تتداخل المصطلحات أحيانا وتتبادل بعض الكلمات كما يتبادل الناس الثياب والقبعات .. وكما تتناوب المورثات السيطرة على الصفات الحيوية والعضوية فان اللغات ليست مجرد أحرف وأصوات بل انها مليئة بالمورثات .. ولذلك فانني كلما سمعت بمفاوضات تشرف عليها أميريكا يقشعر بدني وأحس بأنني أراقب مسرحية طويلة ليس لها نهاية .. فكلمة المفاوضات تحمل في جيناتها الغربية معنى المراوغة والتخدير .. او الاستعداد للحرب ..
ومن هنا يتساءل أحدنا عن سبب هذا المد الجزر في المفاوضات النووية الايرانية الامريكية رغم ان بايدن كان شعاره الانتخابي ان يصلح الخطأ الفادح لترامب بالغاء الاتفاق النووي .. وتوقع الكثيرون ان عملية العودة للاتفاق لن تستغرق الا شهرا او شهرين على الاكثر .. والبعض كان متفائلا جدا وتوقع ان يكون الاتفاق النووي مع ايران هو اول انجازات الرئيس الامريكي المستعجل لاصلاح الخلل للمجنون ترامب ..
ولكن معرفة التركيبة السياسية للنظام الامريكي كانت تقود الى نتيجة واحدة وهي ان قرار الغاء الاتفاق النووي ليس قرار ترامب بل كان قرارا قدمه ترامب ارضاء للدولة العميقة التي لم تكن راضية عن ترامب والتي قررت سحب الاتفاق النووي من التداول فأعطاها ترامب ماتريد لارضائها .. ولذلك لن يقدر بايدن على اعاد الاتفاق النووي … وكانت كلمة المفاوضات هي كلمة السر التي تعني المراوغة ريثما يحدث تغير ما في هيكلية القيادة الايرانية او الاستقرار الاجتماعي في ايران مما يجعل الاتفاق النووي ليس قابلا للتنفيذ ..
وتذكرت عندما تطاولت المفاوضات حال التفاوض السوري الاسرائيلي حول الجولان .. فقد استغرقت المفاوضات سنوات عديدة ولقاءات ومحاولات اختراق وتجسس لصالح اسرائيل وفي كل مرة يتم اللقاء بين موفدين سوريين واسرائيليين يكون كل شيء شاقا ويستحيل تجاوزه .. وتبين في النهاية ان السوريين والاسرائيليين ليست لديهم رغبة في اتفاق سلام .. كل لاسبابه الخاصة .. فاسرائيل لاتريد التخلي عن الجولان لأنه خزان مياه حيوي لها ولأنها ستخسر شاطئ طبرية .. اما الرئيس حافظ الاسد فانه لم يكن في قرارة نفسه مقتنعا ان السلام مع الاسرائيليين هو خاتمة الصراع مع مجموعة بشرية لاتزال تعلم ابناءها في المدارس الرسمية ان حدود اسرائيل من الفرات الى النيل .. وهذا يتعارض مع فكرة السلام والانخداع بها .. كما ان الرئيس حافظ الاسد المسكون بالتاريخ لم يكن يفضل ان يذكر في التاريخ على انه صافح الاسرائيليين وفتح لهم بلاده وهو الذي يجلس على عرش جلس عليه صلاح الدين الايوبي .. وكان اقصى مايقبل به هو الارض مقابل اللاحرب .. من غير أعراس وسفارات وعلاقات ديبلوماسية وتطبيع .. وهو كان يدرك ان هذا مالن تقبل به اسرائيل .. فتمسك بهذه المعادلة التي كانت وسيلته الدفاعية لعرقلة اتفاق تطبيع وسلام مهين مع اسرائيل طالما رفضه في قرارة نفسه .. لأنه كان يرى ان اسرائيل خطر عليه في السلام كما في الحرب .. وان الصراع معها لن يقبل الا ان ينتهي أحد الطرفين .. اما نحن واما هم ..

الملاحظ في الامر ان الاسرائيليين كانوا يتابعون صحة الرئيس الاسد بشكل دقيق وملح وينتظرون وفاته .. وكانت المعلومات المتاحة لهم تريد الاجابة عن سؤال محدد وهو .. متى سيتوفى الرئيس السوري؟ لأن وفاته ستعني كثيرا لهم .. وأهم ماتعني ان الحديث عن الجولان سيتأجل وستنشغل سورية بعملية استقرار جديدة وحالة من القلق واللاتوازن وهذا كله وقت في صالح بقاء الجولان معها .. الذي لاتريد اعادته .. وكلما كانت تحس أن المفاوضات ماتت تتقدم بمبادرات وترسل الوفود الامريكين ومعهم العسل والوعود والودائع .. ومنها وديعة رابين الذي قتل بسبب احتمال قبوله بما اشترطه الاسد وتفكيره بالانسحاب من الجولان .. ولكن قلب اسرائيل كان ضد اي سلام او على الاقل ضد اي خروج من الجولان ..
وبالفعل فان وفاة الأسد قدمت لاسرائيل ذريعة لتمطيط المفاوضات بحجة انها تريد التعامل مع قيادة جديدة لاتعرفها .. كما أنها عندما حشرت في الزاوية والحرج الجيبلوماسي تقدمت بمشروع مضحك وهو اعادة المفاوضات من النقطة صفر .. اي اعادة كل اللقاءات والنقاش حول كل القضايا الخلافية التي تم التفاهم عليها سابقا .. اي دعوة لجولة مفاوضات لعدة سنوات أخرى .. وكانت في زمن المماطلة تعد العدة لمشروعها العزيز على قلبها وهو (الربيع العربي) والثورة السورية ..
وهاهي المفاوضات في الملف النووي الاياني اعيدت الى نقطة قريبة من الصفر المطلق .. وسارت بشكل متلو ومراوغ وفي كل مرة تقترب من نقطة الحسم وتنجز 99% من الاتفاق تثقب الاتفاقات بطلب او استفسار او اضافات موجعة لجسم الاتفاق .. وكأن اميريكا تنتظر شيئا .. ويبدو ان هذا الشيء يشبه ماانتظرته اسرائيل وهي تفاوض الاسد .. أي وفاته .. وهي ربما تثبت نظرها على ماتبقى من عمر للمرجع الايراني الاعلى السيد علي الخامنئي .. فقد تؤجل وفاته التي يترقبها الغرب واسرائيل الاتفاق لفترة اخرى تتمكن فيها اسرائيل من انجازات اخرى او تتمكن من شق القيادة الايرانية الجديدة او الشعب الايراني .. وكذلك وفي نفس الوقت فان الايرانيين وكما كان السوريون غير متحمسين للاتفاق بشأن سلام مع اسرائيل .. فان الايرانيين يفضلون الانتظار في المفاوضات لأنهم يطورون برنامجهم النووي بسرعة بذريعة انهم خارج الاتفاق ..
ولذلك يمكننا أن نقول ان الاتفاق النووي الايراني يشبه مفاوضات السلام السورية الاسرائيلية .. حيث ان الطرفين غير راغبين في انجاز صفقة سريعة مهما كانت مغرية .. واذا تبادلت الكلمات التبرع بالدم او تبادلت الثياب والقبعات .. كان لدينا مايسمى (الملف النووي السوري) .. و(الجولان الايراني) .. ولافرق بين الأمرين .. طالما ان اسرائيل واميريكا تنتظران أن يأتي الحل من السماء ..