سؤال يلخص حيرة الانسان: ترى، هل فات الوقت؟ – بقلم: الأب الياس زحلاوي

دمشق في 11/12/2023، الأب الياس زحلاوي

اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في مواجهة الجنون القتّال الذي يستبدّ ببعض “المتسلّطين” في هذا العالم، ثمة أصوات تستحقّ الاحترام والإصغاء.

أحدها هو صوت المرحوم الكردينال “برنار لو”، رئيس أساقفة بوسطن، في الولايات المتحدة الأميركية، الذي كان جميع زملائه “المسؤولين” الكنسيّين، قد تخلّوا عنه، منذ أن تجرّأ وقال للرئيس جورج بوش، في رسالة شخصية خصّه بها، “حقيقته”!

الصوت الآخر ليس سوى صوت الروائي الفرنسي اليهودي، “يعقوب كوهين”، الذي أُخضِع لمضايقات كثيرة، منذ أن نشر مقالاً مدوّياً، بتاريخ 27/11/2012، تجرّأ وقال فيه “للمسؤولين الإسرائيليّين”، “حقيقتهم”!

واليوم، أودّ فقط أن أنشر من جديد، هذه الرسالة، وهذا المقال، بنصّهما الكامل، أملاً مني في بعث الحياة في الذاكرات “الميتة”.

ولسوف أُتبِعهما بسؤال واحد فقط، أجل بسؤال ليس إلّا.

«السيد الرئيس،

قل الحقيقة للشعب حول الإرهاب. فإن لم تدمّر الأوهام بشأن الإرهاب، فإن التهديد سوف يلاحقنا حتى تدميرنا التام. والحقيقة هي أن أياً من أسلحتنا النووية الكثيرة، لا يستطيع أن يقينا من هذه التهديدات. وإن أيّاً من أنظمة حرب النجوم (بغض النظر عن تطورها التقني، وعن مقدار المليارات من الدولارات التي ستهدر في هذه المشاريع)، لن يستطيع أن يقينا من سلاح نووي، محمول في باخرة، وطائرة أو في سيارة أجرة.

ما من سلاح قطّ، في ترسانتنا الواسعة، وما من سنتيم واحد من الدولارات المئتين والسبعين مليوناً، التي تهدر كل عام في ما يسمّى “نظام الدفاع”، يسعه أن يجنّبنا قنبلة إرهابية. إن ذلك واقع عسكري. ولقد تسنّى لي، بصفتي عقيداً متقاعداً، أن أتحدّث في محاضرات كثيرة حول الأمن الوطني، وكنت دائماً أستشهد بالمزمور 33، حيث يقول: “لا ينجو الملك بجيشه العديد، ولا ينقذ الجبّار ببأسه الشديد”(16).

السيد الرئيس،

أنت لم تقل الحقيقة بشأن “الغاية” التي جعلتنا هدفاً للإرهاب، عندما شرحتَ لمَ نحن نقصف أفغانستان والسودان. لقد قلتَ إنّنا بتنا هدفاً للإرهاب، لأننا ندافع عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في العالم.

إنه لأمر عبثي، أيها السيد الرئيس.

نحن هدف للإرهابيين، لأنّ حكومتنا، في معظم المناطق في العالم، تدافع عن الاستبداد، والاستعباد والاستغلال البشري. نحن هدف للإرهابيين، لأننا مبغَضون، ونحن مبغَضون، لأننا قمنا بأعمال بغيضة.

فلكم من بلد، طرد منه عملاء حكومتنا، زعماء منتخبين من قبل شعوبهم، واستبدلوهم بدكتاتوريات عسكرية، بدمى ترغب في بيع أبناء شعوبهم إلى الشركات الأميركية، المتعددة الجنسيات؟

فعلنا ذلك في إيران، عندما خلع رجال بحريّتنا والمخابرات المركزية، “مصدّق”، لأنه كان ينوي تأميم الصناعة النفطية. واستبدلناه بالشاه رضا بهلوي، وسلّحنا ودرّبنا حرسه الوطني المبغوض، “السافاك”، الذي استعبد الشعب الإيراني وقمعه، كي يحمي المصالح المالية لشركاتنا النفطية. ومنذ ذلك الحين، هل بات من الصعب أن تجد في إيران، أناساً يبغضوننا؟

فعلنا ذلك في تشيلي، وفعلناه في فييتنام. ومنذ فترة قريبة، حاولنا أن نفعله في العراق. إنه لأمر واضح! ولكم من مرة فعلنا ذلك في نيكاراغوا، وفي جمهوريات أخرى من أميركا اللاتينية؟

ومرةً تلو أخرى، أسقطنا زعماء شعبيّين، كانوا يريدون توزيع ثروات أرضهم على الشعب الذي يخدمُها. واستبدلناهم بمستبدّين قتلة، كانوا يبيعون شعبهم بالذات، كي نستأثر بثروة هذه الأرض – لقاء مبالغ طائلة يغذّون بها حساباتهم المصرفية الخاصة – لشركاتنا مثل “دومينو السكّر”، و”شركة الفواكه المتحدة”، و”شركة فولغرس”، وشركات أخرى مثيلاتها.

ومن بلد لآخر، فإن حكومتنا قد قتلت الديمقراطية، وخنقت الحرية، وسحقت الحقوق الإنسانية. ولذلك، فنحن مبغوضون في العالم، ولذلك أيضاً نحن هدف للإرهابيين.

إن الشعب في كندا يتمتع بالحرية وبحقوق الإنسان، وكذلك هي حال الشعب في النروج والسويد. هل تراك سمعت بأن السفارات الكندية والنروجية أو السويدية، قد قصفت بالقنابل؟ فنحن لسنا مبغوضين، لأننا نمارس الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. نحن مبغوضون، لأن حكومتنا ترفض هذه الأمور لشعوب بلدان العالم الثالث، التي تريد شركاتنا المتعددة الجنسيات، الاستيلاء على مواردها.

وإن هذا البغض الذي زرعناه، ليرتدّ علينا، ويرعبنا بالإرهاب، وفي المستقبل، بالإرهاب النووي.

وإن الحقيقة، إذا ما قيلت حول أسباب هذا التهديد، وباتت مفهومة، يصبح الحلّ جليّاً. وإنه ليتوجّب علينا أن نغيّر ممارساتنا.

وإن تحرّرنا من أسلحتنا النووية (حتى لو اضطررنا لفعل ذلك من جانبنا فقط)، سوف يُحسِّن ظروف أمننا. وإن التغيير الحازم لسياستنا الخارجية، سيزيدها مناعة.

باختصار، يتوجب علينا أن نكون صالحين، بدل أن نكون أشراراً. وعندها، من تراه سيحاول أن يوقفنا؟ من تراه سيبغضنا؟ من تراه يريد أن يقصفنا؟

تلك هي الحقيقة، أيها السيد الرئيس.

وهذا هو ما يحتاج الشعب الأميركي إلى سماعه.

برنار لو، رئيس أساقفة بوسطن

نشر في مجلة “الشهادة المسيحية”، بتاريخ 3/11/2002»

«إن القوى الصهيونية قد اندفعت طوال ثمانية أيام، تمارس فيها تدريبها المفضل: أن تقصف بآلاف القنابل شعباً أعزل، ودون أي منجاة. وبنبرات انتصار، سيجدها كل إنسان يتمتّع باتزان عقلي متوسط، سافلة. يا له من إنجاز، تلقي فيه طائرات (إف 16) قنابلها، كما في تمرين، على أبنية يسكنها مدنيّون، أو تؤوي مكاتب إدارية أو مراكز إعلامية! وبعيداً عن أي مجازفة، فالتفاوت بين الطرفين، لا يقارن!

وكل ذلك، في سبيل لا شيء! لا شيء!

ولا لشيء، إلا للنشوة بقوتهم الذاتية، وكي يلقّنوا درساً لهؤلاء المساكين، ولكي يشبعوا الحكّة في يدهم، من أجل الضغط على الزناد! ذلك بأن للصهيونيين هوساً، ينادون به علناً، وبصفاقة: إنهم يريدون أن يعيدوا كل بلد يهاجمونه إلى العصر الحجري. وإن مجرد هذه التصريحات، تطلقها أعلى السلطات لديهم، من شأنها أن تردّ الصهيونية إلى حقيقة ما هي عليه، وإلى ما كانت دوماً عليه: إلى أيديولوجيا من التدمير المَرَضي.

ولمزيد من النزاهة، أشير بأن وزير الداخلية الصهيوني، ذاك الذي يشبه متصوّفاً مسيحانياً في حزب “شاس”، كان يريد أن يعيد غزة إلى العصور الوسطى فقط!

تذكّروا عام 1948! أي فاتح في التاريخ، اندفع، بعد احتلاله، يدمّر البنية التحتية للبلد المحتل، تدميراً منتظماً: من قرى ومزارع، وغياض، ومحلات، وورشات، ومعاصر، وآبار، ومقابر، وكنائس، ومساجد. أية حمية قتالة كانت قد استولت على الصهيونيين، بحيث دمّروا أماكن الصلاة وقبور الملايين من السكان الذين رقدوا فيها قبلهم؟ أي شرعية يسعهم ادعاءها، إثر هذه العربدات من العنف والتدمير؟

لقد قلت من قبل إنها كانت عملية من أجل لا شيء. فلو كان للصهيونيين أن يبدوا بعض الاهتمام بالتاريخ، لكانوا أدركوا أن القوة العسكرية لم تستطع يوماً أن تُخضِع شعباً يناضل من أجل حريته. وحسبهم تاريخهم الحديث جداً. فقد أطلقوا ضد غزة، قبل ثلاث وأربع سنوات، حملة أشدّ عنفاً رافقها اجتياح بري، هدف إلى “استئصال الإرهاب”. وما الذي جنوه؟ فغزّة لا تزال تقاومهم، وهي أبداً تسخر من السجّانين الذين يحاصرونها!

وإن النظام الصهيوني ليغوص في البربرية، بعناد جدير بالإمبراطوريات، وقد بلغ من نشوة الغرور والقوة، ما لم يعد يسمح له بالتساؤل، أو يسمع في إسرائيل والعالم، الأصوات التي من شأنها أن تدعوه إلى التعقّل. ولا بد من الاعتراف أيضاً بأن أوروبا تجترّ عقدة ذنبها وعجزها، وأنها تتواطأ مع “فرنكشتين” الذري، غير المسؤول، الذي أباحت له أن يتطوّر ويغامر بالانقلاب عليها ذات يوم. وماذا عسانا نقول في وسائل الإعلام الفرنسية، حتى اليسارية منها، مثل “ليبيراسيون” و”أرتيه”، التي تسعى عبثاً إلى وضع الطرفين المتحاربين، على قدم واحد؟ يا لها من قوة ذرية خامسة في العالم، تواجه قوة مقاومة، صغيرة!

وبذلك، يخال للصهيونيين أنهم لا يقهرون، وأنهم مدعوون لمستقبل ألفي من السيطرة الأحادية الجانب. وهم، على مثال بعض الأنظمة الفاشية، يظنون أنفسهم مخوّلين لرسالة تمتد ألف سنة من الهيمنة، مع عاصمة أبدية لا تجزأ. ولكنهم لا يفعلون سوى الاقتراب أكثر فأكثر من نهاية مكتوبة في التاريخ. فلقد قال أحد ثوار عام (1789):

«أنت تستطيع أن تفعل كل شيء برؤوس الحربة، إلا أن تجلس عليها».

ولكن كيف لك أن تفسر هذا، لجنودٍ أسكرتهم قوّتهم؟

لقد انتهى الأمر بالصهيونية إلى أن أبرزت طبيعتها الحقّة، التي ظلّت خافية علينا طوال عقود، بفضل أحدث وسائل الإعلام دهاءً. فإن هي، بكل بساطة، إلا مشروع استعماري، سوف يتبع منطق كل مشروع استعماري، أي إنه سيغوص في التمييز العنصري والقمع. ثم سيعرف نهاية كل مشروع استعماري. ولكن في شيء من الترقب، الذي يمسك التاريخ بمفاتيحه، من حيث أشكاله.

ومن المؤسف أن دروس التاريخ، ليس هناك من يستخلصها. فضلاً عن الدمار البشري، الذي ستقضي الأجيال القادمة، عقوداً، أو ربما قروناً، في إصلاحه».

3- سؤالي:

أيها السادة “المتسلّطون” على “هذا العالم”، من رجال دين وسياسيين، متى سيتسنّى لكم أن تدركوا مرة وإلى الأبد، “الحقيقة”، الفريدة والسامية، التي لكل كائن بشري، بما فيها حقيقتكم أيضاً؟

دمشق 11/12/2023                            الأب الياس زحلاوي

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق