آراء الكتاب (قصة واقعية): أمي و الوصيّة .. – بقلم: وليم ياسين عبدالله

الكاتب السوري المبدع الاستاذ وليام عبدالله لايزال نبعا فوارا للوطنية وللقصة الوثائقية الحقيقية .. وهذه القصة ثبتها لتكون جزءا من التاريخ السوري للأجيال القادمة ..


دير الزور 16/10/2017



بالقرب من الحدود العراقية بدأت معالم فصل الخريف ترتسم على تلك الصحراء الحزينة، صحراءٌ احمّر ترابها لكثرة الدماء التي تشرّبها من هذه الحرب.
في شرق دير الزور، لم تعد الحياة ذات قيمة عند الجنود المرابطين، فالحصار، الذي استمرّ أعواماً عديدة، روّض مشاعرهم وجعلها باهتة لا تقوى على شيء، فتراهم يجوبون الأرض كأنهم رحّالة لا أرض يستقرون بها ولا منزل يعودون إليه.

قبل ذلك التاريخ بأشهر قليلة، كان جنود حامية مطار السين يلتفون حول الملازم أول “علي مهنا”، هو يغني المواويل وهم يصيحون خلفه “أوووف”.
بين كل موال و آخر، كان “علي” يتحسس خاتم خطوبته بأصابع يده الثانية ويحركه بشكل دائري وكأنه يشحذ لحمَ يده من رمز الحب الذي يكتنزه هذا الخاتم، يبتسم ثم يكمل غناءه و رفاقه يرددون خلفه صيحاتهم المعتادة.
رغم جوّ الفرح الذي كان علي و رفاقه يصنعونه في لحظات الحرب الموحشة، كان سلاحهم صاحٍ طوال الوقت، فإن رصد الحراس تحركات ل د.ا.عش توقف الغناء وذهب الجنود للمواجهة، فيفرّ الد.و.ا.عش وكأنّ غايتهم دراسة جاهزية الجنود وليس مهاجمتهم.

مع بداية الخريف في عام 2017 انتقلت القوات إلى شرق الفرات ، واستقرت في منطقة سدّ الوعر التي كان لها من اسمها النصيب الكبير، منطقة وعرة و موحشة وتشبه الحرب بكل تفاصيل خيبتها، لم يكن للجنود في تلك البقعة ما يواسيهم سوى تعاضدهم ومحبتهم لبعضهم البعض و مواويل “علي” التي تكسر هول العزلة هناك.

بتاريخ السادس عشر من تشرين الأول وفي تمام الساعة الرابعة صباحاً، بدأ مقاتلو د.ا.عش بالتحرك في محيط مكان تواجد الجنود ولكن هذه المرة لم تكن لدراسة جاهزية الجنود كما كان الحال عند مطار السين بل استعداداً لمعركة أقل ما يُقال عنها قاسية و حاقدة.
استعد الجنود بكامل سلاحهم، خرج “علي” وهو يتردد في أن يتصل بأمه أو لا يفعل ذلك فالوضع لا يسمح بأن يضيع ثانية واحدة بالتفكير خارج دائرة المعركة.
واسى نفسه بأنه قد اتصل بها قبل أربعة أيام وتحدث معها وقتاً طويلاً ثم أوصاها وصيته الأخيرة :
-اعتني بأبي فهو بحاجة للاهتمام وأخشى أنني لن أكون موجوداً دائماً لأفعل ذلك، و إيّاك ِ أن تبكي عندما أموت، لا أريد أن أسمع صوت صراخك ولا بكاءك ، و أتمنى أن تنفذي وصيتي.

حاولت أمه أن تتصرف بشكل طبيعي مع ولدها وأن تأخذ كلامه على محمل الدعابة بين الابن وأمه، لم تكن تريد أن تصدق ما رأته في منامها منذ أيام قليلة، كيف لها أن تتجاهل ذلك المنام الذي رأت فيه جنازة ابنها وكان إحساسها يخبرها بأنه لن يعيش ولن تراه متزوجاً ولن تحمل أطفاله يوماً، كيف يمكن أن تخبره بإحساسها وكل البشرية تعرف أنّ إحساس الأم كالنبوءة، لا يخطئ أبداً..
انتهى الاتصال ذلك اليوم وكان الاتصال الأخير…

شيءٌ غريب في هذه المعركة وشيكة الحدوث لم يكن يطمئن أحد، اتجه كل جندي إلى نقطته بصمت بليغ واستعدوا للمعركة في فجر هذا اليوم الخريفيّ الموحش.
سحب “علي” موبايله من جيبه لينظر إلى صورة أمه قبل أن تبدأ المعركة، لا يعرف ما الذي دفعه إلى تذكر كل تفاصيل أحاديثه معها و تصرفاتها معه، لم يكن يناديها أمي كما يفعل الشباب، بل كان يناديها باسمها دائماً “زيناتي” ويمازحها طوال الوقت، حتى أنه تذكر “قنينة عصير السلطة” التي وضعتها له في حقيبته في أخر إجازة له، و عندما وصل إلى القطعة تفاجأ بالقنينة في حقيبته، ابتسم وهو يخرجها ويقرأ رسالة أمه:
-ما تخليها لبكرى، اشربوها اليوم مشان ما تخرب.
كانت حالة التخاطر بينهما عظيمة وعميقة، يفهمان بعضهما البعض دون أن يتحدثا، وهذه لم تكن حكاية علي وحده مع أمه في هذه الحرب، فهناك عشرات القصص لا بل مئات القصص التي كان الأبناء والأمهات فيها شخص واحد، يشعران بالألم نفسه وهما على بعد مئات الكيلومترات التي تفصلهما.

في الساعة الخامسة فجراً، بدأت قذائف الهاون تتساقط كالمطر على الجنود، لم يتزحزح الجنود من أماكنهم، كل النقاط ثابتة وكأنّ القذائف مجرد ذباب يطير في المكان لا خطر فيه إلاّ أنه يسبب الإزعاج.
ازداد ضغط الهجوم على النقطة الأولى وهي أهم نقطة في ذلك المكان لأنها تحمي الباب الرئيسي الذي يؤدي إلى مقر الكتيبة، و ازدادت مقاومة الجنود للهجوم إلى أن بدأت أعداد الإصابات تزداد ويسقطون جرحى الواحد تلو الآخر.
بدأ الصباح يضيء المكان، المنظر مخيف، الدخان والغبار يملئان المكان، توقفت قذائف الهاون وتوقف الهجوم لأقل من دقيقة، لكن قبل أن يتمكن الجنود من إعادة ترتيب أنفسهم، بدأت المفخخات بالتقدم نحوهم وعادت قذائف الهاون للتساقط فوق جميع النقاط، تراجع الجنود من النقطة الأولى المتقدمة إلى نقطة الباب بسبب زيادة الضغط عليهم وتحصنوا فيها وأكملوا الدفاع.
في النقطة المقابلة للباب من الجهة الثانية، انتبه “علي” إلى أنّ الوضع صار حرجاً، فقال لرفاقه:
-أنا رايح ع الباب الرئيسي، لأن إذا راح الباب الرئيسي رح يصير الوضع صعب كتير.

ركض “علي” بسرعة كبيرة تحت قذائف الهاون، تماماً كما يركض أي شخص تحت المطر، وفي منتصف المسافة بينه وبين الباب الرئيسي، طارت شظية من إحدى انفجارات قذائف الهاون واستقرت في قلبه.
سقط أرضاً لا يقوى على الحركة، كانت الشظية في قلبه تماماً وكأنها تعرف هدفها الذي انطلقت من أجله، هذا القلب الطيب والمحب كان من ألدّ أعداء د.ا.عش التي جاءت لتحارب الحب والجمال قبل أن تحارب المؤسسات.
سحبه رفاقه بسرعة، كان غائباً عن الوعي لكنه يتنفس مع صوت حشرجة قوية بصوته، وضعوه أرضاً وحاول الممرض بذل ما يستطيع لإيقاف النزيف الذي كان يشتد في كل لحظة، كان الأمل مفقوداً من نجاته لكن رفاقه لم يستسلموا وبقوا يحاولون إنقاذه، فالأمل الذي زرعه في قلوبهم جعلهم يؤمنون بالمعجزات.
استوى علي جالساً وهو يشهق بقوة ثم تمدد ، تكررت تلك الحركة بضع مرات وكأنّ روحه تأبى مفارقة جسده.
الساعة السابعة وعشر دقائق تماماً، دَفَقَ الدم بقوة من جرحه، وفقد قدرته على الحركة ، بدأت شفاهه بالتحرك وكأنه يريد أن يقول شيئاً ، ثواني قليلة، صدح صوته وهو يقول:
-أمي…
ثم استشهد…
انتهت المعركة بعد دقائق من استشهاد “علي” وكأنّ الحرب شعرت بالخجل لأنها قتلت مثل هذا القلب الطيب، انسحبت قوات د.ا.عش بعد فشلها في كسر خطوط الجنود ، وبدأ النهار يفرض نفسه على المكان المليء بالخراب والدماء والدخان.
عندما نطق “علي” باسم أمه، سمعته أمه وهي في القرية، لم تعرف ما الذي حدث وكيف حدث لكنها سمعت ابنها يناديها، عرفت بفطرتها أنه مشتاقٌ لها ويريد منها أن تهدهد له وهو نائم علّه يتخلص من التعب الذي ألمّ به من هذه الحرب القاسية.
عاد إلى أمه، لكنه عاد إليها نائماً نومته الأبدية، لن يأكل هذه المرة من طعامها اللذيذ ولن تضع له في حقيبته الأطعمة التي يحبها.
حملت أمه النعش براحتيّ يديها وهي تحاول عدم الصراخ كي تنفذ وصية ابنها، كانت رائحته تعبق في أنفها حتى أنها لم تعد تدري ماذا يحدث في العالم من حولها، فهي في تلك اللحظات لا تشعر إلاّ بالنعش فوق رأسها وبداخله يتمدد ابنها الغالي مبتسماً رغم موته، وأيّ شاب لن يبتسم وهو يوّدع الأرض فوق راحتيّ أمه!!!
عندما أنزلوا النعش على الأرض و اقترب الناس لوداعه الأخير، انحنت أمه فوقه لتشمّ رائحته و تودعه الوداع الأخير، كانت ترتجف وتكابر على نفسها بألاّ تصرخ، أغلقوا التابوت قبل أن تسحب يدها فضغط على أصابع يدها دون أن تشعر بذلك…
في اليوم التالي، جاءت خالة “علي” وتحدثت مع أمه قائلة:

  • من الذي أغلق التابوت على أصابع يدك؟
    استغربت الأم السؤال فهي لا تتذكر شيئاً لأنها كانت مفجوعة برؤية ولدها مسجّى أمامها ولا قدرة لها لتعيد الحياة إليه.
    أكملت خالته الحديث وقالت:
    -لقد أتاني “علي” في المنام وقال لي، كيف يغلقون التابوت على يد أمي، ألا يعرفون أن أصابع يدها تؤلمها؟؟
    منذ ذلك اليوم و أمه تمنع نفسها من البكاء كي لا تخلف وعدها بتنفيذ وصيته، وفي كل يوم جمعة تذهب صباحاً لتتحدث معه في قبره وكأنهما ما يزالان على قيد الحياة كلاهما ويتبادلان أحاديثهما المعتادة.

انتهت المواويل التي كان يغنيها لرفاقه في الأوقات الموحشة من الحرب، لكن الشيء الذي لم ينته ِ هو فكرة الحب والأمل والفرح التي زرعها “علي” في نفس كل شخص التقى به في هذه الحرب.

ارتقى في تلك المعركة اثنا عشر شهيداً، عرفت منهم:
الشهيد الملازم أول يزن الموعي من حماه
الشهيد حسام الحلقي من درعا
الشهيد كامل العلي من حمص و وقد كان عريساً جديداً
الشهيد العقيد عصام علي من جبلة
والشهيد علي مهنا من جبلة

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s