رسالة من جلجاميش الى حفيد خوفو .. أين ضاع قلب أبي الهول؟؟

علينا أن نقر ونعترف بعد ان مررنا بمدرسة الربيع العربي أن الاقوال والصور والتصريحات ليست الا أقنعة تنكرية وأغطية ووسائل تمويه فيما الهجوم العنيف مستمر .. حيث تعلمنا ان الايمان المنطوق هو ذروة الفجور لأنه كان دوما يسبق الخيانة والعمالة ويسبق سفك الدم .. وحيث تعلمنا أن راية الاسلام هي راية الاباحيين وعلم الذباحين .. وحيث تعلمنا أن العسل لايكون عسلا حتى نذوق حلاوته ولو خرج من فم النحل .. ففي الربيع العربي كان نحل العرب يلعق الجراح ويرشف الدم ولايرشف الرحيق .. لأن العسل الذي خرج من أفواه الكثيرين كشف انه ليس عسلا وأن من ظننا أنهم أسراب نحل كانوا ذبابا في المقابر والمزابل .. وكلنا نذكر الدبور أردوغان .. ونذكر الحشرات القطرية والصراصير الخليجية والعناكب الاوروبية التي كانت في كل ليل تغني بحب الشعب السوري .. فيما هي تنقل له الجراثيم وتزرع في جسده جيوب القيح .. وكلنا لاننسى الذباب العالمي الذي كان يطن ويطن ليلا نهارا ويحوم ويزوم .. وظنه الناس نحلا كريما في فمه عسل فيه شفاء للناس .. ولكن الذباب سيحمل في فمه كل شيء الا العسل ..

اليوم وبعد الزلزال توافد بعض العرب الى دمشق .. وكلفوا أنفسهم عناء المواساة .. وحملوا لنا البطانيات والسندوتشات .. وتمرجلوا على قيصر وهتف بعضهم ضده .. وتنافخ بعضهم بالقول ان شعب سورية لن يترك وحيدا .. وللأسف فقد ذكرني هذا المشهد بما يفعله العرب في حروب اسرائيل واميريكا عليهم .. حيث يجتمعون ويصدرون بيانات الشجب والتأييد .. ويحشون بياناتهم بالدعم المادي والأموال السخية .. ولكن بعد تلاوة البيانات .. لايصل من الكلام الا الكلام .. ويكون البيان مكتوبا في أمريكا للضحك على الناس البسطاء واعفاء الملوك العرب من الحرج..
ولذلك فانني عندما سمعت تصريحات بعض العرب فانني لم أحس انني في حالة عتب أو أنني في حالة غضب .. بل أحسست انني أشاهد نفس الفيلم ولكن الكومبارس مختلف قليلا .. فأنا لاأصدق ان احدهم تجرأ على سادته الامريكان .. ورفع سبابته في وجه قيصر ..
والحقيقة هي ان كل الموقف لخصه موقف وزير الخارجية المصري سامح شكري المعروف انه شخصية أمريكية .. الذي قاس كلامه بدقة شديدة يحسد عليها .. وقص منه كل كلمة قد تحمل وجهين .. ومن الواضح ان مقص الرقيب الامريكي قد أعطاه نشرة تفصيلية فيما يجب أن يذهب اليه في القول على ألا يتجاوزه بمليمتر واحد .. فهو جاء فقط من باب انساني فقط ..


بالطبع قد يكون الوزير المصري لايريد ان يحرج علاقات مصر وتوازناتها العربية والغربية .. ولذلك فانه أخفى شوقه لدمشق وحبه لسورية .. وكاد ان يقول كما قال المتنبي في سيف الدولة: مالي أكتم حبا قد برى جسدي .. وتدعي حب سيف الدولة الامم؟؟!! ولكنه كان مرغما على ان يظهر الخشونة والبرودة وانه جاء يحمل معه فقط البطانيات والسندوتشات للفقراء المنكوبين .. وبس ..
ولكن اذا كان هذا موقف الوزير المصري فانني أحب ان أعفيه من هذا التمثيل لأن هذا الدور الذي اراده لمصر اساء له وأساء لمصر … وجعلني اقول بأنه لايصح في وصف وزير الخارجية المصري الا قول “ارحموا عزيز قوم ذل” .. فمصر التي كانت تحول العالم وتحرك الزلازل السياسية والايديولوجية في كل العالم صارت مهمتها اليوم هي نقل المساعدات والبطانيات والسندويتشات لمنكوبي الزلازل .. ولايشبه تحول دورها السياسي الا تحول الجيش الالماني الى جيش لعزف الموسيقا العسكرية وتقديم المارشالات العسكرية .. فممثل الجيش الذي عبر وصنع العبور في أكتوبر صارت مهمة دولته ليست العبور بل كتابة مواضيع التعبير وذرف العبرات على طريقة مصطفى لطفي المنفلوطي ..


طبعا الوزير المصري تشكر له زيارته .. ويشكر له انه تجرأ على العبور الى الضفة الشرقية لمصر وهي سورية .. ويشكر انه أظهر شجاعة لانظير لها في انه قرر ان يقدم المساعدات والبطانيات .. ولكنه بتصريحاته جعلنا نحس بالشفقة عليه وأن المصابين بالزلزال يحبون ان يتبرعوا له ببعض البطانيات والشراشف كي يعود بها ويخبئ بها وجهه .. وأن يقدموا له بعض مشروبات الجسارة والشجاعة والقوة .. فهو قدم مصر العظيمة على انها لاتجرؤ على ان تعبر عن موقف قومي وأخوي لسورية التي لولاها لكان محمد مرسي واخوانه اليوم يبيعون الاهرامات .. او يهدمونها .. فلايستطيع محمد شكري القول ان ماسماه الاخوان المسلمون (الانقلاب) كان سيصح وينجح لو ان الجيش السوري هزم وانكسر على يد جماعات الاخوان المسلمين وأذرعهم العسكرية في القاعدة وداعش والنصر .. ولولا الجيش السوري لانتعش الاخوان المسلمون المصريون وكل الجماعات الاسلامية في العالم التي كانت مصر محطتها التالية للفتك بجيشها .. ولكن سورية وقفت سدا في وجههم فانشغلوا بها وشاغلتهم وتلقت بجسدها ولحمها سكاكينهم ريثما تتمكن مصر من النهوض من كبوتها الاخوانية قبل فوات الاوان بعد ان تسلل الاخوان الى قلب الحكم والجيش والدولة وبدؤوا في أخونة الامة وأخونة كل ماتصل اليه أيديهم .. ولكن لم يقدر الاخوان ان يصلوا الى مصر بكامل عتادهم وتجهيزاتهم ومجاهديهم وانتحارييهم ودواعشهم قبل ان تنتهي معركة سورية .. وبعد ذلك يقول شكري انه جاء فقط لمناقشة الوضع الانساني .. وكاد يحلف يمينا عظيما وينظر في العدسات وهو يطلب ان يؤتى له بقرآن كي يحلف عليه انه لايريد الا نقل البطانيات ..


أنا أظن أن كلام سامح كان جارحا بحق المصريين جميعا .. وكان لايليق بمكانة المصريين الذين روضوا الصخور وهو يقيس كلامه على مقاس اميريكا واسرائيل والسعودية وقطر وتركيا .. فما قاله مكتوب ومحسوب وكان من الواضح أنه لايسمح له بقول اي شيء آخر .. وأنا شخصيا أحسست بعد هذا التصريح ان مصر بدت بحاجة ماسةالى سورية وليس العكس ..
ولذلك قررت أن أرسل رسالة شكر للوزير المصري أهنئه فيها على انسانيته .. ولكن في رسالتي ملحق صغير بخط يد جلجاميش الذي أضاع نبتة الخلود على هذه الارض .. يشرح له أن هذا الشعب الذي تعود على منازلة الزلازل السياسية والطبيعية ومراقصة السيوف هو استاذ في الحضارات وارضه أكاديمية للحضارات


ياسيدة الوزير الذي جاء لأسباب انسانية فقط ..


صرت كلما أردت أن أنسى الوجع أعاتب نفسي وألومها .. وكلما شددت من أعصاب الكلام تألم الكلام ..
أريد أن اسافر عبر الزمن الى المستقبل .. وسأنظر اليكم من هناك ..من على شرفة المستقبل وسأقرأ لكم في كتب التاريخ التي سأجدها على رفوف مكتبات المستقبل او لنقل ليست رفوفا بل مدونات الكترونية تحكي عنكم وعنا ..
سأقرأ في كتب المستقبل أن هذا الشرق مرت به الزلازل وأنه عاش مخاضا عنيفا .. وأن العصور بدأ سقوطها من الشرق كما بدأت صعودها من ذات الشرق ..
لكن .. سيقرأ أهل المستقبل عنا أننا مررنا بحرب عنيفة وأننا لم نكسر فيها .. وسيدون التاريخ اننا عشنا خمسة احتلالات .. الاحتلال الامريكي والاسرائيلي والتركي .. والاحتلال الارهابي .. والاحتلال الانفصالي .. وسيضيف المؤرخون ان في دمشق سرا من الأسرار العظيمة للوجود .. وأن جلجامش لم يضع نبتة الخلود ولم تأكلها الافعى .. بل انه فقدها وهو يمر من دمشق على ضفة بردى .. وهناك نبتت من جديد وأورقت وتبرعمت وأطلقت ذراريها في الهواء وفي الماء .. وصارت في كل عشبة وكل شجرة وكل عنقود عنب وكل تفاحة وكل زيتونة .. وصار كل شيء في دمشق لايعرف طعم النهاية .. وأنه سرمدي وهذا هو سر استمرار دمشق كأقدم عاصمة للتاريخ ..
كان عليك أن تكون مذهولا من قدرة هذا الشعب على أن يصاب بكل هذه الجراح وكل هذه الطعنات التي لو أصابت التاريخ نفسه لسقط مضرجا بدمه ..
هناك سر عجيب في هذه الارض .. لأننا كلما تخيلنا حجم الكوارث التي مرت بهذه البلاد نحس اننا نتحدث عن بلاد للآلهة وبلاد للحكايات فقط .. فيها مرت حرب كونية بكل معنى الكلمة .. كل ارهاب الدنيا صب فيها دفعة واحدة .. محاصرة في الشمال والجنوب والغرب والشرق .. فيها كل أحصنة طروادة .. وفيها كل الطوابير الخامس والسادس والسابع .. وقبالتها كل الأساطيل الخامس والسادس والسابع .. فيها كل الخونة وكل ضعاف النفوس .. فيها كل الأغبياء وكل العملاء .. فيها كل مشوهي الاديان .. وفي ظهرها كل سكاكين الغدر والانتهازيين والمرتزقة .. وفوق هذا يمر الفقر وتمر الفاقة .. يمر الزلزال .. ثم الزلازل الارتدادية .. تغير الطائرات الاسرائيلية .. تغير داعش .. تغير كتابات الخونة على نفوس البشر .. وصفحات العملاء ..


ومع كل هذا تبقى في النفوس نكهة نبتة الخلود التي تركها جلجامش وفقدها على ضفة نهر بردى .. نفوس عظيمة .. نفوس عفيفة .. نفوس ابية .. نفوس فيها أمل وتفاؤل .. تفاؤل يخرج مثل العشب من بين مفاصل صخور اليأس ..
كان عليك ان تتعلم وأنت في دمشق كيف وأنت تتحدث مع الناس ورغم أنهم يحسون بطعم المرارة على حروفهم التي ينطقونها فان هناك قدرا عجيبا من التفاؤل .. وقدرا عجيبا من الاستسلام للأمل .. وقدرا عجيبا من الثقة أن هناك غدا قادما وليس ببعيد .. وكأنهم يرونه ويلمسونه ..
أنا وكثير من السوريين ننتمي الى هذا الجيل الجديد الذي تسري في عروقه عصارات نبتة الخلود .. التي شربوها في الماء وتنشقوا عطرها في ذرات الهواء والاكسجين .. وهذا هو سبب قناعتي ويقيني ان الحرب تعبت وهي تطحننا .. وأن الأقدار تعبت وهي عبثا تكسر فوق رؤوسنا الصفائح التكتونية وصفائح الخيانة وصفائح الماسون وصفائح العمالة ..
انتظر ان يكتب عنا المستقبل .. وعن هذا الجيل الذي أتعب مراكز الأبحاث الاميريكية التي تنبأت عشرين ألف مرة بوقوعه وانتهاء دوره .. وتنبأت عشرين الف مرة باستسلامه .. وتوقعت عشرين الف مرة ان يموت .. وأن يرفع الراية البيضاء .. فتعبت الراية البيضاء بانتظار يده .. ولم يمد يده اليها .. ولم ينظر اليها .. ولم يكترث بها ..
كلما نظرت الى المدن المحطمة والبيوت المحترقة والشوارع التي يتلاطم على ضفافها الردم والانقاض وأرى اسنان الزلازل التي عضتها أحس انني أنظر أيضا الى وجه الحرب واسنان الحرب المحطمة وهي تنهش في جسدنا .. اننا تعبنا كما تتعب الامم ولكن هناك في داخلنا شيء غريب لايستجيب لهذا التعب .. ولايقبل ولكن الحرب تعبت من عنادنا .. لأن فينا نبتة جلجاميش ..


هذا هو الشعب الذي جئت له بالبطانيات والمساعدات والسندوتشات .. وأظن أنك لو عرفت أين كنت والى اين أتيت فانك كنت ستعتذر من الشعب المصري قبل السوري من تفاهة التصريح و (هيافته) .. الذي يدل على انك لاتعرف اين كنت ومن أين أتيت .. أتيت من النيل والهرم تحمل معك تصريحا واذنا بالمرور قرب دمشق بتوقيع امريكي .. وكأنك لم تشرب من مياه النيل ولم تعرف من هو الهرم خوفو ولا من هو أبو الهول .. وويل لمن لايعرف حيث عليه ان يعرف .. ولكن الوزير المصري من (خوفو) انعقد لسانه .. وكأنه ليس حفيد (خوفو) .. فياربي أين أجد قلب أبي الهول؟؟ هل يعقل ان عبد الناصر هو الوحيد الذي كان قلبه قلب أبي الهول؟ وأن جيل العبور هو آخر من كان في صدره قلب أبي الهول؟؟

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

1 Response to رسالة من جلجاميش الى حفيد خوفو .. أين ضاع قلب أبي الهول؟؟

  1. Wafaa كتب:

    ان الله سبحانه وتعالى يخلق الداء ويخلق الدواء، اذا اعتبرنا ان هذا العالم الافتراضي كان سببا وداء سرطانيا في حربنا! كانت مقالاتك بلسما لجراحنا واملا يصرع كل احباطاتنا! هنيئا لجيلنا بك…
    كيف نشكرك؟؟ وهل يكفينا ان نقول لك شكرا لانك تعيد زرع كل نبة امل حاولوا قلعها من روحنا!!
    هل يكفينا ان نقول لك: شكرا لانك تقرأ ما يجول بخاطرنا وتعيده لنا بحروف من نور وامل…
    كل الشكر لا يكفي..
    لذلك اقول: جازاك الله عنا كل خير..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s