آراء الكتاب: محطة آراك “التفاصيل الدقيقة لأول مرة” – بقلم: وليم ياسين عبد الله

“آذار\ 2015 \ الساعة التاسعة مساءً بتوقيت الحرب السورية”
((استلقى على ظهره واخرج هاتفه من جيبه وأرسل رسالة صوتيه لوالده قال فيها” أبي إذا استشهدت سلملي على إمي وإخواتي”))

أعداد كبيرة من مسلحي د.ا.عش تدخل من الباب الرئيسي للمحطة ، المشهد شبيه بقطيع الأغنام الذي يدخل إلى حظيرته وهو لا يفكر إلاّ بالذهاب إلى المعلف لتناول العلف، كان هذا عنصر المفاجأة الذي لم يتوقعه الجنود، فالمسلحون متواجدون في مكان آخر ومن الطبيعي أن يهاجموا المحطة من محيطها وليس من الباب الرئيسي.
عَلا صوت الرصاص في ذلك الليل، و تصدى جنود الخط الأول ببسالة لهذا التدفق الكبير، ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان، مع تقدم المسلحين بأعداد كبيرة تقهقر الجنود المتمركزين على باب المحطة والذين كان عددهم قرابة العشرين أو أقل و بدؤوا بالانسحاب للخلف كي يتحصنوا بالأبنية في الخلف، فبدأ إطلاق النار عليهم من جنود الخط الأخير لاعتقادهم بأنّ المتقدمين نحوهم هم المسلحين، وفي نفس اللحظة اعتقد جنود الخط الأول أن المحطة تمّ اختراقها من الخلف والمسلحون يضربون عليهم بغزارة من عمق المحطة.
كان هجوم المسلحين سريعاً وضخماً و هذا ما خلق حالة من الارتباك والتخبط عند الجنود ، وبعد ساعة اعتقد الجنود أنّ المحطة سقطت بأيدي المسلحين فقاموا بالانسحاب إلى إحدى النقاط ريثما يعيدون تشكيل أنفسهم فحالة الارتباك كبيرة لم يكن بمقدور أحدهم أن يفهمها لاسيما وأنّ عددهم لا يتجاوز العشرين.
أثناء مواجهة المسلحين الداخلين من الباب استشهد “تامر” الجندي النقي كما كان يصفه أصدقاؤه، وهو يقوم بالتغطية لرفاقه ، في حين انتبه “لؤي” إلى وجود عناصر على أسطح البنائين فلم ينسحب بل بقي ليؤمن تغطية لرفاقه من الأسفل.

الجیش السوری یحرر حقلی "الثورة وصفیح" النفطیان بریف الرقة- الأخبار دولیة -  وکالة تسنیم الدولیة للأنباء


بقي في المحطة خمسة جنود “ناصر ومحمد و علي و فاطر” على الأسطح و “لؤي” في الأسفل، كان القرار صعباً و شبيهاً بمغامرة مجنونة أن يواجه خمسة جنود كلّ هذا المدّ من المسلحين.
ناصر و محمد على سطح البناء العالي المؤلف من طابقين ويحوي بداخله مولدات كهرباء ضخمة وتمركز فاطر و علي على سطح البناء الثاني المؤلف من طابق واحد وبداخله كان يحتمي موظفوّ المحطة من طيش الرصاص.
على سطح البناء العالي أربك رشاش الدوشكا المسلحين، فزادوا غزارتهم النارية عليه حتى أصابوه وانعطب، بقي ناصر ومحمد بلال ببنادقهم الآلية وإلى جانبهم على سطح البناء الثاني فاطر و علي ببنادقهم الآلية أيضاً و الأربعة يواجهون بشكل انتحاري هذا الزحف الكبير.
لم تعد هناك ذخيرة كافية مع ناصر ومحمد، ارتمى محمد وناصر إلى الحائط كما فعل عناصر مفرزة جسر الشغور قبلهما منذ أربعة أعوام ينتظران لحظات الموت إلاّ أنّه كان للقدر رأي آخر، فقد لمح ناصر رشاش “ب ك ت” على زاوية السطح دون أن يعرف كيف وصل إليهم، وفي الواقع كان الجندي لؤي الذي يحارب و يراقب المعركة من زاويته قد انتبه إلى الوضع الحرج الذي يعاني منه رفاقه على سطح البناء فقام بالزحف إلى البناء الذي يحوي المولدات الكهربائية وهو يحمل رشاش “ب ك ت” نجح بالوصول إلى طرف السطح، وضع الرشاش على زاوية السطح مع صندوق الذخيرة المركب عليه وعاد ليحضر الذخيرة وقاعدة الرشاش ولكن ولسوء حظه أصابه رصاص المسلحين في ظهره فسقط على الأرض يصرخ من الألم لكن أيّاً من رفاقه لم يسمعه بسبب علوّ صوت الرصاص وصوت مولدات الكهرباء.
لمح ناصر سلاح ال “ب ك ت” على طرف السطح ولم يعرف أنّ لؤي هو الذي أحضره لأنه سقط قبل أن يعود إليهم مع ذخيرة الرشاش، كان من الصعب الوصول إلى الرشاش بسبب رصاص القناصات الذي غطى السطوح بالكامل من تلة تبعد تسعمائة متر عنهم ، لكن كان عليهم أن يختاروا بين المغامرة وبين انتظار الموت. زحف ناصر على شكلك دودة إلى زاوية السطح وأحضر الرشاش ولكن لم تكن قاعدته معه ولم يكن هناك إلاّ الصندوق المُركب عليه، ناوله ل محمد الذي بدأ بتركيبه و ناصر يساعده.
قبل أن يبدأ محمد بإطلاق النار التفت إلى ناصر وقال له بلهجته الحلبية:
-“يا بلود، ما حخليك تموت قبلي”.
بعد هذه العبارة، اتفق ناصر ومحمد أن يفجرا نفسيهما بقنبلة إن نفدت ذخيرتهم و وصل المسلحون إليهما.
بدأ جنون المعركة مع أول رصاصة خرجت من الرشاش.
على السطح الثاني كان فاطر و علي يضحكان ويقولان النكت وهما يحاربان ، كان المشهد عبثياً للغاية، وهذه الحالة ليست غريبة في الحروب وعلى وجه الخصوص في لحظات الموت الوشيك، أشار لهما ناصر إلى الرشاش الذي حصل عليه فانفجر علي ضاحكاً لأن المشهد يستحق ذلك، الرشاش على البناء الذي يتمركز عليه ناصر و محمد بلال والذخيرة على السطح الذي يتمركز عليه علي و فاطر.
أيُّ عبثية هذه التي خيّمت على هذا المشهد القتالي!!!
قام محمد بتثبيت الرشاش وانبطح ناصر إلى جانبه رافعاً الصندوق لأن قاعدته لا تزال على السطح الثاني وكانت الحالة صعبة جداً على ناصر بسبب قرب رأسه من سبطانة الرشاش
فقد كان على وشك أن يفقد حاسة السمع بسبب صوت الإطلاق القوي مما دفعهما لإخراج الشريط من الصندوق كيّ يخف وزنه ويبتعد ناصر عن سبطانة الرشاش.
المعاناة عند ناصر و محمد لم تذهب سدىً ففي الأسفل كان مسلحوّ د.ا.عش يتساقطون كالذباب وأصواتهم تتداخل مع أصوات المحركات الكهربائية، فكما اعتمد مسلحو د.ا.عش على عنصر المفاجأة غير المتوقعة، فاجأهم الجنود الأربعة بشكل صادم عندما ثبتوا في مكانهم وأحضروا رشاشاً بدل الذي انعطب.
انتهت الذخيرة مع ناصر ورفيقه محمد ، ارتمى محمد على ظهره يتأمل ظلام الليل ويتذكر أخاه الشهيد الذي استشهد في سنين الحرب الأولى، أخرج هاتفه وأرسل رسالة صوتية لوالده :
-” أبي إذا استشهدت في هذه المعركة، أبلغ تحياتي لأمي وإخوتي”
أغلق الهاتف ثم نظر إلى يمينه فرأى شريط ذخيرة قد وقع إلى جانبه.
في البداية بدا الأمر وكأن ما حصل مع محمد هو ذات الشيء الذي حدث مع آخيل في حرب طروادة، ففي لحظات تقهقر آخيل وسقوطه أرضاً نزلت الآلهة من السماء وصنعت حوله دوامة غبار كي تحميه ، ولكن الأمر عند محمد كان مختلفاً فالآلهة لم تكن هي التي رمت شريط الذخيرة، بل فاطر الذي كان يلوح به بضع مرات ثم يرميه إلى سطح البناء الثاني وهو يضحك بأعلى صوته.
في هذه اللحظات اعتقد الدو.ا.عش أن الجنود لم يعد لديهم ذخيرة، فعاودوا الهجوم وفي نفس اللحظة كان محمد يركب شريط الذخيرة على رشاش “ب ك ت” وناصر يقوم بحمايته من الخلف، و في كل مرة ينتهي الشريط يفكه محمد ويرميه ل ناصر ثم يقوم ناصر برميه ل فاطر الذي يتلقاه ويعطيه ل علي الذي يملأه بالذخيرة ثم يعود فاطر مع ضحكاته ونكاته المعتادة بالتلويح به ورميه ل ناصر ، وهكذا استمرت المعركة، والدو.ا.عش لم يعد بإمكانهم استيعاب ما يحدث، ففي لحظة يتوقف الإطلاق عليهم فيتقدمون ثم يتفاجئون بضربات متواصلة بالرشاش تقضي على معظمهم.
اختبأ الدواعش خلف غرفة ولم يعد بإمكانهم التحرك، أمسك محمد و ناصر حجرتين من الحجارة التي تكسرت من سور السطح بسبب إطلاق النار الكثيف عليها، ثم رمياهما خلف الغرفة، وكم كان المشهد مضحكاً ، فقد خاف الد.واعش لاعتقادهم أن الحجرتين قنبلتين وخرجوا من خلف الغرفة وهم خائفون، لكن محمد كان بانتظارهم مع رشاشه الغاضب، وقام بالإطلاق عليهم فقتل منهم اثنين.
جُنّ جنون البقية من الد.وا.عش فلاذوا بالفرار حتى أن أحدهم علق بأحد الشباك وعندما رأوه في الصباح كان منظره غريباً، فقد كانت لحظة موته جنونية، لقد كان فاتحاً فمه وعينيه عن آخرهما وكأنه يهرب من مصيبة كبيرة.
بدأ الفجر بالبزوغ مع انسحاب آخر مسلح د.ا.عشي، انتهت المعركة و استلقى الجنود على ظهورهم متعبين، وبدأت قوات الجيش تقترب منهم حتى وصلوا إلى المحطة، أخرج محمد هاتفه ليخبر والده أنه بقي على قيد الحياة، وما أن فتح الواتساب حتى تلقى رسالة صوتية من والده كان قد أرسلها بعد أن أرسل محمد رسالته بالأمس بدقائق، وقال فيها:
-” رح ارفع راسي فيك إذا استشهدت أو تصاوبت بس رح ازعل منك إذا هربت”.
أجاب محمد على رسالة والده بصوت متعب لا يخلو من نبرة فرح:
-“الحمد لله انتصرت وما استشهدت ولا تصاوبت”.
نزل الجنود الأربعة عن الأبنية ليقوموا بتمشيط المنطقة بعد خروج المسلحين، سمع الجنود صوت أنين بالقرب منهم، توجهوا بسرعة إلى مكان الصوت ، فوجدوا لؤي مرمياً على الأرض يأنّ من الألم، قاموا بسحبه بعد أن رأوا مكان إصابته في عموده الفقري، وبعد عدة أمتار عثروا على جثمان الشهيد تامر الذي كان يقوم بالتغطية لرفاقه أثناء تراجعهم.
بقي الجنود يتذكرون تلك الواقعة ، وأحدهم لم ينس َ البطولة والاندفاع اللتان تمتع بهما محمد في مواجهة المسلحين مع رفاقه الذين تشبثوا بأماكنهم كأنهم يقبضون على الجمر بأيديهم ولا يتركونه.
بعد عدة أشهر استشهد الشقيق الثاني ل محمد، وبعدها بفترة انتقل محمد بمهمة إلى تدمر، وهناك قام ببطولات كثيرة في مواجهة المدّ الكبير للمسلحين ولكن في تلك المرة لم يحالفه الحظ فاستشهد إلى جانب العشرات من الجنود وهم يدافعون عن تدمر.
“النهاية”
أبطال هذه الحكاية
محمد بلال: مجند احتفاظ من حلب منطقة الباب، استشهد في تدمر بعد هذه المعركة وهو أخ لشهيدين.
ناصر بكداش: جندي احتياط من اللاذقية، خرّيج كلية الآداب.
فاطر عبد الله : جندي احتياط من بانياس، خريج كلية الحقوق.
علي علي : جندي احتياط من صافيتا، خريج كلية التجارة والاقتصاد.
لؤي حسن: جندي احتياط من جبلة وهو الآن مصاب بشلل كامل ويتابع علاجه.
تامر دبساوي: جندي احتياط من حماه ( يصفه أصدقاؤه بالنقي والطيب)

================================

الصورة المرفقة هيي للشهيد محمد بلال وهي غير واضحة لكنها الوحيدة التي توافرت لديّ من أصدقائه، أصريت على نشر صورته لكثرة ما تحدث عنه رفاقه وعن بطولاته واندفاعه في المعارك

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

1 Responses to آراء الكتاب: محطة آراك “التفاصيل الدقيقة لأول مرة” – بقلم: وليم ياسين عبد الله

  1. ضياء العلي كتب:

    لعنكم الله و جميع من في هذه الأرض ايها المتاسلمون الصهاينة .. تحيا سوريا

أضف تعليق