205

    نشكر الله قد عدت إلينا في الوقت المناسب. تقود سفينة الاخلاق والإنسانية والكرامة والسيادة والكبرياء ولا تبدل تبديلا.

    من تجربتي: شاهد عيان وسمعان
    بعض الناس الشرفاء.

    سأل أميركي (صهيوني) فتات، من اي بلد انتي؟
    قالت “انا من أعظم بلد في العالم، انا من سوريا انا من مدينة حلب.”

    بعض الناس السفلاء
    في المقابل(ايضن من تجربتي كا شاهد عيان وسمعان)

    سأل أمريكي شاب لبناني، من اين أنت؟ قال انا من اليونان.
    سأل أمريكي شاب مصري، من اين أنت؟ قال انا فرعوني.

    وللاسف قد شاهدت على التلفزيون شاب ينحني بالشكر لكندا لإستضافته كلاجئ… كأنه لا يعلم أن كندا ساهمة بالحرب على بلاده وسبب تهجيره.

    والامثال كثيرة، واليوم ماكرون يساهم بقتل اطفال اليمن وغيرهم ببيع السلاح للخلايجه على حساب الشعوب العربية والبعض في لبنان يفتخر.

    لعن الله كل من هوا بلا كرامة في لبنان ومن لف لفهم.

    شكرا

  2. رائد زياد كتب:

    وما أصعبه من تحقيق يا سيدي!

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s