سمعنا عن مصطلح الرجل المريض الذي كان يطلقه الغرب على الدولة العثمانية التي كانت تتحلل وتتفكك وتتحرك بوهن على عكازات وتتعثر في كل شيء .. ولكن مات الرجل المريض .. ودفنت جثته في الاناضول في حديقة تركيا .. ولن يعود الى الحياة ولو حاول اردوغان ان يخرج عظامه من القبر ويجعله يسير في ادلب وشمال سورية ..
لكن الحقيقة المؤلمة ان الرجل المريض اليوم ليس امبراطورية .. بل هو انسان .. انه المواطن العربي الذي أضاع بوصلته .. واضاع هويته وصرت اذا تأملت في هذا العالم العربي لاستغربت اي انسان هذا الذي يعيش على هذه الارض .. وأي سم شربه المواطن العربي .. وأي خمر كرعه حتى تكرّش؟ أحس أحيانا وأنا أناقش بعض العرب ان العربي لم يعد موجودا وأنه بلغ مرحلة من التردي والتراجع في ملكاته العقلية الى حد ميؤوس منه حتى انه صار شخصا أبله .. أو نصف آلي بل انه روبوتات مبرمجة .. وتحس انك مهما حاولت ان تنظف ماكينات عقله من الصدأ وماء قلبه من الطحالب فلن يكتب لك النجاح .. لأن الصدأ كثيف جدا .. والطحالب تغلق كل عروق عقله وروحه التي لاتسمع ولاترى .. وكأنك تناقش تمثالا أو لعبة مبرمجة لاتفلح في ان تغير البرنامج المزروع فيها ..
والحقيقة ان عملية تعافي الرجل المريض – اي الانسان العربي – بالطرق العلاجية التقليدية بالنقاش والمنطق لم تعد مجدية لأن المنطق لايعمل هذه الحالات .. لأننا وصلنا الى تشظي الشخصية وتشقق الذات الى عدة ذوات وينقسم وينفصم فهو لايعرف كيف ينطق العربية ولكنه يطعمها بالانكليزية والفرنسية ويحارب العربية .. وكيف انه ضحية جشع وتآمر الغرب ولكنه يتماهى في الاعجاب بالغرب ويدعوه لاجتياحه واحتلاله .. ويحب دينه ولكنه يعطيه ليسخره خادما للآخرين الذين يكرهون دينه .. ويعتز بدينه ولكنه يقتله بنفسه بالعنف .. وانه طائفي رغم انه يريد ان يكون ديمقراطيا فقط عندما تكون طائفته اكثرية .. والغريب ان المرض يتفاقم ويتفشى وينتشر في خلاياه كالغرغرينا .. والغريب ان علاج هذا الانسان الذي كان يعاني من هزال في الثقة بالنفس وضمور في تقدير الذات ويتعرض لنوبات من القهر واحتقار الذات كان علاجه هو جرعة حرية .. محسوبة بالعيار والوقت ..


ولكن ماحدث له هو التسمم بالحرية على يد مشعوذين وخبثاء وقتلة .. لأن حجم الحرية الذي تلقاه عقله كان كبيرا جدا وبلا حدود .. وجرعات الحرية التي اعطيت له كانت فائضة وغير مدروسة حتى وصل الى حالة من التسمم بالحرية بسرعة فائقة .. وكأي خبير وطبيب باحث لو نظرنا في سبب التسمم بالحريات لوجدنا ان هذه المشافي التي تتوزع في كل مكان واسمها الفضائيات العربية وووسائل التواصل الاجتماعي غير المنضبطة توزع الحرية العشوائية مثل الحشيش والكيف .. وتفرط في حقنه بالحرية .. حرية التكفير وحرية التطبيع وحرية الخيانة وحرية الشتم وحرية القتل وحرية الجنون حرية الهجرة بالقوارب .. والحريات السياسية في تشكل الاحزاب على اي نهج ومن اي عرق ومن اي خلفية دون اي ضوابط .. فوضى في الاحزاب تحت ذريعة الحرية .. وفوضى في الاعلام والرايات تحت ذريعة الحرية .. وفوضى في الجرائد وفوضى في وسائل التواصل الاجتماعي .. وكلها صارت مثل عيادات طبية متنقلة غير مرخصة للمشعوذين والدجالين وتجار الطب الشعبي والطب بالتعويذات ..
عندما كانت مدارسنا هي التي تبرمج الناس كان الغرب يعاني من صعوبة في عملية الاختراق .. اختراق الوعي العربي .. والصحة النفسية والعقلية للعربي .. صحيح ان الانسان العربي كان يهزم في ميدان القتال لكن روحه كانت محصنة جدا مهما أصيب جسده بالهزائم والجراح كما كان المسلمون في يوم “أحد” مهزومين ومن غير الحمزة .. ولكن ايمانهم برسالتهم لايلين .. ولذلك كان من الممكن ان يستعيد جسده المبتور .. ولكن هناك من دس علينا دسيسة الحرية السياسية المنفلتة التي صارت سببا في كل هذا الخراب .. لأن أخطر أنواع التسمم بالحريات هي التسمم بالحرية السياسية .. فكما ان هناك نظرية تسليح الشعب الاعزل التي طبقها الاميريكيون في العراق وسورية وليبيا .. فهناك نظرية الافراط او الاغراق بالحرية حتى التسمم .. وتصبح الحرية التي كانت جرعة ماء يروي الجسد مثل من يغرق في النهر العذب ..
فكما نعلم فان الاميريكيين عندما دخلوا العراق أطلقوا الحريات السياسية بشكل مقصود وخبيث وبلا حساب في اغراق مدروس للمجتمع الذي استيقظ بالصدمة والروع ليجد نفسه بلا حارس ولا مشرف ولا جيش ولاشرطة ولا دولة .. واطلقوا معها عملية تسليح الشعب الاعزل حيث تمت عملية نشر السلاح وغض الطرف عن نهب الناس لسلاح الجيش العراقي الذي تم حله .. ووجد الناس ان بيدهم اليمنى سلاحا وفيرا بعد ان كان السلاح بيد الدولة والجيش .. وفي اليد الاخرى حرية مطلقة دون ضوابط بيد شعب كان مقيدا بكل الضوابط .. وكانت جرعة الحرية اكبر بكثير مما يجب ان تعطى .. وفي نفس الوقت كانت هذه الحرية مسلحة .. فحدثت الفوضى الخلاقة ووقف الاميريكي يراقب عملية القتل المتبادل وقلبه يرقص فرحا .. وقد نجحت التجربة جدا عندما كان الاميريكيون يقتلون بعض السنة باسم الشيعة وبالعكس .. فقد صار بيد الناس الأن سلاح وحرية .. فعمت الفوضى السامة من رحم التسمم بالحرية وظهرت الكتائب العسكرية والميليشيات السنية والشيعية وانبثقت داعش في هذا الجو وولدت بيد المخابرات الامريكية التي وضعت في انبوب المختبر العراقي سلاحا وحرية وبعض الانزيمات التي تعجل التفاعل مثل الدعاية واعدام صدام حسين .. فكانت داعش ثمرة هذه التفاعلات والتخصيب للجريمة ..
وتكررت التجربة في سورية ولبنان وليبيا .. تسليح الشعب الاعزل واغراقه بالحرية .. فكان دور جامعة الدول العربية والاعلام النفطي هو الاصرار على اخلاء المدن من الجيش السوري وقوات الامن لاطلاق حريات لاحدود لها لشعب كان يوحى اليه انه مخنوق بالقيود السياسية .. فظهرت مايسمى الثورة السورية المتوحشة التي لم تقل عن وحشية داعش والتي ولدت بيئة عنفية ووحشية لم يخل منها مجتمع سوري محلي ..
الحقيقة ان تسليح الشعب الاعزل لايمكن ان يفعل فعله دون تسليحه بالحرية المفرطة التي لاحدود لها وخاصة حرية الكراهية والتطرف والتكفير والقتل والخيانة والعمالة .. واول علاج لهذا الداء هو سحب فائض الحرية وسحب السلاح من الشعب الذي تسلح .. وتحديد مستوى الحرية النظيفة والحرية الصحية .. فالاوكسجين نفسه يصبح ساما اذا تم الافراط في اعطائه للمرضى .. وكلامي طبعا لايعني التسمم بالديكتاتورية والاستبداد خوفا من الحرية بل التوازن بين الحرية واللاحرية ..
هذا الانسان العربي الذي كان يعاني من التسمم بالاستبداد العثماني الطويل ولم يعرف ابناؤه بعد الاستقلال اعطاءه الا جرعات قليلة من الحرية والامل .. فاذا به يتسمم بالخوف والفساد .. ولكن بدلا استئصال الخوف والفساد منه فانه تم تدميره في العالم العربي بالتسمم بالحرية بأحاديث الفضائيات وثرثرات فلاسفتها ولن يمكن استرجاعه الا بشيء واحد يعيد اليه ضميره وحريته الحقيقية .. ويعيده من هذه التغريبة .. ويعيد له قدرة العلاج بالمنطق .. هذا العلاج هو النصر أو الأمل الكبير بالنصر على كل من دخل مجتمعه وعواصمه ..
فاحداث نصر كبير سيستعيد ارواح الناس ويستعيد وعيهم المسروق .. ولذلك فان أهم مايجب ان تركز عليه قوى المقاومة والحرية ليس مجرد القدرة على الدفاع ورد المؤامرات بل على تصدير العمليات العسكرية الفذة .. والانتقال الى مرحلة الاعداد لالحاق هزيمة قاسية جدا بالمعتدين .. والتوقف عن المفاوضات الطويلة التي انهكت الأرواج التي تنتظر .. تخيلوا ماستفعله اي هزيمة قاسية باسرائيل او اميريكا كما فعلت هزيمة عام 2006 .. فكيف لو كانت الهزيمة من عيار ثقيل جدا .. ماذا سيبقى عندها من مرض الانسان المريض .. وروحه العليلة السقيمة؟ .. عندما نعالجه بالنصر .. وكيف ستقدر اي محاولة لاعادته الى غرفة المرض وزرع المرض فيه وقد تعافى من الوسواس الخناس .. وتعافى من التسمم بالسلاح والتسمم بالحرية .. وشرب النصر ترياقا لروحه المتعبة وانتعش قلبه .. فهل سيبقى فيه كراهية وتكفير ..وخيانة وعمالة .. وفصام وانقسام وقلة ثقة بالنفس؟؟
كلام من نور سلاما لنور حروفك
تشخيص دقيق وعلاج شافي حفظك ألله