ماكنت أعلم كيف يسقط الانسان من العين .. وكنت في طفولتي أسمع من الكبار ان فلانا سقط من عيونهم .. وحاول عقلي الطفولي ان يتخيل كيف يتدلى شخص من عيون الناس او يقف على جفونهم ثم يختل توازنه ويسقط من شاهق .. وبقي هذا اللغز يحيرني خاصة انني كنت اسمع ان فلانا ان فعل ذلك فسيسقط من عيون الناس .. وعندما يفعل ذلك الشخص المحظور أتطلع واحاول التقاط تلك اللحظة التي يظهر فيها في عيون الناس ثم تلفظه فيسقط أمامي .. ولكن لم يحدث ان رأيت شخصا يسقط من العيون .. الى ان كبرت .. وصار الكثيرون يسقطون من عيني كل يوم ..
سقط الحكام العرب وسقط المثقفون العرب وسقط الشعراء قدماؤهم ومعاصروهم وهم يتكسبون بشعرهم ومدائحهم .. وسقط الخلايجة الذين سقطوا في فخ تقليد الغرب وصاروا يلوون لسانهم بالانكليزية ويتسابقون ليكونوا انكليزا وفرنسيين حتى وهم يقرؤون القرآن رغم انهم ابناء صحراء وعرب اقحاح .. وسقط المتعلمون حملة الشهادات العليا والدكتوراه ووصلوا الى القمر وكان بعضهم يبحث عن فتوى .. اذا ماحط على القمر هل يدوس القمر بقدمه اليمنى ام باليسرى .. سقطت النخب التي كان شيخ الجامع يحركها مثل الدمى رغم انه بالكاد يقرأ الكلام ويعرف الجمع والطرح .. سقط المسلمون وهم يتفرجون على اهانات مسجدهم في القدس واهانات نبيهم في القدس ووجه بلادهم يشبه الجدري من كثرة القواعد الامريكية والفرنسية والبريطانية .. وسقط الغرب كله وأنا أرى هذا النفاق في الكلام والنفاق في الحياة السياسية والضحك على لحية الديمقراطية والحرية .. ..
وبقيت أسماء أثيرة على قلبي لم يمكن لي الا أن اضعها في عيني وفي البؤبؤ منها والاحداق وكان يمكن ان تسقط عيني ولاتسقط هذه الاسماء العظيمة من عيني .. وبقيت أمم قليلة تحظى باحترامي .. ولم تقدر عيني على لفظها مثل الامة الالمانية والامة اليابانية بسبب ماعرف عن معجزات وابداعات هاتين الامتين رغم الكارثة التي حلت بهما بعد خسارة الحرب العالمية الثانية .. انهما مفخرة شعوب العالم اذا مادرسنا تجربتهما بعد الحرب حيث ان المنتصرين تخلفوا بالقياس لما حققتاه من تقدم ..
ولكن عندما تجد الساسة لالمان يتسابقون لمسح دموع التماسيح الاسرائيلية .. وتجد انهم ينفعلون ويتصنعون الغضب بسبب تصريح يستحقه الاسرائيليون وهو انهم يرتكبون المجازر والمحارق والهولوكوست .. فتحار في نفسك وتشك أن هذه هي ذاتها المانيا .. وتشك ان كانت ألمانيا هذه هي أم هيغل وأم الفلسفة الاوروبية .. وهي رحم نيتشه وعقله الجبار .. وهي دماغ مارتين لوثير .. وتحس باحتقارها وهي تتصرف مثل أي أمير خليجي حقير .. تتوسل المغفرة من كلمة قيلت من قبل ضيف يمكنها ان تقول انه عبر عن رأيه .. رغم ان العين الالمانية ترى ان مايحدث في فلسطين محرقة حقيقية ومخجلة وصادمة ..


نحن نعرف أن ألمانيا دولة خاضعة للاحتلال الامريكي منذ هزيمتها .. وان هامش الحرية متروك لها في التجارة والاقتصاد وبعض الصناعات .. وهي لاتملك حق مناقشة أي قضية سياسية بشكل مستقل عن الارادة الامريكية .. بدليل ان شعبها واقتصادها هما اللذان يدفعان الجزية في حرب اوكرانيا ومع هذا لاتقدر ان تعترض .. تتآكل الماكينات الالمانية والاقتصاد الالماني ببطء وهي تحتاج الغاز الروسي ولكنها تخشى السيد الامريكي الذي يمسك بالهراوة ويهددها .. وكلنا نتفهم هذا الوضع الصعب للسياسيين الالمان .. ولكن أضعف الايمان هو ان لايبالغوا في الثرثرة والعويل من أجل كلمة هولوكوست قيلت في حضورهم عن اسرائيل .. وكان حريا بهم ان يتنصلوا من القضية دون هذا الاسراف في الندم والتفجع والبكاء والغضب من لفظ هذه الكلمة .. فهناك الف طريقة ديبلوماسية للتنصل من هذا الموقف دون الحاق الاهانة بالشعب الالماني وعظمته .. ودون اظهاره على انه شعب تابع لايختلف عن شعوب الخليج العربي المحتلة التي تعتبر مقابر جماعية للعرب حيث لاحركة ولااي اعتراض ولا اشارة تنم عن حيوية أمة او انفاس فيها او مر فيها نبي اسمه محمد .. ولم يعد التذرع بالقمع كافيا .. فشعوب مجاورة لهم قمعت قامعيها وطردتهم من عروشهم ..
الحقيقة أن ألمانيا لاتستحق هذه الاهانات وهذا التصرق الخفيف الوزن .. ولايليق بها مثل هذا التهريج والرقص الجنائزي فوق جثث أطفال فلسطين .. ولايليق لها ان تغمض عينها وهي عين أوروبة كلها .. وأحس ان هذا يشكل فاجعة لأن هذا البلد هو البلد الذي أنتج اعظم فلسفات اوروبة واعظم موسيقاها وأعظم نظرياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية .. فاذا بها تخون فلاسفتها وثقافتها .. فماذا سيكون موقف فريدريك نيتشه وفيورباخ وهيغل وكارل ماركس وهم يحدقون في بيانات الحكومة الالمانية التي تتبرأ من اتهام الاسرائيليين بارتكاب المجازر وتصب جام غضبها على الضحايا؟ .. كيف يمكن ان يضعوا مثل هذه البيانات الالمانية لتنسجم مع نظريات القوة والتفوق؟ .. انها ألمانيا التي كانت زعيمة طبيعية لأوروبة فحولتها السياسة اليوم الى مهرج أوروبة الكبير ..
انه فعلا السقوط بعينه .. السقوط الأخلاقي .. والسقوط القيمي .. والسقوط السياسي .. والسقوط من العين .. عين نيتشه وهيغل وفيورباخ وعين وبيتهوفن وكثيرين من عباقرة الثقافة الالمانية .. ومن عين كل حر .. وكل عاقل .. وسقوط من عيونكم جميعا ..

