الزمن آلة للقتل أيضا .. المبارزات الدموية في الشرق السوري والرخويات الوطنية

بالرغم من انه ليس لدي اي شك في أننا سنستعيد كل الجغرافيا السورية التي عرفناها قبل الحرب .. وليس عندي أي شك انه سيأتي يوم نسافر لقضاء عطلتنا في لواء اسكندرون كجزء من الجغرافيا السورية الحقيقية كما نسافر الى حلب واللاذقية .. بالرغم من كل هذا فانني لاأحب الانتظار الطويل على محطات الزمن .. ان اكبر عدو لنا لن يكون الاميريكيين ولا الاسرائيليين ولا حلف الاطلسي كله .. عدونا للاسف أقوى من كل الكون .. والحرب الكونية التي شنت علينا هو أقوى منها كثيرا .. انه الزمن والوقت .. فالزمن هو آلة للقتل أيضا ..
في الحرب السورية لم ننتظر لأن العدو هو الذي لم ينتظر .. كان يهاجمنا .. وكان يطوقنا وكان يقصفنا .. وفي كل يوم وفي كل ساعة بل وفي كل دقيقة كان هناك خبر او هجوم او جريمة او انتحاري او مجانين .. والعدو هو الذي كان لاينتظر فيدفعنا الى اللاانتظار .. ولأننا لم ننتظر سقطت لعبة الوقت وانتصرنا ..


اليوم تبدو منطقة الجزيرة وادلب تمران بأكبر هدنة منذ بداية الحرب .. وبالرغم من ان العدو لم يثبت نفسه جيدا في المناطق المحتلة فان الزمن سيثبته .. والزمن سيعني ان مزيدا من التغييرات الديموغرافية ستحدث .. بسبب هجرة الاهالي بسبب الاوضاع غير المستقرة .. والتغييرات ستحدث أيضا بسبب نشوء علاقات المصالح بين المحتلين وشبكات التجار والانتهازيين وأصحاب المصالح المتقلبة .. وهؤلاء التجار والمستفيدون ستجعلهم مصالحهم يثبتون الاحتلال .. وحتى ان رحل الاحتلال فانه سيتركهم بعده ليطالبوا بألا يتغير الوضع القائم لتلك المناطق كي تستمر مصالحهم .. فهناك سرقات للثروات تقوم بها الجهات المتعاونة مع الاحتلال في المنطقة الشرقية .. سرقات للنفط وللمحاصيل وضرائب واتاوات وفساد .. وهذا سينشئ طبقة صغيرة من المستفيدين الذين ليست لهم هموم وطنية بل همومهم في جيوبهم ونفوذهم واستمرار انفصالهم ..


التجربة المصرية واللبنانية والعراقية وحتى الفلسطينية يجب ان تجعلنا لانترك للعدو وقتا طويلا للاستقرار لأنه ينسج شبكة علاقات اقتصادية وتجارية تتحول الى طبقة سياسية .. وتصبح هي القوة العميقة والدولة العميقة في اقليمها الذي تعيش فيه مهما كان اتجاه الناس ..


ففي مصر تمكن فريق كامب ديفيد ان يخلق طبقة من المستثمرين والتجار والاعلاميين الذين ترتبط مصالحهم وتجاراتهم مع الغرب واتجاهات الغرب .. ولذلك يتم التعتيم على كل مساوئ كامب ديفيد الحقيقية التي ألحقت الاقتصاد المصري بالاقتصاد الرأسمالي الغربي وأضعفته كثيرا وجعلته معتمدا جدا على الاقتصاد الغربي وفصلته عن المرحلة الاشتراكية الناصرية وفقد كل استقلاله .. مما تسبب بتبعية سياسية.. وصار هؤلاء يصنعون الرأي العام من خلال شبكة علاقات مع مختلف القطاعات والشرائح والأهم انها ربطت العجلة الاعلامية بتوجهاتها وهؤلاء الاعلاميون يقومون باقتلاع ذاكرة المصريين عن دورهم الرئيسي في زعامة المنطقة العربية .. ولذلك نلاحظ ان مصر ولو حدث زلزال في محيطها وانفجرت كل البراكين فانها تبقى باردة خامدة كمن شرب مهدئات .. او مثل بركان عجوز تحول فمه الذي كان يقذف الحمم الى بحيرة طينية ومستنقعات .. لن يعود هذا البركان الى الحياة الا بأن تتدفق النار في شرايينه الأرضية من جديد .. فالنار هي دماء البراكين ..


والنموذج اللبناني لايزال امامنا ماثلا .. فمنذ ان ترسخت العائلات الطائفية اللبنانية فانها تحولت الى دولة عميقة لها استثماراتها وأموالها ومصالحها المرتبطة بالخارج والسفارات .. ولذلك نجد انها تحرك الطوائف وتمسك بها كما يمسك ثري كلابه بالسلاسل لأنه هو الذي يطعهما وهو ولي نعمتها وهو يحميها وتحميه .. ولذلك نجد ان الدولة العميقة اللبنانية تمنع رحيل الدستور الطائفي رغم ان كل اللبنانيين ينادون بالتخلص منه لبناء دولة عصرية .. فلايمكن بناء دولة عصرية تحكمها قوانين معاوية وعلي وبطرس وشاؤول والحاكم بأمر الله .. وكل الأثرياء والساسة وزعماء الطوائف اللبنانيين يودعون اموالهم وثرواتهم في البنوك الغربية .. ولذلك نجد ان حاكم مصرف لبنان أفرغ بنوك لبنان وجيوب اللبنانيين وبيوت مونتهم الا انه لايزال في منصبه ولم تقتلعه العاصفة .. رغم ان قبائل الكونغو والزولو واكلة لحوم البشر اذا فشل ساحر القبيلة في منع الأذى عنهم عزلوه وقد يلقون به في بحيرات التماسيح أو يأكلونه .. الا رياض سلامة فانه لايزال حاكما لمصرف لبنان وكأنه آدم سميث أبو الاقتصاد الرأسمالي ومؤسس نظرياته وهو الأرزة في علم لبنان .. والسبب ان مصالح الطبقة العميقة اللبنانية وزعماء الطوائف مرتبطة بالغرب .. ولاتقدر هذه الطبقة ان تسمح بازاحته الا بقرار غربي .. لكنها وبقرار غربي ترغم وزير الاعلام جورج قرداحي على الاستقالة من أجل كلمة عابرة لم تفقر اللبنانيين ولم تسرقهم وتفلسهم وتحولهم الى متسولين في وطنهم كما فعل سلامة .. ولن يقدر لبنان على الخروج الى الحياة الطبيعية الا باقتلاع هذه الرخويات الوطنية في الدولة العميقة ..


وامامنا النموذج العراقي وهو أهم النماذج على الاطلاق .. فبمجرد سقوط بغداد .. ماهي الا 6 اسابيع حتى انطلقت المقاومة العراقية وقررت دمشق وطهران أهم قرار مستعجل باقلاق العدو وجعله لايرتاح ويبني شبكة عملاء ومصالح .. وبالفعل فان المقاومة العراقية أرعبت التجار وأصحاب المصالح والانتهازيين من بناء آمال عريضة على بقاء الامريكيين .. وتم تدمير الجيش الامريكي بالمقاومة العراقية فاضطر لاعلان الانسحاب .. ولكن غلطة المقاومين انهم أوقفوا عملياتهم رغم بقاء ذيل الاحتلال الضخم كذيل الديناصور وهو مجموعة من القواعد الامريكية وسفارة ضخمة للغاية .. تحولت هذه القواعد الى مكاتب شركات عامة وعلاقات .. وشبكات استخبارات واختراقات .. وفي ظل هذا الهدوء الخادع الطويل لسنوات تم خلق طبقة سياسية عميلة او ذات مصالح او طبقة رخوة وطنيا .. وهذا مهد للتدخل في القرار السياسي العراقي وتمكن من الشارع العراقي في الاتجاه الذي تريده لأن الأمريكي صار قادرا على تحريكه بايعاز من هذه الطبقة الرخوة وطنيا والفاسدة والمرتبطة .. صار يتم تعيين رئيس الوزراء من السفارة الامريكية .. وصارت اميريكا تقوم بعمليات اغتيال علنية لشخصيات عراقية وزائرة للعراق دون وجل لان الوطنية الرخوة العراقية صارت ترى في بقاء الامريكيين مصدر أمان لها فتطالب برحيل الامريكيين من باب رفع العتب وتكون سيوفها على الامريكان وقلوبها معهم وتجتهد لبقائهم بتغيير عنوان اقامتهم من قوات امريكية الى مدربين امريكيين .. ولم يتغير في وضعها القتالي اي شيء ..

وفي فلسطين أوقف الفلسطينيون انتفاضتهم لأن هناك من أقنعهم ان يوقفوا القتال لأن الشعب الفلسطيني تعب وأصابه الارهاق .. والحقيقة ان من أصيب بالتعب والارهاق هم الاسرائيليون الذين هاجر 750 ألف منهم وعادوا الى بلدانهم بسبب الانتفاضة الفلسطينية التي لو استمرت لوصل عدد الباقين في اسرائيل الى 750 ألفا .. ولكن ماان هدأ الفلسطينيون وصدقوا الهدنة ووقعوا في فخ الانتظار حتى التقط الاسرائيليون أنفاسهم .. وقدموا مشروع اوسلو ومابعد أوسلو .. ووصلت الى السلطة كوادر اوسلو .. وشرطة دايتون .. ولذلك صار الفلسطينيون مثل البارود الرطب .. يريدون الاشتعال ألف مرة في اليوم .. بالسكاكين وبالاضراب عن الطعام وبكل شيء .. ولكن الطبقات الفاسدة التي نشأت في هدوء الرخاء والتفاوض تأخذهم يوما الى قطر ويوما الى تركيا ويوما الى مفاوضات السلام وهي التي تسكب الماء على البارود الفلسطيني لأن هؤلاء صارت لهم مصالح في الوضع الراهن .. وصار لهم بزنس في قطر ودبي والخليج واستانبول .. وهؤلاء هم رخويات فلسطينية في فتح وفي حماس.. وهذه الرخويات يمكن ان تقتل نزار بنات في الضفة كما يقتله اي شرطي اسرائيلي .. ومثل هذه الرخويات في غزة يمكن ان ترسل مقاتلين من غزة لقتال الجيش السوري وقتل الجنود السوريين كما يقتلهم الطيران الاسرائيلي .. وهذه الرخويات يمكن ان تصلي في كنيسة اياصوفيا خلف اوهام عثمانية عفنة وتنسى الاقصى ..


الجزيرة السورية هي أسهل هدف لنا الان لتغيير وضعها السياسي والانعزالي .. وهي اهم بقعة سيكون استردادها سببا في انتعاش الحياة الاقتصادية والخدمات التي تتدهور بفعل الحصار الامريكي .. وهذا التغيير الهام في استعادة شيء من زخم الحركة الاقتصادية سيغذي مشروع التحرير الكامل .. ولن يكون استرداد ادلب صعبا للغاية لأن التركي يعتمد على الوجود الامريكي الداعم وعلى الضغط والخنق الاقتصادي علينا بسبب الحصار .. ورغم ان الامريكي يعرف انه سيغادر .. لكنه قبل ان يغادر يريد ان يغير الارض والناس والمصالح والديموغرافيا والولاءات .. ويريد ان يخلق طبقة رخوة وطنيا او مائعة وطنيا تسبب متاعب مزمنة .. فهو يماطل ويسوّف .. وفي كل مرة يقترب الانفصاليون من الاتفاق والقاء السلاح يرسل اليهم في الثانية الاخيرة أمرا بالتوقف ..


في الايام الاولى من هذا العام بدأت أحس بالاننتعاش لأنني صرت أسمع بانطلاق عمليات مقاومة في المنطقة الشرقية واستهداف القواعد الامريكية .. واليوم سمعت بأن قاعدة امريكية في حقل العمر النفطي تعرضت للهجوم .. وهذا يبشرني ان صافرة البداية قد انطلقت .. وأن المباراة الدموية بدأت في الشرق .. ولاشك أنني ساصاب بالكمد والاكتئاب كلما تراجع زخم العمليات .. كمن يرى مباراة ويرى فريقه يكتفي بالدفاع او تمر المباراة بفترات من البرود والمناخ الدفاعي في الشوط الثاني ..


الحرب مثل المباراة .. ولكنها مباراة دموية .. الدفاع فيها ليس سبيلا للفوز .. والتبريد يفيد الخصم .. ونحن الان كسبنا الشوط الاول .. والشوط الثاني بدأناه بخطة دفاعية .. ونحن الجمهور الوطني يريد من المدرب أن يعطي الاشارة باستئناف الهجوم .. فالحرب الباردة لاتناسبنا بل تناسب الامريكان .. أتراني رأيت يد المدرب تشير ببدء الهجوم وسمعت صوته يعلن نهاية خطة الدفاع ؟؟

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s