عندما قرأ الناس كتاب محمد الماغوط عندما صدر كان كثيرون مبهورين بالعنوان لانه عبّر عن حالة غضب سخط ورغبة في الاحتجاج .. رغم انه صادم وبطعم الخنجر في القلب .. لكنه ذلك الألم اللذيذ الذي يحسه اليائس والراغب في الانتحار بعدما تذوق نكهة اليأس وطعم القنوط .. كمن كان في البحر ظمآن وجاء الموت مثل الماء العذب في شفتيه .. العنوان صادم ومرعب وكأنه نوع من الالحاد .. كمؤمن يقرر ان يلحد علنا .. وكرجل عفيف قرر ان يطارح الغانيات الغرام على قارعة الطريق .. وأن يشرب الخمر في الحانات بعد أن كان من رواد المساجد والكنائس ..
انه نداء للانتقام والثأر والتشفي من الاحباط بسبب الخيبات الكثيرة في أوطاننا .. فأوطاننا التي خرجت من سبات 400 سنة من الاحتلال العثماني كانت تعيش حالة من الاستقلال المراهق .. ولم تكن هناك دولة بل جماهير منفعله وسلطة منفعلة تمسك بالقرار لأول مرة منذ 400 سنة وهي تجد نفسها تحاول ان تحل مشاكل عمرها 400 سنة من دون خبرة لأنها كانت مهمشة في الدولة العثمانية وليس لها أي خبرة في الحكم والادارة التي كانت مقتصرة على العنصر التركي (المتفوق) .. فيما الارض موزعة على نظام اقطاعي شرس لايرحم .. والناس يزرعون الأرض ويأخذ انتاجها الباشاوات والآغوات الذين كانوا في الحقيقة جباة للضرائب العثمانية القاسية .. ففي استانبول كانت النخبة العثمانية التي تقود الامبراطورية وجميع الشعوب تعمل في خدمتها .. ولذلك كانت الحرية الاولى التي تذوقها فم الشرق العربي منذ 400 سنة هي الحرية من الاحتلال العثماني الذي كان (خازوقا دق بأسفلنا منذ 400 سنة) .. لم نبن مدنا فيها ولا حضارة ولم نقد كتيبة عسكرية واحدة لننتصر .. فلم يكن بيننا قائد ولا مفكر ولاسياسي ولاعالم ولانخبوي .. وكان غيابنا عن عالم القيادة والادارة مشكلة لنا .. لأن أكثر قيادة كانت ممنوحة لنا كعرب في الدولة العثمانية هي قيادة باب الحارة وعكيد الحارة في بلاد الشام او الفتوة والنبوت في مصر .. وهذه ظاهرة فقط في البلدان التي حكمها العثمانيون .. والمدارس هي فقط في نظام الكتاتيب الذي يعلم القراءة والكتابة لأسباب القراءة القرآنية فقط .. ولكن لاعلوم ولارياضيات ولافلك ولاكيمياء ولافيزياء ..
وفجأة وجدنا اننا أحرار .. وعلينا ان ندير مجتمعات ونبني دولا من لاشيء .. دولة بلا مدن وبلا خبراء ولا نخب علمية واسعة الانتشار .. وكان علينا ان نبني المدن ونبني الناس والنطام الاداري والسياسي .. وأمامنا أزمات الفقر المدقع بعد ان تم نهب البلاد طوال 400 سنة لم يبق فيها ثروة ولا استثمارات .. وكان من الطبيعي في فترة الانتقال من القبيلة الى المدنية ان تكون العلاقة بين الانسان والسلطة علاقة فيها ظلال عثمانية .. لأن من وصل الى السلطة كان يريد فقط ان يتصرف مثل الوالي العثماني لأنه لم ير في حياته اي سلطة ليقلدها ويسير على سنتها سوى السلطة العثمانية ومافيها من عنجهية وصلف وصفاقة واستهتار بالناس واحتقار لهم وتمتع بالسلطة المطلقة التي توضع بين يديه ولو في أصغر مكتب للدولة لأن المواطن لم يكن له حق امام الوالي العثماني والباشا بل يخضع الحق لمزاج الوالي وعقله .. ولذلك كان النفاق والتملق هما سلوك الناس مع السلطة ومن يمثل السلطة .. ولايزال هذا السلوك ساريا حتى اليوم .. فالنفاق والتقية واظهار الولاء والخضوع والاذعان لاصحاب المناصب في الدولة هما السلوك العام منذ فترة غياب العدالة في المجتمع العثماني .. وهذا سبب وجود الخوف من رجل الامن المخيف المكروه الذي يظنه الناس وريث جمال باشا السفاح وقادة الجندرمة .. وهو سبب وجود موظف الدولة المرتشي والفاسد الذي ورث عقلية الموظف العثماني الذي يأتي من تركيا ليجمع الضرائب والاتاوات ويتلقى الهدايا والرشوات قبل ان تنتهي مهمته في بلادنا ويعود بالغنائم والثروات الى تركيا ..

ولذلك وبمجرد الاستقلال من الاستعمار الغربي خرجت مجتمعاتنا فتية تملك النظرة العثمانية للدولة والسلطة الراسخة في الضمير والذاكرة .. وكنا أحرارا ولكن الحياة السياسية كانت هي ذاتها الحياة العثمانية التي لم تتغير والتي حاولت ان تتطعم بنكهة غربية اوروبية بعد الاحتكاك بالغربيين في فترة الاستعمار .. ولذلك عشنا فترة من الضلال السياسي وكانت الدولة على الدوام في ذهن المواطن هي ذلك الباشا الذي لايحب الناس ولايحبه الناس .. فيما كان من يتولى السلطة لايعرف ان يمارس من السلطة الا دور الباشا الذي يجب ألا يحب الناس .. وكلما كرهوه كان يعني انه باشا حقيقي .. ومن هنا تكرس الانفصال بين الناس والدولة .. لأن العثمانيين رحلوا فيما أن العثمانية بقيت ..
وهذا لايعني دفاعا عن الفوضى والفساد الذي أصاب المجتمع ومارسته السلطات الناهضة في العالم العربي ومارسه برضى المجتمع العربي الذي غير طواقم الحكم في عدد من البلدان أكثر من مرة دون أن يتغير شيء في طريقة ادارة الدولة وفي مستوى الفساد وتراجع العدالة .. فالجميع حمل شعارات جديدة من الاشتراكية الى القومية الى الاسلامية .. ولكن في النهاية كان الاداء في ادارة البلاد عثمانيا .. حتى الاسلاميون في ثوارت الربيع العربي أداروا البلاد بطريقة عثمانية نشروا فيها الرعب والقتل والعدالة المبتورة الرأس والمزاجية والانتقائية وصاروا فاسدين ويجمعون الثروات والاتاوات كما كان كل من قبلهم فاسدا .. بل وكما كان الباشاوات الاتراك يعودون محملين الى تركيا بالغائم والرشوات وقرارات النهب فان الاسلاميين جميعا ذهبوا بغنائمهم الى تركيا اليوم وبنوا بأموال السرقات والنهب استثمارات ومشاريع تجارية .. ولكم ان تسألوا عن مصير معامل حلب التي سرقت الى تركيا وعن أموال زعماء جيش الاسلام التي قدرت بمئات مليارات الدولارات التي كان اخراجها من الغوطة الشرقية شرطا اساسيا للتسوية ..
ولذلك فان كتاب (سأخون وطني) في انفجاره الصارخ ضد السلطة العربية التي لازالت عثمانية العقلية والفوضى والفساد والجهل كان كتابا يصلح لمحاكمة المرحلة العثمانية وبيانا صارخا للتنديد بها وتوصيفها .. وكأنه كتاب تأخر 400 سنة ..ولم يتمكن من الصراخ والطفو فوق سطح الماء منذ 400 سنة من دون اوكسيجين .. وتجد فيه كمية كبيرة من الاحباط والقلق والرفض والعصيان والسخرية والكوميديا السوداء .. رغم انه يحرض الانسان العربي كي يتحرر من نفسه أيضا ومن كسله ومن ذله السياسي الكبير المتمثل في اسرائيل والاذعان للغرب .. لكنه وقع في فخ سوء الفهم والاستيلاء على رسالته وتحويلها الى فتوى للعمالة والخيانة وتراجع مستوى الوطنية ..
لاأدري من الذي حوّل الكتاب فقط من كتاب تحريض للمواطن العربي على التفكير والنقد الذاتي الى كتاب للخونة بحيث صارت فتوى خيانة الوطن مبررة .. بحجة ان الوطن لايطعم ولايسمن ولايدلل ولايرفه ولايقدم الاساسيات ويكثر فيه الفقراء والجوع والحاجة .. حتى تحولت فقرات الكتاب الغاضبة الى بيانات لتمجيد الخيانة … فالناس لم تقرأ من الكتاب الا تلك الفقرات التي تعتبر الوطن مجرد فندق لايقدم خدماته لنزلائه ويجب ان يتم تغيير الفندق والرحيل عنه او تحطيمه على من فيه او فتح أبوابه للغزاة كما فعل العراقيون الذ1ين بسبب النقمة على حكم البعث قرروا خيانة وطنهم وفتحوا الابواب للاميريكيين لدخول بغداد ..
وكان هذا النوع من الكتابات اللاذعة التحريضية يلقى رواجا كبيرا وشعبية .. وتمت ترجمة هذه العقلية التحريضية الى مسرحيات وتمثيليات .. وبدل انتشار التحريض الايجابي لتفعيل دور الانسان في ألا يخون وطنه بالتزامه نفسه بالقانون والأخلاق الوطنية .. انتشرت ثقافة عدم الثقة بالدولة وانتقادها والسخرية من كل شيء فيها .. والسخرية من شخصية المواطن العربي نفسه ومقارنته المهينة دوما بما يمتلكه المواطن الغربي .. وهذا دوما جعل المواطن العربي يبحث دوما عن خلاص ياتي من الخارج .. ولجوء الى الخارج .. فهو اما شيوعي او ليبرالي او اسلامي ..
كل الاوطان فيها فقر وفقراء وغنى واغنياء .. وكل الفقراء يحسون بالغربة في وطنهم .. ويحسون بالغنى في أوطان تثريهم .. وكل الاوطان تمر فيها عواصف سياسية وتمر فيها محن .. وتمر فيها مجاعات .. وكل الاوطان تمر فيها ثورات وفورانات وخيبات واحباطات ولاعدالة .. ولكن لايوجد على الاطلاق دعوة للخيانة بمعنى الخيانة والعمالة .. ودعوة لطلب الاحتلال ومجلس الامن وجيوش الناتو كما فعل الثورجيون العرب الذين كان شعارهم دوما (سنخون أوطاننا) .. وبذريعتها تتحول اسرائيل الى بلد صديق وتتحول تركيا العثمانية الى أم رؤوم وفرنسا الى أم حنون .. ويحمل المواطن السلاح ضد كل من لايوافقه على رأيه .. وضد كل من يعترض على قراره بالتمرد المسلح لأن من يخالفه عوايني وموال وجزء من النظام العدو والاحتلال الوطني كما كان بعض الثورجيين يقولون ..
كتاب سأخون وطني هو كتاب خطير المضمون .. ولكنه ادانة لكل المعارضين الخونة قبل كل شيء .. وادانة لكل مواطن متقاعس عن طلب الحرية على طريقة الاحرار .. وهو ليس كتابا لصنع عملاء للناتو ومتسولين للحرية وخونة وجواسيس ومهللين للدبابات الاجنبية .. وهو ليس كتابا كي نطعن أوطاننا في أصعب أزماتها الوجودية ونتخلى عنها .. واذا كان الماغوط يرى ان عبارة سأخون وطني لأنه لايوفر لي مسكنا وطعاما فان كل طريقة في الخيانة قد تكون مقبولة كالهجرة والثورة والتمرد ولكنها حتما ليست العمالة ..
أنا لن أخون وطني .. مهما خانني وطني ..
ن