عبثا حاولت ان أفتح قلبي للثورات والثوار .. وعبثا حاولت ان أروض عقلي بكل سياط المظلومية .. وعبثا حاولت ان اذرف دمعا عصاني وتمرد وقرر ان يتحجر .. ولكن هيهات .. بل ان النتيجة هي ان عقلي كان جوادا لاتروضه السياط كما قلبي لاتروضه السياط بل سحب الصهيل ..
كم يجهد اولئك الذين وقعوا في فخ الثورات الملونة في اظهار مظلوميتهم ومبررات ثورتهم التي تستند على معادلة واحدة وهي الرغبة الجامحة في الحرية والرغبة الى حد الموت في ممارسة الديمقراطية على الطريقة الغربية ..ولكن الغريب ان جميع الثوار ولايوجد أي استثناء على الاطلاق في ذروة النشوة الثورية لم يسمحوا بقول اي شيء يعارضهم .. ولم يقبلوا اي خلاف مع وجهة نظرهم التي تحولت الى نظرية مقدسة ولاتختلف عن اي ديكتاتورية .. والتعطش الثوري لقمع الأخر صار سمة خاصة بكل الثورات التي تقول انها تمردت من أجل كرامة الانسان .. ولكن ماان امتلكت وسائل السيطرة على المجتمع حتى مارست قهر الانسان اذا لم يوافق مع كل ماتطرح 100% ..
وهذا التنظير الثوري للعنف المقدس والقمع المقدس هو مايسمى انتاج العلف الثوري .. فكل أدبيات الثورات العربية الملونة والتي توجت بالربيع العربي والثورة السورية كلها أكلت من نفس العلف الثوري .. وعجزت كل هذه الآلام الثورية عن انتاج خطاب عاقل وقادر على ان يفهم ان الثورة لاتملك الحق في مصادرة اي شيء على الاطلاق بل هي مسؤولة عن عدم خصخصة الاراء وعدم ثورنة وجهات النظر .. ولايحق لها الحلول محل اي ديكتاتورية .. وعليها ان تعلم ان التكفير ليس نتاج مرحلة القاعدة والوهابية بل انه نتاج العقل الثوري العفن في اي زمن والذي كان يرفض اي خلاف مع الاخر .. ولايعتقد ان من يؤيد الدولة له الحق في ان يختلف معهم .. ومافعله التكفير هو الترجمة الحقيقية لعقل الثورة وليس عقل الدين .. والقاعدة والجهات التكفيرية ربما اعادت انتاج التكفير التاريخي القديم ولكن مالم تعرفه الثورة السورية هو أنها في الحقيقة لم تترجم شعاراتها بل نسخت التكفير والبسته ثوب ثورة شعبية .. فماالفرق بين التكفير ورفض اي نقاش لاينسجم مع توجهات وتفسيرات ورؤى الثورة ومقدساتها ..

من المقدسات الثورية هو أن النظام السوري قاتل ولارحمة فيه ولكن الثورة لها أخطاؤها التي يجب عليك أن تفهمها والا فأنت عميل وخائن .. وتحت هذه المظلة حق للثورة ارتكاب العنف بالحد الاقصى .. اي هو فهم اسرائيلي بحت للحق .. فاسرائيل بذريعة انها بنت المحرقة يحق لها ان تفعل ماتفعل .. وكل العالم مجرم بحق اليهود وكافر ..
ومنذ فترة أخطأ احد الثوار في مقابلة وقال ان الرئيس بشار الاسد قد أوعز لجيشه بعدم قمع المظاهرات بالسلاح وحظر استعماله وفق تعليمات صارمة وهذا شيء معروف .. واذا بالمذيع يصحح له بطريقة الاستاذ الذي يصحح للتلميذ أخطاءه التي لاتغتفر .. ويقول : ولكن هل تريد ان تقول ان في قلب بشار الاسد رحمة؟؟ فيتلعثم الثورجي ويدرك انه كفر وأنه عليه ان ينطق بالشهادتين الثوريتين ويعيد انتاج الجملة وفق الصيغة المقدسة التي لايجب كسر قالبها التقليدي .. (المجرم الذي قتل شعبه وكان سرا يوعز بقتل المتظاهرين) ..
وفي انتاج ثورجي أخر تجتهد الجهات التي ترعى الثورجيين الباقين في أقفاص الثورة كي يتكاثروا وهم يأكلون العلف الثوري في اصدارات جديدة وانتاج شخصيات تقدمها على انها الفكر الجديد الثوري الذي يواصل الثورة .. وقد اخترع أحد هؤلاء علفا جديدا لم يتذوقه احد من قبل .. وهذا العلف الثقافي الجديد يقول: (لايجب على الثوري ان ينظر الى خارج حدوده من أخطاء ومن انتهاكات .. بل فقط يشتغل بالانتهاكات التي في بلده) .. ويفهم القطيع الذي يلتهم هذا العلف بشهية أن الثورة السورية لايجب ان تهتم لفضائح حقوق الانسان في الغرب او في فلسطين او في قطر او السعودية .. فاختصاص الثورجي السوري هو حقوق الانسان السوري فقط وليس الانسان السوري المحايد او الموالي طبعا .. بل فقط الانسان الذي لايقبل الا باسقاط الدولة السورية .. ويعيب صاحب هذا العلف الثوري على نعوم تشومسكي المفكر الاميريكي اليهودي انه تعاطف مع القضية الفلسطينية ولكنه لم يبد حماسا واعجابا بالثورة السورية وأبدى تحفظاته على سلوكها ومسارها وافكارها بل وطريقة اعتمادها على القوى الغربية والعنف المفرط من اي جهة ارهابية .. ويرى صاحبنا هذا الي وزع علفه عبر قنوات قطرية اسرائيلية مشتركة ان اهم شيء في الثائر هو ألا يشتغل بأي قضية الا قضيته .. وبالتالي عليه ان لايهتم لمعاناة أحد في الدنيا قبل معاناته .. والرسالة الضمنية هي رسالة اسرائيلية لقطيع الخرفان السوري .. وهو لاتهتم بغزة او فلسطين لأنك ثائر والثائر لايخرج خارج حظيرته .. دع غزة وفلسطين بحالهما .. ودع فضيحة الغرب وحقوق الانسان التي سحقت .. ولاتسأل لماذا يحبس جوليان أسانج بهذه القسوة والحقد .. بينما لايسمح للنظام السوري ان يسجن معارضا يشتمه ليل نهار ويدعو الناس لقتل بعضها ويحرضها على الفوضى ..
الحقيقة انني لاأزال أظن ان مافعلته المرحلة السابقة في الكثير من السوريين والعرب لم يعد قابلا للاصلاح لأنه تحول الى ديانة وهي أنها أدخلتهم في منطقة الحظر الفكري للثورة .. وتحويل كل أحاديثها الى مقدسات تحمل تماما قدسية صحيح البخاري ومسلم .. وكل محاولة للتشكيك بها تستوجب الحرم الثوري والاخراج من الملة .. والتكفير .. فقصة الكيماوي مقدسة تقدسا كاملا والويل لمن يشكك ان فيها اي فبركة .. وهي هولوكوست الثورة السورية المقدسة التي يجب ان تتحول اماكنها الى أوشفيتز الثورة .. وقصة البراميل حديث قدسي لايجب أبدا مساءلته رغم ان العالم اليوم هو عالم مفضوع بالفبركات واختراع القصص علنا وهناك مئات القصص التي فضحت وعرفت انها تلفيق .. وستبقى هذه القصة ممنوعا ان يقترب منها العقل او ان يتم تصويرها الا بعدسات الثورة .. ولا التحقيق في ماهيتها .. بل ان كل الرفاه الاقتصادي والبحبوحة التي عاش فيها السوريون قبل عام 2011 هي كذبة .. وان حدثت فانها كانت بحبوحة مسمومة لأنها بحبوحة تنقصها الحرية والكرامة .. وكل الكلام عن المؤامرة الدولية لامعنى له رغم ان الجميع رأى اعترافات حمد بن جبر دون أي مواربة ان الجميع كان متورطا في عمل منسق .. ومع هذا لايسمى هذا مؤامرة ..
واعترافات ومذكرات كل من اشتغل في المؤامرة .. وكل البحث والانشغال في الخدعة التي تسمى لعبة الديمقراطية وصناديق الاقتراع وفضحتها حرب الغرب على غزة هي اشغال للناس عن قداسة الثورة السورية التي يجب ان تكون الاهم .. بتحويل كل ماتقوله الثرثرات الثورية الى مقدسات لايجب ابدا الحديث فيها والتشكيك فيها ..
ولذلك نجد أننا صرنا امام ديانة جديدة او ديانات جديدة أو عبادة أصنام من نوع جديد من الوثنية السياسية .. تسمى القدسية الثورية .. والفرق بين الايمان والدين كبير جدا .. فالايمان يقبل بالشك لتصل الى اليقين .. ولكن الديانة لاتقبل منك الا التسليم والاستسلام المطلق كما تستسلم الجثة .. الآراء التي تتحول الى ديانات لاتقبل الا بالخضوع والتسليم وتسليم العقل .. ونحن صرنا امام دين جديد .. له احاديثه الشريفة وكتاباته المقدسة وصحابيوه .. وأبطاله .. ورواة حديثة وماأكثرهم .. أحاديث ضعيفة .. ومقابلات ركيكية وذرائع واهية .. وأهواء وسياسات .. ومواقع وفضائيات توزع العلف الثوري مجانا .. وسقيفة .. وجمل .. فكل خلاف سياسي يتحول الى سقيفة وجمل ينتهي بشق المجتمع الى شظايا وتفريخ الدين لأديان تسمى مذاهب .. او في لغة اليوم .. أحزاب سياسية .. معارضة وموالاة ..