تأبى السياسة الا ان تكون لها قوانينها الناظمة .. فهي ليست حركة عشوائية بل هناك كما في علم الاقتصاد والمجتمع دورات تتكرر وتعيد انتاج نفسها .. فالحركة الاقتصادية تولد دورات انتاج وأزمات بشكل يتكرر كل فترة لتعيد توزيع رأس المال وتدويره .. وفي السياسة نختصر القول بأن التاريخ يكرر نفسه ولكن الحقيقة هي انه ليس التاريخ من يكرر نفسه بل هي قواعد وقوانين السياسة التي نلبسها للتاريخ .. فالانظمة السياسية تتقلب وتصعد وتهوي في حركة شبه دورية .. البعض يختصرها بمقولة صراع الحضارات التي تعني فيما تعنيه تقلبات الانظمة السياسية اما نتيجة لتغيرات الظروف الحضارية او انها تغيرات انظمة سياسية تقود الى تغيرات اتجاه ومراكز ثقل الحضارات .. ولكن من المهم ملاحظة كيف تنتج الحركة السياسية للأنطمة والدول أزمات تنتج عنها معادلات سياسية ثابتة غريبة في دقتها .. ومن هذه المعادلات أن صراع القوى الكبرى يفضي الى ظهور فرصة لبزوغ أنظمة أخرى لم تكن موجودة .. كما ظهر ان صراع الحضارتين الرومية والفارسية أنهكها وجعل قوة نائمة بالقرب منهما هي القوة العربية تنمو في غفلة من هاتين الامبراطوريتين وتقدم نموذجا سياسيا قلب معادلات التاريخ والحضارات وتسبب في تغيير انظمة الحكم الفارسي والرومي كليا او جزئيا ..
وفي نظرة خاطفة الى الصراعات السياسية الحديثة لابد لنا ان نعترف ان خلاصنا مرتين من الاحتلال كان بسبب صراع خارجي تسبب في حصولنا على حريتنا مرتين في القرن العشرين وكانت هناك فرصة ذهبية للعرب للبزوغ كقوة كامنة غير متوقعة ولكن للاسف فوت العرب الفرصتين الذهبيتين .. وهذه هي المرة الثالثة التي ربما تتدفق الحرية الينا من بين صراع الامبراطوريات وربما نعيد انتاج نفس المهزلة ونخسر الفرصة التي تقدمها لنا روسيا الاتحادية ان لم نتصرف بوعي وحكمة ومسؤولية ..
وللتذكير في المرة الاولى التي تخلصنا فيها من الاحتلال كانت في الحرب العالمية الاولى عندما تسبب الصراع الطاحن بين الامبراطورية العثمانية والامبراطوريات الغربية بانهيار الامبراطورية العثمانية .. وكان من نتيجة ذلك اننا تخلصنا من العثمانيين والى الأبد وحصلنا على استقلال ثمين عزيز .. رغم اننا وقعنا تحت احتلال آخر هو الاحتلال الغربي .. ولكن المهم ان الاحتلال العثماني انكسر بسبب صراعه مع مستعمر آخر فحصلنا على استقلال مؤقت ولكنه كاف لانتاج وعي جديد وروح جديدة وأمل جديد .
ولم يكن ربما بالامكان التخلص من الاستعمار الغربي الذي حل محل العثماني دون صراع عالمي آخر يدمر القوة الغربية الصاعدة والمحتلة بنفس الطريقة التي تم فيها تدمير القوة العثمانية الطاغية .. فكانت الحرب العالمية الثانية التي تسببت بانكفاء وتآكل الاستعمار الاوروبي ..

وقعت الحرب العالمية الثانية بين هتلر وبين الامبراطوريات الاوروبية التي ورثت ممتلكات الامبراطورية العثمانية التي هلكت في الحرب العالمية الاولى .. ولكن هتلر في حربه العالمية الثانية الاوروبية تسبب عن غير قصد في حصولنا على استقلالنا في الشرق لان الامبراطوريتين الفرنسية والبريطانية سقطتا منهكتين في برلين رغم انتصارهما .. فقد كان ثمن النصر باهظا ..
من بين ركام الحرب العالمية الثانية نهض استقلالنا الجديد وحصلنا في بلدان المشرق على الحرية بالتالي وظهرت تيارات القوميات العربية والوطنيات العملاقة .. الى أن عاد الاستعمار بكل قوته عبر الاستعمار الناتوي بقيادة اميريكا التي توجت انتصارها في الصراع مع الامبراطورية الشيوعية السوفييتية بأنها بدأت بالتهام العراق .. ثم اطلقت الربيع العربي والتهمت من خلاله كل الجمهوريات العربية المستقلة وألحقتها بالممالك والمشيخات التي صارت مجرد محطات دفع وتحصيل ضرائب للامريكيين على شكل عقود واستثمارات .. وأعادتنا الى مرحلة الاحتلال .. وكأننا غيرنا الاحتلال العثماني الى بريطاني وفرنسي ثم الى امريكي ..
الربيع العربي هو نوع من أنواع الاحتلال الغربي بنكهة امريكية .. وكاد يعلن عصرا جديدا من الهيمنة والسيطرة الاستعمارية لعقود .. لان مشكلة التفتت في العراق لن تجد لها حلا طالما ان الامريكيين موجودون في العراق في أضخم قاعدة عسكرية بلباس ديبلوماسي في التاريخ تحت اسم سفارة تدير مستمرة.. وفي ليبيا لن ينزل الاستعمار الغربي عن ظهر هذا البلد المنكوب .. وفي كل جولة محادثات نجد ان عملية احتيال تتم وتأخذ الليبيين الى (دويخة) مفاوضات لانهاية لها ولاأمل .. والوضع اللبناني مشتت الى حد كبير .. وسورية لاتزال تحت هجوم شرس غربي واحتلال مباشر في جزء من اراضيها ومشروع تقسيم وحصار اقتصادي .. والسودان تتلاعب به القوى الغربية عبر الانقلابات .. وأما مصر فانها خرجت منذ كامب ديفيد ولكنها اليوم تحت السيطرة الغربية الى درجة انها لا تستطيع ان تدافع حتى عن مياه النيل فمابالك بالدفاع عن سيناء .. والى درجة ان السياح الاسرائيليين يدخلون سيناء من غير فيزا كمواطنين مصريين بينما لايحصل المواطن السوري على فيزا الى مصر الا بشق النفس بعد ان يدفع رسوما باهظة .. وصارت سيناء مثل الامارات والاردن بالنسبة للاسرائيليين .. مجرد منتجع مجاني ومثل بقية دول الخليج التي تحولت من التطبيع بالصمت الى التطبيع الفعال والمجاني المهين ..
في قلب هذا الانهيار والانكسار الذي وقع على الشرق وقعت المواجهة الروسية الناتوية على الارض الاوكرانية بشكل غير متوقع .. وعندما قيل انها ولادة لعالم جديد لم نكن نشك أبدا انها أيضا ولادة لشرق أوسط جديد لكن ليس على طريقة ومزاج كوندوليزا رايس .. بل ان المؤشرات والدلائل تقول ان الشرق الاوسط الجديد لن يكون اميريكيا بعد هذه المواجهة التي تمكنت فيها روسيا من اذلال الغرب وكسر هيبة الدولار وهيبة اميريكا .. وظهرت روسيا كقوة هائلة اقتصاديا بحيث انها هي التي ثبت انها قادرة على محاصرة العالم بمنع منتجاتها الاساسية من التصدير .. بل انها بمجرد انها قطعت بعض امدادات الطاقة اندلعت اسعار السلع في كل مكان وبدأت مؤشرات الاسهم بالهبوط وتراجعت العملات المشفرة وتراجعت الاقتصاجات الغربية المرعبة من الخطوات الروسية الجرئية والتي تدرك ماذا تملك وماذا لاتملك ..
التوتر في الحكومة البريطانية ونهاية جونسون سببه غضب الشركات البريطانية من تراجع الاقتصاد البريطاني دن وجود افق للحل .. لأن الحرب الاوكرانية تسببت في تآكل اقتصادات الغرب بسرعة غريبة ..
هذا الانحسار الغربي وتطاول المواجهة التي ستصل الى الصين سيعني ان زمن الامبراطورية الامريكية الذي حكم الشرق منذ سقوط العراق بدأ يتهاوى .. وعندما ينتهي زمنها سيتنفس الشرق من جديد وسنصل الى مرحلة استقلال وطني جديدة .. فمع تراجع ووهن اي نظام حكم عالمي امبراطوري تنبثق الفرصة لقوى كامنة مكبوتة للصعود .. وهذه هي الفرصة الثالثة لنا ويجب ألا نفوتها ونخسرها كما فوتنا الفرصتين الماضيتين ..
العالم على أعتاب تغير كبير .. والعالم يستعد لتغيير دورة الامبراطوريات .. وفي هذه اللحظة الحاسمة سينبثق الاستقلال الثالث .. ومن يفوت ثلاث فرص في أقل من قرن عليه ان يحضر نفسه ليكون في متاحف الأنواع والمخلوقات .. ومتاحف السياسات والنظريات .. ومتاحف الاديان والثقافات والحضارات ..
اشعر بأن العرب لايتعلمون
وفي كل مرة يدمرون بلادهم بأيديهم