أظن أن زمن حافظ الاسد لم يكتب بعد .. فما نعرفه عن اي زمان ليس فقط أحداثه السياسية بل كل تفاصيله .. أحزانه وأفراحه .. أنتصاراته واخفاقاته .. أحوال ناسه وأهله .. أحوال العلم والعمل والعدل .. والزراعة والصناعة .. بيوت الناس ومأكلهم ومشربهم ..
أزمان الرجال تدخل التاريخ عندما يتم تدوين كل تفاصيل حكمهم والاحداث التي مرت وكانت تتأثر بوجودهم .. لايزال زمن حافظ الاسد يكتبه أعداء حافظ الاسد .. ولاأقصد هنا فقط الجانب السياسي بل حتى الجانب الاجتماعي والاقتصادي .. خصوم الاسد وأعداؤه ينشرون الفيديوهات والمقاطع ويلتقون مع من هب ودب لتلصق بعهده كل اساءة .. حتى ولو لم يكن له اي ضلع فيها .. فكل الأشياء السيئة والاخفاقات الاجتماعية والمعيشية او السياسية تقدم على انها بسببه بشكل مباشر او غير مباشر .. كما يحب العراقيون ان يقولوا عن احباطاتهم زمن صدام حسين .. فيقول احدهم صدام طلقني من زوجتي .. وصدام قتل ابن خالي .. وصدام جعلني فقيرا .. رغم ان صدام لايعرفهم شخصيا لكنهم تعرضوا للظلم على يد رجاله .. وكما يقول بعض المصريين ان زمن عبد الناصر هو زمن البوليس السري والخوف وزمن افقار مصر وان السد العالي خرب التربة في الدلتا ودمر الزراعة بإلغاء سطوة وملكية الاقطاعي المصري وزمن الباشاوات .. وهكذا يلام عبد الناصر حتى اذا لم تمطر السماء ..
خطرت لي هذه الافكار وأنا أقرأ رسالة احد القراء الذي قال لي ان كل الأحداث في اي زمن يجب ان تدون وتوثق سواء سلبية او ايجابية كيلا يدون أيامنا غرباء ومندسون ولصوص وكارهون لنا .. وفي رسالته كتب حادثة سمعها قائلا انها مثل قصص كثيرة وقعت في زمن حافظ الاسد .. التي يجب ان يتم تدوينها مهما كانت بسيطة لأن فيها عبرا ودروسا وشهادة على ذلك العصر ..
يقول صاحب الرسالة – وهو طبيب – انه في زمن حافظ الاسد كان هناك عامل بسيط اسمه (نبيل البارودي) عمل حارسا على بوابة مشفى الباسل لأمراض وجراحة القلب الجديد في دمر .. وكان دخول المشفى يخضع لأوامر صارمة من مديره جراح القلب الشهير الدكتور أحمد زكي سكر بحيث ان هناك اوقات مخصصة للدخول والزيارات .. والدخول في غير تلك الاوقات يجب ان يكون بموافقة من ادارة المشفى ..

وفي أحد الأيام وفيما كان البارودي يقف على الباب الرئيسي لتدقيق الداخلين .. اقتحمت احدى السيارات الحكومية البوابة من دون اذن .. وترجل منها شاب وسيدة .. وسارا دون اي اكتراث نحو المشفى .. فما كان من الحارس المذهول الا ان أسرع للحاق بهما صائحا ان الدخول ممنوع .. وعندما اقترب منهما سألهما .. عفوا شو القصة؟ .. لوين رايحين من غير موافقة دخول؟؟ وكان هذا آخر ماقاله اذ التفت اليه الشاب الصلف وقام بصفعه بقسوة وانهال عليه ضربا وشتائم قاسية .. وهو يقول له: أنا تسألني هذا السؤال؟ ستندم وسأربّي الناس بك؟
أسقط في يد الحارس المسكين وتلعثم ولم يعرف ماذا اقترفت يداه وماهي الجناية في السؤال عن هوية الداخلين .. ومن يكون هذا الشاب المغرور والسيدة التي ترافقه؟؟ وعاد الى غرفة الحراسة ووجهه الاحمر يقول الكثير من القهر والحزن والخوف .. ولكن ماهي الا دقائق حتى انتشر الخبر في المشفى وجاء اليه بعض العمال وقالوا له انه وقع وقعة سوداء لأن الرجل الذي أهانه الحارس هو ابن عبد الحليم خدام .. والسيدة التي كانت معه هي أم جمال زوجة عبد الحليم خدام .. الرجل الثاني في سورية ..
وهنا أصيب الرجل بمزيد من القلق والحيرة .. وصار يتساءل عن الايام القادمة التي ستكون جحيما عليه وربما نهاية خدمته وعودته الى حياة البطالة .. فغضبة جمال خدام كانت عنيفة وردة فعله وانذاره توحي انه أضمر الشر له .. وصار يتساءل عن هذه الصدفة وهذا القدر الذي جعله يقف وهو الضعيف المسكين أمام الرجل الثاني في سورية كي يفقد عمله ويجوع أطفاله في أقل التقديرات .. هذا اذا لم يكن ثمن فعلته اكثر .. وهنا نصحه أصدقاؤه وهم يتحلقون حوله في غرفة الحارس ان يذهب فورا ليعتذر ويطلب الصفح والغفران .. ويسلم نفسه لجمال خدام .. لكنه قرر شيئا آخر .. فقد قرر ان يذهب الى مدير المشفى الجراح الكبير احمد زكي سكر ويطلب منه العون والنصح .. لأن سمعة ذلك الجراح هي انه كان عادلا مستقيما ومستمعا طيبا للموظفين .. رغم انه صارم في ادارته للمشفى ..
وبالفعل فقد ذهب الى مكتب المدير وطلب مقابلة عاجلة .. ولم يتردد الدكتور سكر بادخاله فورا .. وسأله: شو فيه ياابني؟ فقال له الحارس القلق كل شيء بالتفصيل .. وطلب النصيحة والعون ..
فكر الدكتور سكر للحظات وهز رأسه وقال له .. انت في مكتبي وفي حمايتي .. ولن يمسك سوء طالما انك تؤدي عملك .. واترك الأمر لي .. اذهب الأن الى بيتك واسترح ولكن نصيحتي هي ألا تبيت في بيتك هذه الايام .. فاختر بيتا لقريب لك ريثما أحل هذه المشكلة ..
وبالفعل بمجرد ان غادر الحارس المشفى ليختفي بدات وفود رجال المخابرات تصل الى مكتب الدكتور سكر تطلب منه تسليم الحارس واستدعاءه فورا ليتم التحقيق معه لاهانته عائلة السيد نائب رئيس الجمهورية .. واكتظ المكتب بالمرسلين وحملة الرسائل من ضباط المخابرات الذين ارسلهم مكتب عبد الحليم خدام بطلب من ابنه جمال .. وزاد الضغط على الدكتور سكر وهو يحاول ثنيهم عن الموضوع وتمنياته ان يتم التعامل مع الحارس بمنطق غير التعنيف والتهديد لأنه كان يؤدي واجبه الوظيفي .. الا ان الموفدين كانوا يتلقون تعليمات بألا يعودوا الا بعد انهاء المهمة .. وهنا غضب الدكتور سكر وقال لهم: يعني آسف ان أقول: هذه عبودية .. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتم أحرارا؟؟ أنا الآن سأتصل بالمكتب الرئاسي لأبلغ الرئيس بهذه التعديات من قبل مكتب نائبه علينا .. وبناء على توجيهات المكتب الرئاسي سأتصرف وسأسلمكم الموظف ..
وبالفعل اتصل الدكتور سكر بمكتب وسكرتارية الرئيس حافظ الأسد مباشرة وشكى لهم سوء التصرف من مكتب نائب الرئيس بحق عامل بسيط لم يخطئ بل كان يؤدي واجبه الوظيفي .. وشرح لهم الضغط الهائل من مكتب نائب الرئيس ..
وفي ذلك المساء كانت سيارات تابعة لأمن مكتب نائب الرئيس تصل الى بيت الحارس وتبحث عنه بالحاح في الحي لانه مطلوب .. مما زاد من مخاوف الحارس الذي توارى عن الانظار كما نصحه الدكتور سكر ..
في اليوم التالي ماان يدخل الدكتور سكر مكتبه .. الا وتصل اليه في الحال رسالة صارمة من مكتب رئيس الجمهورية الرئيس حافظ الاسد ومقتضاها أن يعود الحارس الى عمله كالمعتاد دون ان يمس في كرامته .. وتطلب الرسالة الرئاسية بحزم ان يتقدم جمال خدام من الحارس باعتذار علني ..
وبالفعل تم الايعاز لجمال خدام ان يأتي الى مركز الباسل وأن يجتمع مع الحارس امام ادارة المشفى .. التي استقبلت الحارس وجمال خدام .. وجلس الاثنان وجها لوجه متساويين في القيمة الانسانية .. ليس فيهما حر وسيد لأننا جميعا ولدتنا أمهاتنا أحرارا .. ولم يكن هناك من يزعم انه ابن الأكرمين ليلطم به وجه أحد .. واستمع جمال خدام الى الحارس بهدوء وهو يكظم غيظه فيما الحارس يشرح له انه قام بعمله وانه لم يوجه له اهانة وكان يتمنى لو انه رد عليه بأدب واحترام وعرفه على نفسه على الاقل ..
لاأعرف ان كان جمال خدام قد اعتذر ام لا .. لكنه تحدث وتلوى بلا شك .. واشك انه اعتذر لكنه ابتلع تهديداته واضطر الى ابداء التفهم .. الا ان المهم أن رسالة للجميع وصلت وهي ان الناس أحرار وان الرئاسة عندما تصلها الرسائل فانها تحمل درة عمر الى حيث يجب ان تكون تلك الدرة ..وسيضرب بها من يعتدي على الناس ..
هذه قصة من ذلك الزمان .. الذي يجب ان يتم تدوينه بكل أحداثه وقصصه مهما كانت صغيرة .. فعندما عمل حارس بسيط باخلاص وعمل مدير المشفى بضمير ومسؤولية وشجاعة .. كانت الرئاسة تصنع العدالة .. ولكن عندما كان اي طرف ناقصا في هذه المعادلة كأن لايعمل حارس باخلاص او يهرب الى التذلل والخضوع .. او أن يتصرف المدير بأنانية وجبن ويتبع مصلحته وينحاز للظالم والمعتدي فان الرئاسة لن تصدر القرار الصحيح .. ولن تعلم يما يدور من ظلم .. وقد يتعرض مواطن للظلم فعلا .. فيكتب احدهم قائلا ان هذا الظلم مثلا وقع في زمن حافظ الأسد .. دون ان يكون للرئيس يد في الظلم او علم به .. لان من يصنع الظلم هم الناس أنفسهم .. عندما لايتصرفون وفق الفطرة الطبيعية للعدالة ..