دع عنك كل الكتب التي تزيدك حيرة على حيرة ولاتحمل الأجوبة مهما كان حجمها .. ولايغرنك ان كانت الكتب بدينة وثقيلة وتئن تحتها رفوف المكتبات .. لأن الكتاب الذي لايجيب عن الأسئلة الكبرى ينتمي الى صنف الكتب الثرثارة مثل البشر المملين الذين يجلسون ويتعبونك في الشرح وتنتهي الجلسة معهم وقد نقص علمك ونزف ادراكك واختلطت أفكارك أكثر بالطين كما يختلط الماء العذب بالتراب ويصبح عكرا .. فيما هناك كتب رشيقة نحيلة تصيبك في الصميم وتأتي لك بالاجوبة كالعصافير في الأقفاص .. بل انها أقفاص تكون فيها الاجوبة كالعصافير التي يطاردها الناس ولايمسكونها ..
لذلك عندما أسأل عن التجربة الناصرية بعد سبعين عاما فانني لاأجد جوابا شافيا .. لأن ناصر صامت لايتكلم .. ونيله صامت لاينطق .. وسويسه لاحول لها ولاقوة .. وعروبته ماء عذب اختلط بالطين وصار عكرا .. فمن الذي قتل عبد الناصر في مصر واغتاله بمسدس كاتم للصوت ..
شاء المصريون ام أبوا فان عبد الناصر هو أبو المصريين جميعا .. وناصر هو الجزء الثاني من مشروع محمد علي باشا (أبو نهضتهم الحديثة) .. فلولاه لكانوا مملكة مثل مملكة الملك حسين في الاردن حيث يعين الانكليز الملك بالبريد المستعجل – كما تم تعيين الملك عبد الله الثاني – ولكن على حجم أكبر .. أو كانوا مثل مملكة آل سعود الوظيفية التي لها وظيفة واحدة فقط هي مبدأ النفط مقابل الملكية على مبدأ النفط مقابل الغذاء ..
في مصر يبدو عبد الناصر غريبا أكثر من اي شخص آخر .. فحتى الناصرية التي لاتزال واقفة ليست ناصرية .. وهي شجرة يابسة لأن هناك من سقاها الكراهية .. وهناك من عمل في مصر عملا شاقا لاجتثاثها خلسة وباصرار كما عمل الاميريكيون على اجتثاث البعث علنا في العراق وكأن مشاكل العراق كانت في البعث .. وكأن اجتثاث البعث في العراق حل مشاكل العراقيين .. وكأن اجتثاث الناصرية حل مشاكل مصر .. فالمصريون من بعد اجتثاث الناصرية تحت شعار (صفر مشاكل) صار فيهم مثلما صار بشعارات الاتراك الذين بدؤوا بصفر مشاكل مع حزب العدالة والتنمية ووصلوا الى مكان ليس فيه الا المشاكل والازمات ..
الاجتثاث للرسالات والافكار يعني ان يتم تسميمها وزرع النفور منها .. وجعلها محملة بالعار والخجل .. كما يفعل الغرب اليوم مع الرسالة الاسلامية التي حولها الى رسالة لداعش والقاعدة وصار البغدادي هو نسخة النبي العربي .. وهذا ماحدث في مصر حيث النبع الناصري العظيم .. فان كل زمن عبد الناصر تم سحقه ومسخه الى حد صار بعض المصريين لا يعرفون الا عيوب عبد الناصر وأخطاء عبد الناصر وهزائم عبد الناصر .. أمام عبقرية (صفر مشاكل أنور السادات) ..
هناك خيانة ارتكبناها جميعا بحق عبد الناصر ولكنها خيانة غير مقصودة ولم نكن ندري اننا نرتكبها وهي اعتقادنا أن عبد الناصر يحمي نفسه حيا وميتا .. وظننا أنه طالما كان عبد الناصر على حق وانه كان صادقا فان اجتثاثه مستحيل .. فالحق الصادق لايموت .. وكل من كان على حق لاينطفئ ولاتموت رسالته .. وأن هذه الشجرة التي زرعها الضباط الاحرار في 23 يوليو لاتزال واقفة دون أن ندرك ان الضربات المتواصلة على أكبر أشجار الوجود كفيلة بأن تسقطها .. وفي وقت كانت تنهال الضربات على جسد عبد الناصر وزمنه فاننا اكتفينا باللامبالاة واعتقدنا خاطئين أن هزال نظرية السادات لايمكن ان تقهر وطنية ناصر .. وظننا ان الناصرية في مصر صارت تجري مع مياه النيل .. وان سلخ وادي النيل عن مجراه اهون من سلخ عبد الناصر عن ضمير مصر .. ولكن الذي حدث هو مايحدث لكل صاحب رسالة يبدع أعداؤه في ملاحقته واغتياله حيا وميتا ويجرمون الانتماء اليه ..

من دلالات غياب عبد الناصر هو الربيع العربي الذي كان ذروة الانتقام من عبد الناصر والناصرية وافكارها .. اذ حارب العرب العرب بشكل هستيري .. وكانت هي الحرب الاخيرة بين تيار ناصر وتيار الاخوان المسلمين .. اذ خرج الاسلام الوهابي الاخواني والنفطي كله على العروبة كلها في الربيع العربي.. وسقطت شعارات العروبة ورجالات العروبة وشعارات العروبة لصالح الشيوخ والأمراء ..
ومن دلالاتها ان مصر ترى كيف تعبث اسرائيل بكل المنطقة وتتسرب الى العواصم وتتمدد على أرائك الخليج الذهبية ويفرش لها السجاد الاحمر .. في وقت كان يجب ان تكون مصر هي على تلك الأرائك وفي وقت تستأسد تركيا على الجميع وتنشر دعوتها العثمانية لتحل محل الناصرية حتى في مصر .. فاذا باسرائيل وتركيا ترثان حلم عبد الناصر .. فتتزعم اسرائيل الخليج العربي وشمال افريقيا .. وتتوغل في السودان وافريقيا ..بينما تستولي تركيا على الشباب العربي وتدخله في غيبوبة الخلافة ..
لايكفي ان تقام احتفالات لاحياء الذكرى الناصرية بل يجب ان نقوم بمراجعة لهذه الحصيلة المهينة ولانحسار المشاعر الناصرية في مصر ذاتها .. وتمدد الأفكار الساداتية الرخوة الكسولة المستسلمة لغواية النوم في العسل وعبقرية الخروج من العروبة والدخول في الغيتو المصري واقفال الابواب بالمزاليج .. حتى أن حديقة توراتية أقيمت فوق جماجم عسكريين مصريين كشفت حديثا لم تطلق مظاهرة واحدة في كل جامعات القاهرة بسبب اهتزاز الكرامة والغضب .. ولم يحرق علم اسرائيلي واحد في كل مصر .. ولم تحرك الحادثة المكتشفة تجمعا للبكاء على المحرقة التي اكلت الجنود المصريين .. وبدت (الغزالة رايقة) وكأن المجزرة وقعت بالهنود الحمر قبل 300 سنة .. وهذا يدل على ان روح ناصر المتمردة والمتوثبة قد تم اغتيالها ..
عبد الناصر لم تقدر رصاصات الاخوان في المنشية من اجتثاثه .. ولكن عملية اعدام متواصلة تجري بحقه في التأريخ والتوثيق وهناك ممحاة ضخمة من الدولارات النفطية تمحو آثاره وهناك مكنسة من اللحى التي كانت تصلي شكرا لله على هزيمته لاتزال تكنس الارصفة والجدران والهواء والذاكرة من آثار خطاباته .. وهناك فريق موساد كامل متخصص في عملية تصوير عبد الناصر على انه رمز الهزيمة المطلق ..
الحنين لعهد لايكفي اذا لم نحمه من الرمال والعواصف الاعلامية والثقافية التي صارت مثل طقس ثقافي يتم تحريكه كما يتم التلاعب بالطقس في أسلحة المناخ هذه الايام .. ونحن لاعادة عبد الناصر لايجب أن نكتفي ببنائه بل علينا ان نعمل على هدف واحد هو اجتثاث الساداتية من مصر التي تتغلغل في كل الدولة ومؤسسات الحكم ونظريات السياسة والاعلام .. واجتثاث النظرية الساداتية هو الحل لاعادة الناصرية كتيار بتعليم المصريين ان الساداتية نظرية فاشلة وخطرة وكاريكاتير سياسي ولاتليق بمكانة مصر .. وان التردي في أحوال مصر وتمدد الاخوان المسلمين كانت نتيجة مباشرة للنظرية الساداتية .. وأن تنمّر قطر والخليج على مصر هو ثمرة سقوط الناصرية وصعود الساداتية التي انتهت الى مصير بحيث يصمت المصريون او يحتجون بتهذيب وأدب على مجزرة بحق جنودهم لأنها دماء قديمة سفكت بيد اسرائيليين .. ويصادر منهم نهر النيل علنا .. وتتحرش بهم تركيا على عتبة دارهم .. وتسرق اوروبة كل العالم العربي الذي كان بيد مصر في زمن عبد الناصر ..
ان الساداتية عشبة ضارة سامة يجب اجتثاثها كي ينمو عبد الناصر مثل الشجرة الاصيلة التي يرويها النيل .. يجب ان نقتلع مابذر في خمسين عاما من الساداتية المتواصلة التي لاتزال تعلم المصريين ان ناصر كان مغامرا رومانسيا على خطأ وكله مشاكل .. وأن سياسة (صفر مشاكل) السادات هي الدواء والعلاج لنهر النيل الذي يسير منذ آلاف السنين ولايلتفت خلفه ولايمينه ولايغير مساره نحو الشمال ليصب ماءه في البحر المتوسط بحيث صارت اميريكا هي المصب السياسي والبحر المتوسط و 99% من أوراق الحلول بيدها .. حتى خرج جيل من المصريين ناقما على عبد الناصر وثورة يوليو او لايكترث به وينفر من عنفوانه .. وهو جيل لايعرفنا ولانعرفه ولايهمه مايهمنا ولايبالي بما نحن فيه .. وأقصى ماأنتج بعد كل هذه المحن والكوارث والزلازل هو .. حكمة تقول (الغزالة رايقة) .. انه زمن الغزالة الرايقة .. وهذا زمن الرواق الذي لايعيش فيه ناصر ولاالضباط الاحرار ..
انني كلما قرأت تلك المعادلة الرهيبة التي وضعها مظفر النواب في قصيدته الشهيرة (أنبيك عليا) يهتز قلبي كما لو أنه عصفور صغير على غصن صغير في عاصفة ثلجية .. انها نبوءة الرعب ونبوءة الخيبة .. عندما يقول (أنبيك عليا .. لوجئت اليوم لحاربك الداعون اليك وسموك شيوعيا ..) .. كلما قرأت القصيدة أحس انها كتبت لكل علي اراد ان يحمي رسالة أمة .. وفي كل عصر هناك علي بثوب آخر .. وفي مصر فان جمال عبد الناصر هو من تعانقه كلمات ونبوءة النواب الرهيبة حيث ماعلينا الا ان نبدل اسم عبد الناصر بعلي واسم السادات باسم عمرو بن العاص:
أنبيك جمالا
ما زلنا نتوضأ بالذل ونمسح بالخرقة حد السيف
ما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف
ما زالت عورة أنور معاصرة
وتقبح وجه التاريخ
ما زال كتاب الله يعلق بالرمح العربية
ما زال محمد مرسي بلحيته الصفراء,
يؤلب باسم الله
العصبيات القبلية
ما زالت شورى التجار ترى اردوغان خليفتها
وتراك زعيم السوقية!
انبيك جمالا لو جئت اليوم
لحاربك الداعون إليك
وسموك شيوعيا .. وامبرياليا رجعيا
