في الثانية ليلاً جاءني صوت أبي الليث مهندس المعلوماتية من مدينة الحفة المحبوس منذ ثماني سنوات بتهمة الإرهاب “تشكيل تنسيقيات على الشبكة”:
فايق دكتور؟… جاهز تلعب دق الشطرنج؟!…
أبو الليث شاب في الثلاثينات قليل الحركة مكتنز الجسد مريح الوجه لدرجة تشوشك عن إدراك أفكار الدماغ الذي يرتدي هذا الوجه!!… هادئ الكلمات قويُّها ذكي الحجة ويحظى باحترام “مريب” من العشرات في الغرفة المحبوسين بتهمة الإرهاب من كل المحافظات فلا يرفع أحد صوتاً في وجهه ويتسابقون لتنفيذ طلبه بسرور…
وبينما أشار لي بقبضتي يديه القويتين الناعمتين طالباً مني اختيار إحداهما…
أجبته: نعم أبو الليث… قادم إليك… وأمسكت يده الأقرب لجسدي فكان الجندي الأبيض… وهو مايمهد لي أن أبدأ مهاجماً…
نعم نحن من اختار الهجوم بعد أن اصطفوا ضدنا فكانوا “الجيش الأسود” وكنا “جيش أولاد الفقراء… الأبيض”
وبينما كان كل منا يحشد قواته على الرقعة فوجئت باقتراب رئيس الغرفة وهو قائد فصيل في قوات النمر وكنت طلبت منه في الساعات الأولى لتوقيفي “تخت مستقل لو بالمصاري” وعرفته بنفسي كدكتور وضابط مداهمة في الحرس الجمهوري وأفهمته إنو شغلتي يومين تلاتة بس بالحبس لخلافي مع الوزير على القمح والخبز وعلى سرقة الناس…!! وعلى الطريق الذي تسير فيه إدارة الوزارة…
كما زحف عدد كبير من “الإرهابيين” من مختلف الأسرَّة المرتفعة في غرفة الحبس وطوقوني مع رئيس الغرفة بعيونهم… ولم يكونوا كأبي الليث فوجوههم لم تكن قادرة على ستر أفكارهم التي ملأت سماء غرفة الحبس بالعفن…!!
بعد البداية الرتيبة “لطابق الوسط” الذي أفضله في الشطرنج…
تقدم جنودي مهيد وحيدرة وعلاء بقوة وتمكنوا من إيقاع أحد جنود أبي الليث واقتادوه لي مقتولاً… وبدأت أفكر بفارق الجندي الذي يجب أن أحافظ عليه حتى نهاية الدق لتظهر قيمة “الجندي” الحقيقية…
لكن أُغلق الدق فجأة ورفع ابو الليث ساتراً عظيماً سد به الثغرة بسهولة مستعيناً باثنين من قادة فصائله “الحصان” و”الفيل”
وساد الهدوء!! والجنود وجوهها لبعضها تدق أنوفها ببعضها… ووقفت مكتوف اليد…


في “داريا” كان ساتر الإرهابيين الجبار قد أعيى قوات الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة وكنت مكسور اليد في معمل محارم القطة وطلب مني الملك “العميد علي” المشاركة في المعركة معنوياً وهمس لي: سيكون هناك شهداء من رفاقك الضباط لأن الخطة تقضي باقتحام كتيبتنا للساتر كنسق أول… وأعطاني الخيار بترك المهمة!!…
كسرت “بالحصان” هدوء وجبروت ساتر أبي الليث على رقعة الشطرنج:
هكذا هجم “الحصان” الملازم أول المهندس البطل عقبة عبدالله عثمان على رأس قوة من مغاويره وشقوا وحدهم بساعات قليلة ساتر داريا مسقطين هيبته وارتقى عقبة في انفجار عبوات حاول فكها وبرصاصات كثيرة اخترقت جسده…
ضحى حصان الحرس الجمهوري بنفسه مقابل اثنين من جنود أبي الليث السود… وثغرة في ساتره…
بدا الموقف فخاً!!!
حاولت الاقتراب من الثغرة ولم أدرِ هل أحرك حصاني أم الجندي!! ارتبكت فلمست الجندي أولاً ثم حصاني وكان علي تحريك الجندي وفقاً للقواعد فضربت يدي المرتجفة القطعتين فسقط الجندي فوق الحصان على الرقعة……. وهكذا:
سبقني طاهر “الجندي” إلى الثغرة في حارة العجمي فتلقى كامل الرصاص الذي خصصه مطلقه لي فوقع فوقي وخسر قدمه… ونهضت أنا حصاناً مصابا بجروح طفيفة… وكل ضابط في الحرس الجمهوري بطريقة ما: “حصان جريح”….
حاولت تحريك جندي آخر على الرقعة لأتبين خطة أبي الليث…
حاولت “كضابط خط أول” النظر من طلاقية بقطر عشر سنتيمترات لأتبين حركة العدو وبينما نزلت تحرك الجندي الأبيض الوسيم اسامة ووضع عينه في الطلاقية فخزق الرصاص عينه ودماغه…
خسرت جنديين على الرقعة طاهر مصاباً وأسامة شهيداً وقال لي أبو الليث مستفزا:
لم أخبرك… شاركت في بطولات عديدة وهزمت كل المثقفين الذين دخلوا السجن حتى اليوم…
حاول أحد أبطالي الجنود قطع الطريق على أبي الليث فمشى باسل الشارع المقنوص بجوار دوار المركبات دون اكتراث منتشياً بقدوم أول أطفاله في إجازته فأرداه أبو الليث برصاص في رأسه!!
وساء الموقف على الرقعة… وأتى صوت أبي الليث خبيثا هادئاً:
دكتور أنا كنت بطل ناشئي سوريا!! حصانك اللي وقع لن يشرب الماء حتى لو جاء الملك ليشربو!!… وبالفعل:
حوصرت وحدة المياه على الأوتستراد الدولي في حرستا وفوجئت بملك الرقعة “العميد علي” يرتدي درعه وخوذته التقاني في الطريق وقال: سأفك بنفسي حصار وحدة المياه هكذا الأوامر!!… فأجبته:
إن أصبت أو حوصرت سيدي ستحل الفوضى في كل قطعنا على رقعة الشطرنج… سأذهب أنا وبالفعل:
تحرك الحصان “أنا” مع أربعة جنود من نخبة مغاوير مقر القيادة أحمد كنعان وشعبان رحمون ومحمد سلاح وصفوان ديبة وغيرهم واحتلوا الهنكارات الأرضية المحيطة بوحدة المياه وتم فك الحصار…
لم يكن الموقف جيداً بعد على رقعة الشطرنج وكان علي الاستمرار بالهجوم من جناح الملك وتولى الفيل تدشيم الجهة الأخرى… لكن:
بينما نجح “فيلنا” الملازم أول مازن عبد الرحيم بتدشيم المعهد الفني بإدارة المركبات تم كشفه وهو ينقل الحجارة لتدشيم غرب الأوتستراد في حرستا وتم رشقه بالرصاص وسقط في فخذه وأشك أن روحه لم ترتق بل لازالت هناك تنقل الحجارة…
بدا الارهابيون سعداء متكتلين في كل تخت قريب وازدادت رائحتهم الوسخة نفاذاً كما لم تفعل رائحة السيان الذي غاصت به ركبي في أحد الأنفاق لدرجة أن قائد قوات النمر “رئيس الغرفة” طلب من بعض المساجين الابتعاد عن رأسي حيث اقترب اثنين منهم من ذوي الرائحة النتنة من خدي ورقبتي كأنهما يريدان عض خدي ومص رقبتي!!!…
ووسط هذا الضياع تقدم الوزير “المقدم البطل علي قاسم” وبدأ يقنص رجال أبي الليث الثقال قتل حصانه وجندياً آخر وحين أوقعنا أحد عناصرنا “هايل” بفخ ساذج أنقذنا المقدم علي ودهم قلعتهم وخطهم الخلفي في مزارع الغوطة قبل أن يتمادى في هجومه على طريق دوما وتنفجر به عبوة ناسفة زرعها أبو الليث وفقدت الوزير البطل مقابل ثلاث قطع معادية اثنتين منها ثقال…
ووسط تراشق مفتوح بعد انفتاح الدق:
هاجم الضباط نضال ونمير وبشار وعماد وفادي ومراد وعلي ونفذ مئات الجنود المغاوير تعليماتهم بجسارة…
وأسقطنا ملك أبي الليث في النهاية…
وارتفع صوت رئيس الغرفة قائد فصيل قوات النمر في وجه الارهابيين:
عيني ربك… يالله عمي كل واحد عتختو… سكرنا اليوم!!!!
بأمانة: ربما كان أبو الليث أفضل مني في الشطرنج لكني: لم أملك الحق بأن أخسر أمامه…!!!
كذلك في المعارك: لم أكن أقوى من ارهابيين كثر بدنيا ولم أكن أمهر منهم في الرماية… أنا فقط:
لم أمتلك الحق بالهزيمة!!!
اختفى هدوء وجه أبي الليث وزالت براءته تماما وقال لي:
أنت ربحت لأنك أطلت التفكير دكتور!!! فأمسكت يده بقوة رغم ضخامتها وصرخت بوجهه:
ولماذا لم تطيلوا التفكير قبل أن تخربوا البلد؟!!…
أنت لن تفهم شيئا… أنا لم أطل التفكير بل كنت:
أتذكر……………. دماء أصدقائي….
وبينما تركت يد ابي الليث مع شعاع فجر الساعة الخامسة الذي لطف الرائحة النتنة للارهابيين التي اختفت معهم في جوف أسرتهم ولم تتجرأ أن تجاوز حوافها في غرفة الحبس توصلت لخطأ لعبة الشطرنج:
إن اللعبة لايفترض أن تتوقف بموت الملك!!!! هذا غباء ارتكبه واضعو قواعدها…!!
الصح:
ومع المحافظة على ملك واحد أن تستمر اللعبة بعد موت الملك حتى يفقد آخر جندي بسيط أمله في الوصول للسطر الثامن في رأس الرقعة ويتحول إلى:
ملك… وليس فقط لوزير كأعلى رتبة…
إنما نخسر المعارك بموت آخر جندي بسيط يقاتل من أجل القضية وليس بموت الملوك!!!!…
جربوها… وسيكون للعبة وللحياة الواقعية:
معنى أكبر….