بمناسبة تكريم الاب الياس زحلاوي
علي أن أعترف انني عندما قررت ان أكتب عن الاب الياس زحلاوي وقفت حائرا وانا القادر على ان أحيّر اللغة .. وعجبت من حيرتي .. وكنت كلما استدعيت قلمي وجدته مثلي حائرا .. يأتي متشوقا لزيارة الورق وغزل الحروف واستعراض رشاقته .. ولكنه يتلعثم كما يتلعثم طفل أمام رجل وقور ذي هيبة .. وكما يتهيب المحبون الكلام امام من يحبون ..
فهذا النوع من الرجال يؤذي روحه المديح .. وينال من نفسه ان ننزله من عليائه الروحي المثالي الى عالمنا المادي .. فماذا يمكن ان نكتب عن هذا الرجل؟ وهل نحن هنا لتكريمه و مديحه؟ أم لتكريم انفسنا ومديح أنفسنا عندما نتحدث عنه .. فالكلام عن الأب الياس زحلاوي هو تكريم للنفس ومديح للذات قبل كل شيء ..
كنت أسمع مثل كثيرين عن هذا الانسان المتواضع الذي يعزف الفرح والايمان المسيحي بطريقة ساحرة .. ولكن عندما قرأت مذكراته التي كان عنوانها: (قد يكون لي ماأقوله) .. عرفت انني انا قد يكون لي ماأقوله .. بل سأقول ماأقوله ومايجب أن اقوله .. وماأحب أن اقوله .. وهو أنني لم أدرك أنني أنا المسلم مسيحي في قلبي الى هذه الدرجة الا عندما قرأت مذكرات الاب الياس زحلاوي الذي قدم المسيحية المشرقية حتى بدت لي وكأنها ترتل سورة مريم من القرآن الكريم .. وعرفتها على حقيقتها البعيدة عن التعديلات والتأويلات والهندسات والطفرات التي أدخلتها عليها الثقافة الغربية والاوروبية عموما .. الثقافة الاوروبية التي باحتكاكها المستمر مع المسيحية حولت المسيحية الغربية الى مذهب سياسي دنيوي .. وتمكنت من تسييس الكنيسة الغربية واحتلالها بالاسرائيليات الصهيوينة حتى أنها صارت ملحقة باسرائيل .. وصار الانجيل المقدس يخدم الحاخامات .. وصار يسوع يبارك من خانه ومن صلبه ..
كتاب (قد يكون لي ماأقوله) هو الكتاب الذي كنت أبحث عنه منذ ربع قرن .. وبالذات منذ أن هزّني الفيلسوف الالماني فريديريك نيتشه في مقولاته الصادمة في كتابه الشهير (هكذا تكلم زاراداشت) .. سامحك الله يانيتشه .. فمنذ ان تعرفت عليك والتقيت بك في كتابك (هكذا تكلم زاراداشت) وأنا وبيني وبين الله قضية وشجار .. وأنا بيني وبين الله سؤال كبير .. فهل الرحمة والمحبة أم القسوة هي التي يجب ان تقود الانسان؟ وهل الانسان يتفوق عندما يصبح قلبه لايستجدي الرحمة لأحد؟ ومن يومها تركني نيتشه تائها .. أبحث عن سر هذا الانسان المتفوق ونقطة ضعفه .. وأبحث عن الكتاب الذي يقهر نيتشه وكل ماقاله زاراداشت ..
وكان علي ان أنتظر ربع قرن الى أن قرأت هذا الرجل الانسان السوري الجميل الأب الياس زحلاوي .. وأحسست ان (قد يكون لي ماأقوله) هو ماأبحث عنه لأردّ على نيتشه الذي كان واضحا انه مهووس بتحطيم تعاليم السيد المسيح لشدة غيرته من قوة روح السيد المسيح .. فمن ذا الذي كان سيقهر لي مقولات نيتشه؟


ان الكتب العظيمة لاتقهرها ولاتسقطها الا كتب عظيمة تروي أشياء عظيمة بأبسط الحكايات واللغات .. ولذلك كان كتاب (قد يكون لي ماأريد قوله) هو الخطاب الذي تردّ فيه سيرة وفلسفة انسان طيب نبيل مخلص للمسيح على نيتشه العظيم .. وفيه تتآكل كلمات زارداشت وتتحول الى هرطقات وهذيانات .. لأن الرد على نيتشه ليس في كتاب فلسفي ولا في نظرية فلسفية ولا في جهد فلسفي .. بل هو في ان يجعل أحدنا الفلسفة تغادر الكتب والنظريات لتسير على الارض بنفسها لتثبت انها الفلسفة الاقوى والحية كما فعل السيد المسيح الذي سحق فلسفة الهيكل وقام رغما عنها .. وسيرة الاب الياس زحلاوي تقول ان الخير المتدفق والحب المخلص هو الذي يجعل نبي نيتشه بلا قيمة .. ويكتشف من يقرأ المذكرات أن نيتشه كان على خطأ .. فالانسان المتفوق هو الذي يكون قادرا على أن ينتصر لروحه .. ولايهزم في اي يقين يحمله ..
هذا الأب الطيب الجميل الرقيق القلب لم يكن يخفي انه غاضب بسبب الرياء والنفاق في هذا العالم .. وغاضب من صكوك الغفران التي تمنح للصهاينة .. لأنه عرف ان الايمان بيسوع انطلق من فلسطين وان الايمان المسيحي لامعنى له اذا ظلمت فلسطين العربية المشرقية .. ومن يقرأ آلام الأب الياس زحلاوي على مدار عشرات الصفحات بسبب ظلم فلسطين سيسمع آلام يسوع وأمه العذراء .. وأنه كان يريد فلسطين كي يحافظ على جلجلة صوت السيد المسيح في القدس والتي صادرتها جلجلة الاساطير والاجراس السياسية والميول البشرية .. وأقانيم السياسة التي حلت محل الثالوث المقدس ..
ومن سيقرأ مذكرات الاب الياس .. ويتجول بين ردهاتها .. لاشك ان هناك شيئا ما سيلفت نظره .. وهو أن اسم فلسطين تردد كثيرا .. وربما ورد اسم فلسطين أكثر مما ورد اسم يسوع .. وكأن فلسطين هي كلمة السر .. وكأنها هي ما قد أراد ان يقوله الاب الياس زحلاوي .. ففلسطين هي شغله الشاغل .. وتقصيرنا كمشرقيين عن فلسطين هو لبّ الألم وهي الجرح في قلب الاب زحلاوي .. وانحياز الايمان المسيحي الغربي ضد فلسطين كان خطيئة كبرى بحق السيد المسيح .. فالأب الياس زحلاوي ربما كان يرى ان المسيحية من غير فلسطين مثل الانجيل من غير مريم العذراء .. فكيف على أرض السيد المسيح حيث صلب وحيث افتدى البشرية وضحى بنفسه وخلص الانسان من الذنوب بدمه .. كيف تحدث أم الذنوب .. وأم الجرائم .. وتصلب العدالة؟؟ .. وهل سيغفر لنا السيد المسيح اننا لم نحم مهده وصليبه ..
في فلسطين عاد الصيارفة ليحكموا المعبد .. وعودتهم – في نظر المؤمنين بيسوع مثل الأب الياس زحلاوي – تكاد تشبه هزيمة للأنجيل تحققت لأول مرة منذ الصلب .. فالانجيل نفسه اهتز عندما أعلنت ولادة اسرائيل على أرض فلسطين .. ولادة غير طبيعية .. ضد الدين وضد يسوع وضد الله وضد الانسان .. ولن أنسى ماحييت دهشتي وأنا أقرأ رده الهادئ المليء بالغضب للاهوتي الفرنسي الشهير أيف كونغار عندما طلب وتمنى من الأب الياس زحلاوي بصفته مسيحيا سوريا وعربيا (أن يترك اليهود في فلسطين مرتاحين لأنهم عذبوا طويلا وتشتتوا طويلا .. ولأن لهم الوعد الالهي بالأرض) .. فكان رد الأب زحلاوي من أجمل ماقرأت اذ قال:
“أن يكون هذا الشعب قد تعذب فهذه حقيقة تاريخية .. ولكن الذين عذبوه هم الغربيون وليسوا العرب ولا المسلمين .. وأن يكون قد تشرد فهذا امر يعود لما مارسه الغرب يحقه من لاسامية بغيضة لم يعرفها العرب ولا المسلمون طوال تاريخهم الطويل .. وأما ان يكون له وعد الله بالارض في فلسطين فعندها اسمح لي ان اسألك وأنت اللاهوتي الكبير: ماذا تفعل عندها بيسوع المسيح؟ وتابع غاضبا: اب كونغار .. هذا المنطق أقبله من رجل الشارع الفرنسي ولكني لاأقبله من رجل بحجم علمك .. ويؤسفني أن اقول لك وأنا أغادرك بأنني قبل أن التقيك كنت سعيدا جدا بالتعرف عليك أما الآن فانني آسف جدا لذلك” .. وخرج دون أن يحييه مودعا ..
ولكن ليس الهم السياسي مابدا انه وحده ما ترك الندوب والجروح والقروح في قلب هذا الرجل الطيب النقي .. بل ان خيبة الامل من الانسان ومن بعض رجال الكنيسة كانت مصدر ألم أخر .. فكم أحسست وأنا أنساب بين سطور كتابيه وكأنني أقرأ كلمات الفيلسوف العربي الأمير المكزون السنجاري وهو يقول في خاطره:
أيها الحق ..
اراني فيك ممسوسا .. من الشيطان بالنكد
وبالتشنيع من جاري … وبالعصيان من ولدي
وأبرح ماأكابده .. من الاخوان بالحسد ..
ولست بذاك مكترثا .. فكيف .. وأنت معتمدي؟؟ !!
فسيرة الأب الياس زحلاوي هي خليط من الانتصارات والهزائم في هذا الجهاد الطويل ضد الشر وضد المادية ونزعة السوء في نفس الانسان أحيانا مهما كانت عقيدته .. خليط من الامال والآلام .. مزيج من الخيبات والمسرات .. الا أنني عندما قرأت احدى أهم الرسائل في الصوفانية المقدسة فانني لا أدري كيف أحسست بقوة انها رسالة أخذها السيد المسيح كانت مثل لوحة معلقة على جدار قلب الاب الياس زحلاوي .. وبما كانت قطعة من قلب الأب الياس زحلاوي كتبت عليها وصية السيد المسيح .. لأنني صرت على يقين كامل أن انتقاء الصوفانية وقربها من الاب الياس زحلاوي لم يكن انتقاء عبثيا من السماء ولا صدفة عابرة .. بل انها دلالة على ان من سخره الله لخدمة الصوفانية ورعايتها وتبنيها أراده الله رسولا للرسول يسوع يحملها ويبلغها ويلقنها للناس .. ولذلك فان وصية السيد المسيح في الصوفانية كانت هي ذاتها ماتريد ان تقوله نفس الأب الياس التي كانت تبحث تجول الدنيا من ان كان يافعا تنقل هذه الرسالة .. بعثها لنا السيد المسيح في احدى أهم رسائله عام 2004 عبر ميرنا:
ارجعوا كل واحد الى بيته
ولكن احملوا الشرق في قلوبكم
من هنا .. انبثق نور جديد .. أنتم شعاعه
لعالم أغوته المادة والشهوة والشهرة
حتى كاد ان يفقد القيم
أما أنتم
فحافظوا على شرقيتكم
ولاتسمحوا أن تسلب ارادتكم
حريتكم في هذا الشرق ..
ان هذا الكلام لعمري هو السر الدفين .. وهو الكأس المقدس في كتاب (قد يكون لي ماأقوله) .. ولو أنني أردت اختصار الكتاب لما وجدت أجمل واروع من هذه الرسالة التي هي السر الذي تدور حوله المذكرات والشيفرة التي سيقرأها القارئ بين كل سطر وسطر .. انها بالضبط ماأراد ان يقوله صاحب كتاب (قد يكون لي ماأريد قوله .. )
وبعد ..
لاريب انني كنت كلما قرأت مايقوله الاب زحلاوي وهو يتحدث بحنان واعتزاز عن أصدقائه المسلمين ويدافع عن المسلمين .. ويكفكف أدمع الناس في الحرب على سورية .. ويئن مع أنين البيوت الحزينة والمساجد الجريحة والكنائس الثكلى .. أردد واقول دوما انني أسمع صوت الراهب بحيرى الذي خشي على النبي محمد من الاذى واوصى عمه أبا طالب ان يحميه من الأشرار واليهود .. ولذلك ففي سيرة هذا الأب الجليل يمكنك ان تعرف لماذا ستحب كمسلم أن تكون مسيحيا عربيا .. وان كنت مسيحيا عربيا ستحب أن تكون مسيحيا سوريا .. وستدرك لماذا ستحب ان تقرع الاجراس في طول الشرق وعرضه .. ولماذا اختار الله ان يبقى يوحنا المعمدان في قلب الجامع الاموي .. وكأنه قلب الجامع الاموي النابض ..
أبت الحبيب .. ربما تلعثم قلمي مرارا .. وتخثر حبري فيه كما يتخثر الدم في العروق القلقة .. فكلما أردت أن أزيد أخشى على هذه الايقونة المسيحية السورية العربية أن يخدشها الحبر الكثير .. فالحبر على نعومته يخدش عندما نكتب به على أوراق السماء .. عن أهل السماء عندما يعيشون على الارض ..
لك محبتي .. وانحنائي الطويل ..

كلّما قرأت لكَ أكثر أستاذ نارام.. كلّما ازداد أكثر انحنائي لقلمك المُبدِع….تحياتي لكَ من هذا الشّرق الجميل❤️