آراء الكتاب: ملحمة سجن حلب المركزي – بقلم: فايز شناني

في كل بيت سوري أيقونة تشع نوراً في عتمة الحرب الدائرة منذ سنوات ، إنهم الشهداء الأبرار الذين ارتقوا دفاعاً عن سوريا العظيمة ، منارات للأجيال القادمة، ترشدهم إلى الصراط المستقيم، وتزرع فيهم إيماناً ويقيناً بأن كرامة الوطن أغلى من كرامة الإنسان، وأن لا كرامة لإنسان بلا وطن .في صراعات الوجود لا يتوانى الغيارى عن الدفاع عن الوطن الذي يعشقونه ، فتصبح الملاحم حديثاً مقدساً عن رجال نبتت في أكفهم أساطير الفداء، و شعارهم : الموت لا يهزم إلا الجبناء .
في سجن حلب المركزي جرت ملحمة كبرى ، لم يحدث أن جرى مثلها عبر التاريخ، السجين والسجّان وجنود ومدنيون، على اختلاف عقائدهم وعواطفهم تآلفوا وتوحدوا كحامية ، للدفاع عن معقلهم المحاط بشياطين الأرض وخفافيش الظلام . وحين تربّص الموت بالجميع اتفقوا على مبدأ ( دافع عن نفسك ، فعندما تدافع عن نفسك أنت تدافع عني ) وكان الصمود الاسطوري المذهل الذي استمر لأكثر من سنة وشهرين ، ارتقى خلالها مئات الشهداء .

يقول أبو محمد المقاتل الجريح وهو يعود بالذاكرة نحو الوراء : بكيت عندما سقط مشفى الكندي ، ورأيت بأم عيني الرافعات التركية وهي تسحب المعدات والتجهيزات منه ، وجموع الملسحين يصيحون : الله أكبر ….. الله أكبر …. كانوا منتشين كمن يرى أخته أو أمه تُغتصب !! يا إلهي ماهذا الغباء ؟!! حاصرونا لمدة ٢٩ يوماً في مخيم حندرات ، لم يبق شيئاً نأكله وخاصة للنساء والأطفال ، فكان جنود الجيش يقتسمون طعامهم معنا رغم قلته وندرته . انسحبنا باتجاه سجن حلب المركزي، في مشهد كما التغريبة الفلسطينية التي تابعت بعض مشاهدها في أحد المسلسلات ( معظم سكان مخيم حندرات من الفلسطينيين ) نزوح جماعي في مسار لا يتعدى بضعة كيلومترات ، في مرمى قناصة الملسحين ، الذين لم يرحموا رجلاً أو عجوزاً أو طفلاً أو أمرأة .


العقيد نضال قائد كتيبة الدفاع الجوي في حندرات ، والذي انسحب مع عناصره إلى السجن ، أدار المعارك بحنكة واقتدار ، وكان له فضلاً كبيراً في إدارة المعارك والمواجهات ، مع رجال أشداء أيقنوا أن الشهادة شرف لا يناله إلا العظماء، الشهيد جعفر أحبه السجناء ، وفي حوارات كثيرة مع المتشددين منهم استطاع اقناعهم بأن المهاجمين إرهابيين، والإسلام منهم براء، وفي بعض الاستعصاءات التي حصلت داخل الزنزانات ، كان جعفر حاضراً ليفكها وينهي الإشكال بل غالباً ما ينتهي بحمله على الأكتاف والصياح : بالروح بالدم نفديك يا جعفر . علاقات كثيرة توطدت بين المساجين و السجّانين ، ومن كُتب لهم النجاة استمرت بينهم علاقات المحبة والصداقة حتى اليوم ، في سابقة ندر حدوثها على مر التاريخ ، كيف لا وقد رؤوا الموت سوية ، وامتزجت دماء بعضهم مع بعض في كثير من المواجهات .
يتابع أبو محمد :
في عام ٢٠١٣ واول أيام عيد الأضحى المبارك ، شن المسلحون هجوماً كبيراً ، وقد أرسلوا عربة ب م ب مفخخة وصلت إلى بعد أمتار قليلة من السجن ، انبرى لضربها المقاتل محمود الذي أصابها بقذيفتي أربجي من الامام ، ليعالجها بقذيفة ثالثة من الخلف وفجرها قبل وصولها إلى الباب الرئيسي، مما أدى إلى إصابته بعدة شظايا ، وبقي لأكثر من شهرين لا يقدر أن يفتح عينيه من وهج الإنفجار ، ومن حسن حظه وحظ الجميع وجود الدكتور جمال ( داخلية) والدكتور بسام ( أسنان) اللذان عالجا معظم الإصابات والأمراض بمهنية عالية وإنسانية قل نظيرها ، رغم قلة الأدوية والأدوات الطبية .
ويضيف :
في إحدى نوبات الحراسة ، كان معي مقاتلاً من اللاذقية اسمه محمد ، سألني : ماذا ستفعل يا أبا محمد إذا انتهت الحرب وخرجنا منها أحياء ؟!! فأجبته : الله أعلم فلم يبقى لي بيتاً أعود إليه في حندرات ، فطبطب على كتفي وقال : بإذن الله تذهب معي فعندي أرض كبيرة ، يمكنك أن تساعدني بزراعتها وتعيش انت وعائلتك معنا، شاب بمقتبل العمر وبعمر أولادي استشهد بعد فترة ، وهو ينقذ رفيقه الذي أصيب على أحد السواتر، فيخليه قبل أن تصيبه طلقة قناص غادر ….. أي شهامة وأي عظمة في هذه التضحية ، الناجي ابن مدينة دير الزور والشهيد ابن مدينة اللاذقية .

قلت له : ما ودعتني قبل الرحيل !!
عند الفجر استيقظت على رؤياه ، كان يمتطي فرساً يلمع تحت شعاع خجول، نظر إلى بشموخ الفارس، ورفع يسراه مودعاً واتجه نحو الشمال . في صبيحة السادس من تموز، جلست صباحاً فرأيت تحت موطئ فرسك وردة حمراء – أقسم أني ما رأيتها يوماً – وكأنها تريد أن تقول : هنا موطن روحي ومن هنا مصعدها …… لا تقولي يا أمي يوماً أنني رحلت دون وداع .
حزم القلب ذاكرته واتجه نحو الشمال وقف على أطلال ذاك السور يبحث عن محبيه
المكان خواااااء
أصوات أنين
لاسكان ولا ساكنين
من أين يأتي الأنين
حمائم تطير
تهدل وتنوح
إنها الأرواح تهيم في الفضاء
تبحث عن أشلاء
وهل تسكن الأرواح أشلاء
أصوات قذائف
يخالط الحقدُ حقاً أكيد
وتتشوه الذاكرة
وتتوه الذكريات
وتعود إلى حُجُرات القلوب
تستجمع شتاتها
وتومي من بعيد
سلاماً ياذاك الإسفلت
سلاماً ياتلك الأطلال
فقد عاشت فيك أساطير
و ماتت فيك أساطير
وأصبحت ذات يوم
عنوان الأساطير
سلاماً يا أساطير الشمال٠

بقلم : فايز شناني
بسمة بليدي والدة الشهيد جعفر زويد

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s