مقالة جديرة بالقراءة: اليمن رجوما – بقلم: الهذيلي منصر

لمّا أنظر اليوم في العالم وأبحث فيه عن بعض قيمة وعن بعض معنى أين اجدهما؟ أجدها في مجتمعات نعرّفها، عن قلّة وعي وإحاطة، متخلّفة. حافي القدمين متخلّف بدائي ولكن ماذا لو كان قادرا على ضمان كرامته وفطرته وأعجز أنا المُتحذلق لمّاع الحذاء؟ بحساب الهويّة والذاتيّة والحرّية يتوفّر هذا الحافي على كلّ السّبق والجدارة. أتابع منذ سنوات تحوّلات اليمن بل إنّ بي انجذاب لليمن واليمنيين. أحسب أنّ اليمن يتحوّل ظاهرة، لا تكون الظاهرة ظاهرة الّا اذا تثبّتت اختلافا عن غيرها بين مألوف ومتوقّع مُنتظر. الظاهرة تظيف، أو هكذا يُفترض، الى وعينا. تُدخلُ عليه كيفيّة تشوّشه وتعيد ترتيبه وتقلب أولوّياته.

الموظّف اليمني بلا جراية منذ سنوات طالت. هذا المسلوب الجراية يجد في نفسه طاقة ليقصد ميدان السّبعين في صنعاء وليهتف بكلّ الصّدق والعنفوان ضدّ أمريكا واسرائيل. تُرى ماذا لو حُرمت أنا جرايتي بضعة أشهر كيف سأكون وكم سأحمل من الهمّ على أكتافي وماذا تكون حينها علاقتي بمحيطي بين أقربين وأبعدين؟ لا أسأل إن كنت سأجد وقتا للتّفكير في أمريكا واسرائيل. يبدو لي السؤال مُترفا جدّا. أعرف جامعيين تونسيين يهجرون البلد الى كندا وأوروبا. يطلبون مالا أوفر. أوهمهم المال أنّ المرء لا يختلف حاله النفسي والذهني اذا كان بوطنه أو بوطن آخرين. يضحّي بكيفيّته ويلهث وراء كمّية مال.

جوهرا هكذا هندسة الحضارة الحديثة: تهبك كمّيات بشرط أن تفرّط في الكيفيّات. تنشأ هويّة أخرى للإنسان قوامها أنّ المرء ليس ما هو في ذاته وإنّما ما يكون له من خارج منه أي من العالم. اذا حُرم النّصيب تهاوت إنّيته وفقد انسانيته. قد لا يُدرك اليمنيون الآن ماذا يُدخلون على العالم الذي نحن فيه. سيدركون قريبا وندرك معهم. مجتمع فقير بالحساب المادّي، هشّ بحساب ادارة وسياسة يقف دفعة واحدة بوجه صهاينة وأمريكيين وبريطانيين وهؤلاء عتاة العالم الآن بعدما ركّعوا وكيلهم العربي.

من يزايد على اليمني اليوم، اقداما وعزّة وحرّية وتضمنا مع مُستضعفين؟ هل يزايد المصري والتونسي والمغربي؟ لا والله. الإنسانية كما أفهما ويُفترض أن يفهمها غيري تتجلّى اليوم يمنيّا. لا المصلحة، بمقاييس المصلحة، تفرض أن يكون موقف اليمني كما هو ماثل للجميع، لا المصلحة ولا موازين القوّة ولا حسابات الجغرافيا فالمصري أولى بأن يتقدّم للمعركة فغزّة الجارة من أمنه القومي. هذا الذي يجلّي حرّية بهذا الحجم يقيم بنيانه على الأيمان، على التّسليم بسلطة غيب مُهيمن مُحيط. هذا الإيمان يقلّل بعينه الكثير ويكثّر القليل. تصبح الكمّيات بلا معنى ولا قيمة اذا النظرة فيها، نظرة اليمني، نظرة كيفيّة.

نظرة، يعني ادراك ويعني نظام معرفة وتعرّف وتقييم ومقارنة وقياس. كيف نقيّم نحن، من زاوية الحداثة ومُشتقّاتها، هذه النظرة؟ علميّة؟ لا. موضوعيّة ؟ لا. اذا كنّا متجذّرين في الحداثة فإنّ الرّأي، أغلبيّا، أنّها نظرة تهويم وهلوسة وخيال وسحر وبدائية؟ ورطة تصوّرية أنّ صاحب هذه النظرة يتحقّق في الحرّية ويتقدّم لتحرير غيره بما يعجز عنه الموضوعي والعالم الحديث جدّا والمتنوّر كثيرا. الذين شكّلوا معالم الحضارة الحديثة وأقاموا أسسها قدّموا لموت الإنسان. ذوّبوه في الطبيعة وحوّلوه كتلة لحم تتفاعل ولا تتعالى. تخلد الى الأرض ولا تطير.

قضيّة الإيمان تُطرح من هذه الزاوية أيضا، من زاوية الإنسان ومصيره. انسان الحضارة الحديثة ليس الّا انسان الطّبيعة. هناك ما يكفي من الحجج والمثبتات للأقناع بأنّ انسان الله أكثر انسانية من انسان الطبيعة، أكثر عزّة وكرامة وحرّية. قامت الحضارة الحديثة على وعد قيمة وسعادة. ما وصلت اليه ليس أكثر من اسقاط فكرة الله على الطبيعة. أي أنّها لم تسلّم للمطلق المتعالي وأرضنته أي علمنته. ليس الشيطان الّا مزيج مطلق وطبيعة. الواحد يُنكر الله لتستعبده حفنة دنانير اذ بها سعادته وحرّيته وقيمته وهوّيته أو هكذا يظنّ. خاتمة، ليست الصهيونية الّى صدى الشيطان سياسة، صداه وصورته. يأتي اليمنيون ما تأتيه، عادة، النبوّة. يؤدّبون الإنسانية ويرجمون الشياطين. وجعلناها رجوما للشياطين.

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق