اغفروا لي أنني قد لاأعجبكم اليوم في اختياري لهذه المادة في النقاش .. ونحن الذين تعودنا ان نعصر الضوء ونكتب بماء الضوء .. ونسقيه للورق ونحقنه في عروق الظلام .. نقارع هذا الجهل الذي تفشى كالوباء .. ولكن مايخفف عني دوما هو اننا تعودنا ان نمشي في هذه الصفحة بحرية وأن نقول مانحس أنه يجب أن يقال .. ولذلك فاننا اليوم لن نعصر الضوء بل سنعصر الظلام ونخرج منه ذلك السائل الاسود .. ظلام السراديب في التاريخ .. التاريخ الذي حبس في المغارات منذ ألف سنة .. علنا نفصد دم الجهل الاسود .. فماعساه يكون عصير الظلام .. ودم الظلام ..؟؟
كم نحتاج أن ندق بأيادينا على أبواب التاريخ المضرجة بالدم قبل أن ندق على أبواب الحرية الحمراء بأيد مضرجة بالدم .. وكم نحن بحاجة الى ان نغزو التاريخ بعد ان غزانا .. ولكن الخوف من دخول مغارة التاريخ وسراديبه العاتمة جعلنا نحوّل الحاضر الى مغارة .. فعندما يغيب الضوء ويعم الظلام وتختفي أشعة الشمس فانه لافرق بين المغارة واللامغارة ..
التاريخ ليس مغارة للصوص نفتحها بقول (افتح ياسمسم) .. ومن يرى في التاريخ مغارة سرية مكنوزة يريد ان يغرف منها دون حساب فانه مزور وسارق ولص .. وفي مغارات التاريخ العربي دفن اللصوص الآثار النفيسة والتحف المسروقة .. فالتاريخ العربي والمشرقي مسروق عبر مؤرخين كانت مهمتهم سرقة الحقائق وحماية اللصوص واخفاء الكنوز في مغارات علي بابا .. وتاريخنا منذ زمن بعيد صارت له مغاليق وأقفال من العقول الصلبة الحديدية التي صنعها رجال الدين والفتوى لاتفتح الا من قبل رجال دين يفتحونها بعبارات الشعوذة .. ولكن من يدخل الى هذه المغارة الضخمة الهائلة اليوم هم موظفو الاستخبارات الغربية والاسرائيلية الذين يسرقون من هذه الكنوز ويتركون لنا بدلا منها اصابع الديناميت وجراثيم الجمرة المذهبية والطاعون الاسود .. فصرنا كلما لمسنا تاريخنا وتحفه اصابتنا الأمراض القاتلة .. ولكن هل نترك هذا التاريخ دون ان نتعرف عليه وننقيه ونطهره؟؟
لن تجدوا مثلي من يريد ان يغير على التاريخ .. لا لكي أقتله بل لكي اقتل التزوير فيه .. ولكن اين أحط رحالي اذا ماأخذتني ساعة الزمن الى الوراء؟ هل أحط في زمن العباسيين او الامويين او في زمن النبي والصحابة؟؟ وهل أتخيل نفسي قادما اليهم من المستقبل أمشي بينهم وأسمعهم وهم لايدركونني ولا يحسون بي ولا يرونني كأنني روح تطوف .. بينها وبينهم جدران الزمن الكاتمة للصوت والصورة .. اسمعهم فأخشع وأنحني وأبكي تأثرا .. أو أبتسم أو أضحك .. أو اصاب بالدهشة والذهول والصدمة والروع؟؟ ..
أنا لن أحاكم آخر 14 قرنا اسلاميا لكن ثأري هو من قرن واحد هو القرن الاخير الذي أكل كبدي .. عرفنا فيه القراءة والكتابة وتحررنا من الامية ومن الجهل .. ورأينا بأم أعيننا يوري غاغارين يتنزه حول الارض .. والكلبة الروسية “لايكا” تحدق بنا من شبايبك قمرتها في المدار .. وشهدنا نشوء الانواع ونظريات الكوانتوم والنسبية .. ولكننا بعد كل هذا بقينا بقينا نخشى أن ندخل الى مغارتنا ولم نكسر احتكار اللصوص للمغارة .. فدخل الاميريكيون والاسرائيليون والانكليز والفرنسيون الى المغارة .. سرقوا ماسرقوا .. وتركوا لنا أصابع ديناميت وبراميل بارود وقنابل زمنية وجراثيم الطاعون .. وصار لصوص الدين منا يدخلون في المغارة ويعودون لنا ببراميل يظنون انها ملئت ذهبا في حين انها ملئت بالبارود وأصابع الديناميت .. نأخذها معنا الى صلاتنا والى قيامنا ..
وفجأة ظهر معاوية !!
منذ فترة والاخبار يتم تداولها عن وصول التاريخ الينا في زيارة خاصة عبر مسلسل (معاوية بن ابي سفيان) الذي سيعرض في شهر رمضان .. وهو شهر مقدس يجب أن يسود فيه الوئام والسلام وليس التنابذ والتخاصم والجدل العقيم .. وعجبت من سر التوقيت .. وسر اختيار هذه الشخصية الجدلية في توقيت ديني .. لايشبهه الا اعدام صدام حسين في يوم العيد .. وأحسست باللاارتياح … لأن هذا الوصول المفاجئ على غير انتظار ومن غير ميعاد ذكرني بوصول غامض هادئ لمنتج خليجي آخر هو قناة الجزيرة القطرية التي كانت تحمل معها مشروعا امريكيا اسرائيليا غامضا .. وكنا نراقبها ولانفهم هذا الصديق الغامض الذي خرج من قبعة العدو يكفكف دموعنا ويربت على أكتافنا .. ويضمد جراحنا .. ويبكي معنا .. ويغضب معنا .. وتساءلنا يومها عن ماهية هذا الصديق الغامض القادم من قبعة العدو وهو لايحمل سكينا ولا بندقية؟ .. ولكنه يحمل أعلامنا وشعاراتنا؟ ..

وهذا ماتسبب بانقسامنا يومها .. فالبعض رأى انها محطة بريئة تتحايل على العدو بذكاء لأن العدو لايغامر ويحملها شعاراتنا وينشرها .. والقلة القليلة منا رأت ان أخطر مافيها هي انها تحمل شعاراتنا وهمومنا وآلامنا .. فهناك تناقض عجيب .. فكيف لجزيرة محتلة امريكيا وعائلة مصنوعة في مخابر المخابرات البريطانية وفي زمن السيطرة الامريكية المطلقة على الخليج وبعد عاصفة الصحراء ان تتجرأ على هذا الزمن الامريكي الذي فتك بأضخم جيش عربي آنذاك .. والامريكي لم ينظر الى قطر الا على انها حشرة او دودة يسحقها تحت حذائه العسكري في دقائق .. ولن يقبل لمحطة اعلامية ان تتحداه وان تحمل شعارات ذلك الجيش العراقي – الذي سحق – عن العروبة والبعث وتحرير فلسطين والقدس .. كان هؤلاء محقين في توجسهم فالسلاح الجديد المخبأ في الجزيرة لم يتم اكتشافه الا متأخرا عندما خرج الموت من تحت ثياب الجزيرة ومعه سكاكين القتل وسمي الربيع العربي .. وعندها صدق قول (لولا أمر ماجدع قصير أنفه) .. فالقصير بم يكن قصيرا بل كان بدينا .. البدين القطري كان اسمه حمد .. وحمد صاحب الكرش العظيم جدع أنفه وادعى أنه رأس محور المقاومة .. وباقي القصة نعرفها ..
منذ ذلك الوقت علينا أن نبقي تلك القاعدة وهي ان كل مايصدر عن ذلك الخليج السام المسموم بالأفكار الأمريكية والدسيسة البريطانية يجب ان ينظر اليه بريبة .. بل لاتكفي الريبة اذ اننا سنستعمل اليقين هنا .. لأن مايجب ان نفكر فيه هو انه يقينا لايحمل الخير لنا .. من تكريم الأدباء والشعراء واغداق العطايا والهبات الى منح الاقامات الذهبية التي هي رشى لاسكات من يمكن ان يصنع الرأي العام ويكوّن الثقافة ويحمل الضمير العام .. كما أن افتتاح المسابقات العالمية والمشاريع الثقافية الضخمة يقصد به تكوين نوافذ للتطبيع و تكوين ثقافة جديدة مناقضة لثقافة التحرير والصمود وثقافة النهضة واليقظة الشعبية والتحول الى منطقة مرور اجبارية لكل من يريد ان يصبح مثقفا غير مغمور .. فظهر شعراء وكتاب ومثقفون يعيشون في كنف الجوائز والاقامات والمكافآت المجزية .. وقطعوا ألسنتهم من جذورها .. فغابت المواقف الجريئة والناقدة عن كل عمل خياني وتطبيعي وعن الممالك الملحية النفطية .. وعرفنا لاحقا انه حتى مسلسلات الحارات الشعبية الممولة خليجيا ليست للترفيه مثل مسلسلات الحارات الشعبية لدريد لحام وليالي الحلمية وزمنه بل هي نشر ثقافة الحارة الفوضوية واعلان تفوقها على ثقافة الجامعة وثقافة النهضة .. فليست في تلك المسلسلات أي رسالة تنموية او توعوية ولا حتى توثيقا تاريخيا لمرحلة زمنية ..
ماتأثير دمشق في معاوية؟ دمشق صانعة الملوك
مشكلتي ليست مع معاوية .. ولكن توقيت العمل جاء في ذروة الاحتكاك المذهبي .. وشخصية معاوية هي نقطة الصدام المذهبي وهي الصفيحة الزلزالية التي تتحرك بين فترة وأخرى .. وأنا شخصيا أجد ان معاوية شخصية سياسية ساعدها الحظ وعرفت كيف تغتنم الفرصة واللحظة والتغيرات النفسية التي طرأت على الاسلام والمسلمين بعد عمليات التوسع في الفتوحات .. فرغم مقتل عثمان وتحول موته الى نكبة للبيت الاموي فان هذه الشخصية ذات المكر اختطفت اللحظة وحولتها من هزيمة ونكبة للبيت الاموي الى لحظة قنص وانقلاب على الشرعية مستغلة حالة الفوضى (الخلاقة) التي خلقها الغياب المفاجئ والدرامي والدامي لخليفة المسلمين عثمان ..
في شخصية معاوية الكثير الذي يجب البحث عنه والتعلم منه .. ويجب ان نتفحص اللحظة التي احاطت به والتحضيرات التي سبقت اعتلاءه العرش الاسلامي .. والصدفة التي جعلته يتولى الحكم بقرار من الخليفة عمر بن الخطاب اثر وفاة أخيه حاكم دمشق .. كل هذا يجب ان يدرس كمادة تاريخية بعيدة عن التحريض والكيد والغل والكره .. ويجب ان يدرس تأثير البيئة الشامية على هذه الشخصية العربية التي لم تعرف قبل ذلك بأنها ذات بعد سياسي ولم تظهر عليها قبل ذلك علامات النبوغ السياسي وكانت شخصية مهمشة وغائبة حتى لحظة فتح مكة .. ومابعد فتح مكة .. وغابت في الخلافتين الاوليتين لابي بكر وعمر .. وكل ما أضيف اليها من صفات صحابية هي بهارات المؤلفين في الفترة الاموية لاضفاء أثقال كثيرة عليها لأن وضعها في الميزان مع اي صحابي آخر كان يظهرها بخفة الريشة .. ناهيك عن حقيقة انها لاتقدر على ان توازن شخصية علي التي ظهر أثرها وتأثيرها منذ لحظة قام بها بدور الفدائي في فراش النبي ثم قتل عمرو بن ود العامري واقتحام حصن خيبر .. والتي وصلت الى ذروة مهمة باقترانه بالسيدة فاطمة الزهراء بنت الرسول ..
لايمكن انكار ان وجود دمشق في حياة معاوية هو الذي أعطاه كل ماكان ينقصه ليرتقي بطموحه .. فدمشق هي التي صنعت منه ملكا .. ففي دمشق عراقة السياسيين العرب المسيحيين الذين كانوا يديرون مؤسسات الحكم الرومية وكان لهم باع طويل في السياسة والتجارة والاقتصاد والتفاوض .. وهذا العامل ربما كان أهم عامل أثر في حياة هذه الشخصية وهو ماكان يدير له الصراع السياسي لصالحه .. ولكن تم تغييب هذا الامر في الروايات التي قدمته على انه شخصية مقدسة يكاد يوحى لها قريبة من النبي وليست من صنع مستشاريه من الدماشقة .. فالماكينة الاعلامية الأموية كانت متفوقة جدا وتمارس ماتمارسه وسائل اعلام العالم هذه الايام .. فهناك تضخيم كبير لدوره في حياة النبي حتى انه صار من أهم كتاب الوحي رغم ان معظم الوحي نزل قبل التحاقه بالاسلام .. وبسبب ان مغامرته في تحدي النموذج التقليدي والخط النبوي المتمثل في كبار الصحابة وشخصية علي فانه أطلق موجة كبيرة من الأخبار التي نسبت الى الاحاديث النبوية التي أغرقت القرآن نفسه وتجاوزته وصارت تحل محله أو تقود السور القرآنية الى تفسيرات لم تكن مناسبة لها .. وهو ماجعل الحديث النبوي مضاهيا للقرآن تقريبا او قادرا على تغيير اتجاهه في بعض التفسيرات .. اي انه أوجد قرآنا موازيا بدأ الناس يعتمدونه .. وهو مؤسس فكرة الأحاديث النبوية التي كان يرددها أنصار معاوية بين الناس لسد الطريق على التفكير القرآني والطريقة الراشدية .. وتم الزج بأحاديث في زمن يصعب التحقق فيه من التضليل .. وتم وضع هذا القرآن الموازي بعد معاوية بقرنين من الزمان .. لأن الاسلام يحركه الصحيحان وليس القرآن .. فالصحيحان عجلتا القرآن ..
ولكن هذا التفوق في مجال السياسة واستغلال كل نقاط القوة واللحظة الحاسمة ومعرفة عواطف المسلمين واتجاهاتهم التي تغيرت بعد نهاية فترة العصبية والبداوة للدعوة .. ومعرفة ضعف النفس البشرية تجاه الذهب والمال ومعرفته ان المؤلفة قلوبهم هم موجودون دوما قبل الرسول ومعه وبعده .. وسيوجدون دوما .. جعله قادرا على القيام بأكبر عملية انقلاب .. وبناء امبراطوريته الضخمة .. ولكن انقلابه هذا كان انقلابا على النبي نفسه لأنه قلب كل ماجاء به النبي راسا على عقب .. فالخلافة الشورى نسبيا صارت ملكية وراثية .. والاختيار في الدين الذي كان مبدأ نبويا واسلاميا تحول الى قوة قاهرة واكراه يرغم ويقتل من لايوافق ..
لاأظن انه بعد النبي هناك شخصية جدلية اسلامية مثل شخصية معاوية لأنها ببساطة النقيض الرئيسي لشخصية النبي والمشروع المعاكس للمشروع النبوي .. بل انها أهم شخصية تراثية بعد النبي من حيث التأثير في مسار التاريخ المشرقي ..
زيارة مشبوهة
ولكن من حقنا اليوم أن نتساءل ان كان من الحصافة او الحكمة من زيارة زمن معاوية بن أبي سفيان الآن .. رغم انني أؤكد أنه ليست بيني وبين معاوية اي عداوة .. ولا ثأر من أي نوع .. والأهم هو أنني قد لايحق لي البحث في شخصيته لأنني لست مؤرخا .. بل انني على المستوى السياسي أرى انه كان هنري كيسنجر الشرق الاوسط في زمانه .. وأنا لاأنظر اليه نظرة دينية اطلاقا بل نظرة قارئ محايد متفحص للتاريخ .. لكن مجرد المرور في زمنه والعيش مع أحداثه يجعلني مستنفرا ومتوترا .. لأن مانعيشه اليوم من فوضى الربيع العربي هو من انتاج ذلك الزمان وانتاج نقاشاته وخلافاته وصراعاته وسيوفه وشخصياته وعلى رأسها معاوية نفسه ..
فالمشروع الاميريكي الاسرائيلي في تفتيت المنطقة انطلق من مشروع الصراع السني الشيعي .. حيث ان محور الصراع السني الشيعي ليس الخير والشر وليس القرآن الكريم وليس شخصية النبي .. بل محور الصراع والجدل والنقاش والتكفير والايمان هو هذه الشخصية الاشكالية في التاريخ العربي .. ولاأتخيل ان هناك اكثر من شخصية معاوية في التاريخ العربي شكلت انعطافا حادا في مصير الشرق كما شكلته شخصية معاوية التي قسمت الصحابة ووزعتهم حسب اتجاهاتهم السياسية وليس حسب اتجاهاتهم الدينية .. بل انها استعملت شخصية عمر الصارمة التي كانت تريد ذبح البيت الاموي وقطع رأس ابي سفيان وحولتها الى دريئة تحتمي بها .. ولاأجدني ابالغ ان قلت ان كل الدم الذي سفك في الشرق منذ 1400 سنة بدأ منذ دخلت هذه الشخصية في الصراع في معركة صفين والتي كانت فيها شخصية معاوية المحور الأساسي لتلك الطاحونة التي بدأت الدوران منذ تلك المعركة ولم تتوقف حتى الآن .. وكانت آخر دورة لها في العراق وسورية في نموذج داعش والقاعدة والاخوان المسلمين ..
خروج مسلسل معاوية قد يكون بريئا بنظر البعض وقد لايحمل معه اية رسائل عدائية لأحد كما خرجت الجزيرة علينا .. وقد يراه البعض محاولة درامية مشروعة للبحث في تلك الشخصية التاريخية وتقديم وجهات نظر فيها .. والتجرؤ لاقتحام المحظور والتابو .. وقد يكون صمام الامان في هذه المحاولة الدرامية ان عددا من الشخصيات السورية لفنانين سوريين ملتزمين وطنيا موجودة وهي لن تغامر من اجل هذا العمل الدرامي بخسارة موقعها وموقفها الوطني .. الا ان السؤال يبقى يجول ويطوف بيننا .. ماسر التوقيت؟ وماذا بعد ذلك؟ هل هي بداية لموجة تراشق بالخلافات والجهل؟
هل هي بداية حملة تراشق بالمسلسلات والاعمال الدرامية بين معسكرين كانا يرفعان المصاحف بينهما يوما واليوم يرفعان المحطات الفضائية وقذائف اليوتيوب؟ .. أعمال يخطط لها عتاولة الفتنة في الغرب حيث تنشر الدراما التي تحمل آراء متعصبة من قبل الطرفين .. هل هي عملية ترسيخ لابقاء النقاش حول لحظة واحدة في تاريخنا في حين اننا نحتاج الى نقاشات جدية عن لحظات راهنة مع الاستعمار الجديد؟ .. وعن استعمار العقول في حروب الجيل الرابع .. استعمار الحرية والديمقراطية لعقولنا .. ألا نحتاج اصلاحا لفهمنا للحرية والديمقراطية الغربية وتفكيكها بدل الحديث عن صراع علي ومعاوية؟ .. ألا نحتاج نشر الولاء للأوطان بدل نشر تمجيد فكرة الهجرة في القوارب والعيش في الغرب والتخلي عن الارض؟ .. ألا نحتاج ان نتطرق لمخططات التنمية والتحديات وطرق تحييد الدين في حياة الناس والزامه البقاء والاقامة الجبرية في المساجد والكنائس بدل نشره في كتب الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفضاء وادخاله في كل شيء من حياتنا؟ هل هي دعوة لترسيخ التوتر والتطرف الشيعي والسني ؟؟ وهل ستكون هناك عبارات ومواقف ستطلق موجة من الغضب والكراهية في زمن صناعة الكراهية والسوشيال ميديا؟ ولعل السؤال الأهم هو: هل نتوقع من مال خليجي ان تكون له رسالة بعث الأمة ام قتل الأمة؟ هل يشك احدنا في ان اكبر كارثة نمر بها هي هذا المال الملعون الذي قتلنا .. والذي خاننا .. والذي دمرنا .. والذي لانملك منه شيئا على الاطلاق .. وهو الذي مول الخراب العربي .. والجهل العربي .. ولاأبالغ ان قلت انه موّل احتلال فلسطين بتمويله كل الحروب التي عطلت تحرير فلسطين ..
السؤال الذي يقلقني بالفعل هو هذا التوقيت الغريب وهذه الصدفة في تلاقي زمن الربيع العربي وكوارثه ولحظة وصول عمل درامي عن شخصية معاوية بن أبي سفيان .. مع ان جراحنا في مرحلة القاعدة وداعش والاخوان المسلمين لاتزال طرية وتنز دما .. وكل القتل المنسوب للوهابية والعثمانية الجديدة والاخوان المسلمين قام على فكرة الانتصار لأهل السنة .. واعادة امجاد الخلافة (السنية) والثأر من الشيعة الروافض (الرافضين رمزيا لمعاوية) والانقضاض على كل ماهو غير سني .. بل والانقضاض على كل من هو سني و يخالف ولي الامر والمرشد وصاحب الفتوى والسلطان .. لأن الدين كله صار تحت قدمي الخليفة والخلفاء .. وتمثل وجهة نظر معاوية الحديدية في نقل النقاش والخلاف الاسلامي الى مستوى الصراع الدموي من أجل البقاء ..
مخاوفي سببها أن كل هذه الدوامات العنفية تتغذى من لحظة ظهور شخصية معاوية وشخصيته الجدلية ومشروعها الانقلابي على فكرة الشرعية والشورى والخضوع للدولة .. و الحركات الدينية بكل انواعها – سنية وشيعية – مهما أطلقت من فقه اسلامي فانها كلها تعيش تحت شجرة اسمها الاسلام الذي صنعه معاوية بن أبي سفيان .. لأن الاسلام صار اما ان تفهمه علىى طريقة معاوية او طريقة علي .. فانطلق الاسلام السني الذي يتظلل بالانحياز لفهم معاوية .. مما أطلق اسلاما آخر اسمه الاسلام الشيعي الذي يتظلل بالعداء لفهم معاوية أكثر من تظلله بالولاء لعلي .. وهذه التنظيمات السنية والشيعية كلها من ثمرات زمن معاوية الذي تأسست فيه الدولة الاسلامية على أسس مختلفة جدا عن الأسس التي أرادها صاحب الدعوة النبي الكريم .. الذي تعرض مشروعه اللاهوتي الانساني لعملية انقلاب داخلي من قبل المعارضة او الكيان الموازي في دولته الفتية .. اي من البيت الاموي الذي كان قد خسر الصراع وخسر السلطة في فتح مكة وقرر الانضواء تحت منطق المعارضة الصامتة في المشروع الجديد .. وكانت كربلاء هي الرد على بدر باختصار شديد .. ومن يومها نتابع انتاج بدر وكربلاء بشكل لايتوقف ..
امبراطورية معاوية .. وقلب البعث
التاريخ مثل القرآن لايمسه الا المطهرون .. اي ان من يقارب التاريخ يجب أن يكون باحثا طاهرا مطهرا وليست له علاقة بلصوص بريطانيا ومافيات المخابرات الأمريكية والاسرائيلية ومال الخليج المشبوه ..
تحتاج هذه الشخصية الفريدة ان يتفق عليها باحثون محايدون من المعسكرين على تقديمها بكل شفافية دون ان نعتدي عليها ولا أن نظلمها ودون ان نعبث بالمومياء او نقدسها .. ان نبش سيرة معاوية اليوم يحتاج فريقا من الباحثين المؤرخين يشبهون من ينقبون في الآثار والذين لاينحازون لأي نصب او تمثال بل يرون فيه أيقونة يفهم من خلالها التاريخ وعقل البشر في مرحلة من المراحل .. ولا يهمهم ان كانت وثنا يعبد او تخليدا لذكرى ملكية ..
ومن ينبش في سيرة معاوية اليوم ليسوا مؤرخين ثقاة .. بل اعلاميون وتجار .. وتمويل المشروع ليس محايدا بل هو من قلب معسكر مشبوه .. ومعسكر معاوية اليوم استولت عليه الولايات المتحدة الامريكية وهي تأخذ جيش معاوية الى كل مكان في العالم ليحارب معها .. في افغانستان او الصين او سورية او افريقيا والى صفين جديدة .. ولذلك فان علينا ان نتوجس من فكرة المسلسل وغاية أصحابه وتمويله .. ودوره في اضرام ربيع عربي جديد .. او اعادتنا الى الوقوف امام المغارة ..
يبدو أن معاوية اليوم مخطوف – كما الاسلام – وامبراطوريته مخطوفة .. وصار سلاحا امريكيا أو قنبلة عنقودية .. وتضرب به الاسوار والقلاع التي حكمها معاوية نفسه .. وهذا الملك الذي غير تاريخ العالم لو عاد اليوم وعرف كيف ان كل امبراطوريته التي بناها لم يبق له منها سوى دمشق والباقي اقطاعات وولايات امريكية وانكليزية ويهودية وعثمانية .. ولم يبق له الا دمشق التي انطلق منها .. والتي تطالب بملكه العضود كي يعود اليها .. لمات كمدا وغيظا ..
دمشق التي جعلته ملكا .. ودمشق التي لم تقبل أن يؤخذ ملكه منه .. وتطالب به دوما باسترداده .. قائلة: أمة عربية واحدة .. ان الامة العربية الواحدة هي امبراطورية معاوية ياسادة .. لنكتشف أن قلب البعث قلب أموي وحلم أموي .. ولولا الخوف من المبالغة لقلت ان معاوية هو الملهم الحقيقي والأب الروحي للبعث .. الذي يحكم في دمشق .. وهو من يحقنه بشعاراته .. وطموحاته .. والصراع اليوم هو بين معاوية والأميريكيين .. فمن يحرر معاوية من الخطف؟؟
الغريب والذي لايصدقه العقل هو أن من يريد تحرير معاوية وامبراطورية معاوية من الهجوم الاميركي والانكلوساكسوني هم من كانوا في معسكر خصمه في صفين في غابر الزمان .. يسميه البعض المحور الشيعي .. او الهلال الشيعي .. وأسميه انا .. محور المقاومة ..
موضوع رائع جداً ويستحق القراءة والتمعن جيداً
التنبيهات: نشرة “كنعان”، 17 مارس 2023