من لايملك موهبة السؤال سيعيش الدهر مخدوعا وسيدخل الى حياته ألف حصان لطروادة .. لأن الخديعة عدوها السؤال .. ولو سأل المخدوعون تلك الأسئلة التي تذيب الكذب لجنبوا انفسهم ان يعضوا اصابع الندامة ..
انا لست مهووسا بالشك ولكن علمتني الأيام ان لاأسلم أذني وعقلي لكل ظاهرة ولكل صوت وهمس .. وتعلمت أن الدعوات للاحتفالات والمهرجانات ليست مجانية وخاصة تلك التي تكون لتوزيع الجوائز .. بل هي بيع لبضاعة .. ولذلك فانني لاأتابع جوائز الاوسكار ولا جوائز نوبل لأنها سوبر ماركت لبيع البضائع السياسية المغلفة بالفن والابداع .. ولذلك تجد ان هنري كيسنجر وبيغين واوباما ينالون جائزة نوبل للسلام وهؤلاء هم أكثر من صنع الحروب وسبب زج اسم السادات وغيره في الجوائز كان لأن السادات وغيره اعطوا غطاء لبيغين والامريكيين ليتابعوا الحروب في لبنان والشرق ومنع مصر من ان تكون صمام امان ضد الحروب الاسرائيلية وردعها .. ولو بقيت مصر عربية الهوى لما ارتاحت اسرائيل لتقوم بحروب في كل مكان ..
الجوائز والاحتفاليات الدولية هي نوع من الرشى والترويج التجاري .. فالغرب في كل تحركاته السياسية والثقافية والفنية له غاية واحدة وهي خدمة الاجندة السياسية لشركاته وبنوكه وايديولوجيته .. ولذلك فان هوليوود ليست بريئة من مهمة سياسية عندما لاتقدم العربي او الروسي او الصيني الا على أنهم مصدر للشك والريبة والقلاقل والتفكير المريض .. وتكرم من يساعدها على هذا الترويج في احتفالات الاوسكار والسجاد الاحمر .. ومن هنا نجد ان الاصرار على تقديم الفخامة والدعاية والاحتفاليات هو جزء من نصب الفخاخ للمثقفين في العالم ليقدموا ولاء الطاعة وينحتوا خطابهم ليتناسق مع خطاب الغرب او ليبتعد عن خطاب من يعادي الغرب .. وأنا أجد كل من يتلقى الجوائز الدولية الغربية يقبل ان يكون جزءا من الحرب السياسية والثقافية التي يخوضها الغرب ضد شعوب العالم .. وهي ملاحظة قالها أدولف هتلر في كتابه (كفاحي) عندما قال ان كثيرا من الذين يتم الترويج لأعمالهم وفنونهم في ألمانيا ليسوا مبدعين بالقياس للمبدعين الحقيقيين الالمان الذين تهمل اعمالهم وتطمر ويتم اظهار الأعمال التافهة على انها عظيمة .. ولكنهم ينتمون في خطهم لأعداء الشعب الالماني ..
ولذلك فاننا نلاحظ حركة تفقيس لمثقفين جدد كل فترة يتم الترحيب بهم دوليا وتصويرهم على انهم مبدعون وأصحاب ثورات فكرية .. ولكنك تشم رائحة التسييس والترويج وتشم رائحة غريبة فيها نكهة الخيانة الوطنية .. ولذلك فان هذا النوع من الكتاب يمكن أن نسميهم (كتّاب الأنابيب) مثل أطفال الانابيب.. أي ان ولادتهم الادبية والثقافية لم تكن طبيعية بسبب لقاح وانتخاب طبيعي أنتج مخلوقا بيولوجيا طبيعيا .. بل انه ولد في مختبر الانابيب عبر عملية تلقيح صناعي وارغام نطاف الهواية على تلقيح بويضة الانتهازية الضعيفة وسط بيئة مخبرية وأحماض وقلويات معقدة من الترويج والدعاية كي ينجح التلقيح .. ومن هؤلاء المصري علاء الاسواني ..
الرجل نال شهرة مفاجئة دون تفسير بسبب رواية متوسطة الاداء واللغة اسمها عمارة يعقوبيان .. وهناك روايات وقصص كثيرة تتفوق عليها من كتاب موهوبين لكنهم لايحظون بالشهرة والاهتمام وتموت رواياتهم قبلهم .. فهو لم يكتب رواية خارقة ولم يكتب عن نبوءة وشيفرات واستقراء واستشراف للمستقبل .. بل كتب عن مجموعة أشخاص يمثلون مجتمعا ضيقا .. ولكن أكثر خرق تحقق في الرواية هو تلك القصة الصادمة لثقافتنا العربية عن المثلية الجنسية التي أدخلها الى جسم الرواية ولم يكن لها اي دور الا ان تشير الى ان هؤلاء هم جزء مهم لكنه مغيب من المجتمع .. وهذه لعلمي كانت أول عملية تسويق واشارة في الأدب العربي والقصة العربية الى هذا النوع من الحب الشاذ .. وقد رآها البعض انها تصوير للواقع وعدم تنكر له كما كان نجيب محفوظ يصور الحارة الشعبية وثقافة الأوساط المصرية غنيها وفقيرها .. وماقام به الاسواني بروايته هو انه فقط تعمق في الوصف والحقيقة .. وحدثنا عن الشاذين جنسيا بطريقة رومانسية أحيانا ..

وربما يدافع البعض عن تلك الكتابة ويسميها شجاعة في تصوير الواقع .. الا أن الحقيقة هي ان هذا الترحيب العالمي بالرواية وتحولها الى فيلم ونقل صاحبها من فئة الهواة في الكتابة الى فئة كبار الكتاب وصناع الثقافة والنخب الفكرية يجعلنا نتوجس جدا من هذا التحول والمهرجان والحفاوة في استقبال الرواية .. ولكن يجب ان يقال بأنها القصة العربية الاولى التي تدخل الادب العربي بشكل شاذ .. وأن الاسواني هو أبو المثليين العرب عندما دفعهم الى قلب الثقافة العربية وشجع الناس على التعامل معهم على انهم جزء من العمارة الاجتماعية فهم جزء مهم من عمارة يعقوبيان ولم يضع في هذا الجزء عائلة لها مشكلة مع المخدرات او عائلة مختلفة سياسيا مع النظام مثل الاخوان المسلمين أو أو أو .. بل اختار الشاذين جنسيا ومعاناتهم في المجتمع .. فالادب العربي دخل الى كل تفاصيل الحياة اليومية ودخل القصور والحانات والمواخير والقبور والخيال والشعور الا انه عف عن التطرق الى ظاهرة الشذوذ .. رغم ادراكه لظاهرة الشذوذ والتي كانت من ميزات عصر الظلام التركي حيث ثقافة الغلمان .. الا انه قرر ان ينصرف عنها ويتجاهلها تماما ليس لأنه يرفض الواقعية بل لأنه تعامل معها على انها ليست قضية أدبية وليس من صالح الناس ان تطبع مع الشذوذ الجنسي .. والادب مسؤولية ورسالة والا تحول الأدب بيتا للثقافة بلا أبواب ولاشبابيك .. وماقدمه الاسواني كان عملية تطبيع مع الشذوذ لايشبهه الا تطبيع السادات مع الشذوذ السياسي باعترافه بالدولة الشاذة أخلاقيا وانسانيا المسماة اسرائيل وهو الذي فتح عملية التطبيع السياسي والثقافي معها منذ كامب ديفيد التي هي ام التطبيع وهي التي ولدت اوسلو ووادي عربة .. ولايزال التطبيع السياسي يتفتق من الخليج المحتل ومن الاخوان المسلمين ومن تركيا وكل مكان حتى في افريقيا بسبب العلاقة الشاذة المصرية الاسرائيلية التي دشنها السادات .. الذي في الحقيقة لعب دور الشذوذ السياسي وان كان له انعكاس في عمارة يعقوبيان فان العلاقة الشاذة جنسيا في الرواية هي في الحقيقة علاقة السادات باسرائيل .. ففيها كل الشذوذ الاخلاقي والانفراد عن الجميع بعلاقة غير طبيعية مع دولة غير طبيعية ..
ولكن اهتمام الغرب بالرواية واحتفاءه بها وسخاءه في الجوائز والترجمة الى لغات العالم ورفعه اسم الكاتب ليترشح عام 2011 الى نوبل .. يشير الى أنه رأى فيها تطعيما للثقافة العربية بثقافة الغرب .. والتطبيع الثقافي لايشبه التلاقح الثقافي بقدر انه مايشبه الاستسلام الثقافي .. وفي الغرب لايوجد شيء عفوي بل هناك ادارة للصراع الحضاري .. ولكن قلب الصراع الحضاري هو الثقافة لأن كل أدوات الصراع العسكرية والاقتصادية كلها من أجل ان ينتصر النموذج الثقافي في النهاية بما فيه من أفكار وتقاليد وعادات .. وانتصار أحد النماذج الثقافية يعني نهاية الصراع .. ونهاية الحاجة للأدوات العسكرية والاقتصادية ..
هناك رابط خفي بين الاحتفاء الغربي بأي كاتب او متميز عربي او عالمي وهو الاستعداد للتطبيع مع اسرائيل .. لأن اي اقتراب من اسرائيل هو ابتعاد عن روح الفكر المشرقي وانشقاق عن القيم الانسانية الحقيقية وهو هزيمة ثقافية لأن روح الثقافة العربية هي رفض العدوان والاستسلام .. لأن الاعتراف باسرائيل هو استسلام الثقافة ويشبه الاعتراف بالعبودية على انها طبيعية واعتراف بأن السرقة والقتل والظلم والكذب خلق نبيل من من أخلاق الانسان .. وان الانسان عندما يعترف باسرائيل فانه يوقع عقد سلام مع الشر ومعاهدة استسلام مع الكذب ..
فانتقاء الجوائز الغربية يخضع لقرار سياسي في منتهى الدقة .. فنجيب محفوط رغم عبقريته الروائية الا انه لايستطيع احد ان ينكر أن تأييده لمعاهدة السلام مع اسرائيل كانت مفتاحه للجائزة .. بينما كان شاعر في زمنه أكثر منه تأثيرا في العالم العربي ومقروء من كل الاجيال والشرائح وقصائده تسكن كل بيت عربي ولايوجد بيت عربي لايعرفه .. وحيثما ذهب ينتهي الاوكسجين من القاعات بسبب الازدحام لرؤيته والاستماع اليه .. هو نزار قباني.. الذي لم يتم ترشيح اسمه على الاطلاق لأي جائزة دولية .. لأن نزار كان في منتهى الوضوح في عدائه لاسرائيل وبلا هوادة .. وكان يهاجم المثقفين المطبعين.. وهاجم توفيق الحكيم عندما انقلب على مشروع عبد الناصر .. في حين ان نجيب محفوظ جلس في الزاوية المظلمة ونأى بنفسه عن المواجهة مع اسرائيل بل وكان احد مفكري السلام والآباء الروحيين لمبادئ السادات .. وكذلك فان احمد زويل نال جائزة علمية وكان من المعروف انه من مؤيدي معاهدة كامب ديفيد بل وعقب فوزه بالجائزة زار اسرائيل لالقاء محاضرة علمية بدت وكأنها ثمن الجائزة .. ولم يكن مضطرا لهذه الزيارة ..
كل عبارة تقرب كاتبها من اسرائيل تجعله مرشحا للجوائز الدولية .. حتى الشاعر السوري الكبير أدونيس تم ترشيحه بسياسة الجزرة عندما انضم الى مجموعة الكتاب العرب في بيان كوبنهاغن والذي تضمن عبارة خطيرة تقول: “ان اسرائيل تنتمي الى المنطقة “.. وكانت بينه وبين الجائزة عبارة واحدة او كلمة واحدة تجعله شخصيا يعلن انشقاقه عن التزامه بالابتعاد عن الصراع العربي الاسرائيلي .. ولم ينل الجائزة لأنه لم يقلها .. وحسنا فعل انه لم يقلها ..
الاسواني أعطى موافقته على ترجمة روايته الى العبرية .. ولم يصدر عنه اي تصريح حقيقي يهاجم فيه اسرائيل .. ولذلك فانه سواء التقى مع اذاعة اسرائيلية ام لم يلتق فانه احد أدوات التطبيع الثقافي لأن النأي بالنفس عن جوهر الصراع مع اسرائيل والاكتفاء بالتفرج على الاحداث هو تطبيع .. وخيانة للثقافة العربية التي ترفض العدوان والظلم والاستسلام ..
وفي المقابلة مع احدى الاذاعات الاسرائيلية التي يزعم انها مفبركة وكانت ذرائعه بالنفي ضعيفة فانه قام بعملية تطبيع ليس لأنه اعطى الموافقة على المقابلة مع اذاعة اسرائيلية بل لأنه استجاب لما تريده اسرائيل بمهاجمة عبد الناصر بعد ان كان يدافع عنه .. فلبّ التطبيع مع اسرائيل في مصر هو مهاجمة عبد الناصر رمز العداء لاسرائيل .. كي يبدو رمز العداء لاسرائيل عدوا للمصري .. فينحاز المصري بطبعه الى فكرة الصلح والتطبيع السياسي والوجودي مع اسرائيل ..
انا شخصيا .. ليس بيني وبين الاسواني خلاف مالي او نزاع على ثروة لكن من طبعي أنني لاأحب المطبعين .. ولاأحب رائحة الجوائز الغربية التي تفوح من ثياب اولئك الذين أسميهم كتاب الانابيب الذين يتم تصنيعهم ليكونوا صناع الرأي للحلول محل الاعمدة القديمة التي رفعت الثقافة العربية ونهجها واساسها ونكهتها .. ويقيني ان كل عربي في فترة صراع مع الغرب امام ان يكون مع الغرب او يكون معنا .. وهذا هو مفهوم الغرب .. لذلك فان من ليس مع الغرب لن يتم الترحيب به على منصات العالم .. ومن يصل الى منصات العالم فانه ليس معنا من خلال هذه المعادلة البسيطة .. وهو لاشك يدخل في نادي (الانابيب) .. كتاب الانابيب .. الذين يحقنون بالمقويات والاسمدة الدعائية .. ليكتبوا ويترجموا للعبرية .. وليكسروا مافيها من رموز لأنهم صاروا أصحاب كلمة وتسلحوا بالشهرة والتأثير ..
الكاتب هو ابن الكلمة وهناك علاقة جدلية متينة بين الكاتب وكلمته .. فهي عقد بينه وبين الناس .. وبينه وبين نفسه .. ومن يظن ان الكلمة ستغفر له خيانتها فانه خاطئ .. وبعض الكتاب يظنون انهم أذكياء ويمكنهم ان يتخلصوا من كلمتهم التي حملتهم كفرس أصيل الى اللناس بل وأعطتهم دمها ليعيشوا .. فيحاولون ان يأكلوا لحمها بمشرط شايلوك .. كي يتخلصوا من أي التزام يذكرهم بما تعاقدوا عليه مع الناس ومع أنفسهم .. ولكن هناك خونة للكلمة يعيشون في كنفها وترضعهم وتطعمهم وعندما يكبرون يطعنونها في قلبها ويأكلون لحمها نيئا ويمضغونه تحت أضراسهم ..
عندما تغير كلمتك فانك تقتل أمك .. وتمزق العقد بينك وبين الكلمة .. والكلمة العقد بيننا وبين أي مثقف عربي هي .. ان اسرائيل لاتنتمي الى هذه المنطقة .. وهي دولة شاذة .. والعلاقة معها شاذة .. والتطبيع معها شاذ .. والكلام معها شاذ .. وكل من يخالف ذلك فانه يقبل بدور الشاذ في عمارة يعقوبيان .. وكل من يهاجم عبد الناصر يعني انه رضي ان ينتهي نهاية الشاذ في تلك الرواية الشاذة ..


