
يأبى كل من يدلي بدلوه هذه الايام في الوضع السوري يأبى الا ان يمر على النظام السابق ويذكرنا انه كان يعارضه لأنه كان ديكتاتوريا وانه دمر البلاد والعباد .. وهذه طبعا من طبيعة الحروب السيكولوجية حيث يريد من يدير العقل السوري والمسلم اليوم أن يكتب ذاكرة جديدة لاعلاقة لها بالحقيقة بل بأفلام وروايات صنعت في مكاتب الدعاية السوداء .. وهناك عمل تشتغل عليه هذه الدعاية في اتجاهين .. الأول هو تكريس الكراهية لدى الانسان السني ضد الاخرين وخاصة ضد الشيعة والعلويين ومجمل الاقليات ولكنه يخص توجيه الكراهية ضد العلويين لغاية أخرى .. والكراهية الناشئة تصنعها المشاعر العميقة والمأزومة بالمظلومية العميقة ..
الثورة السورية لم يتمكن أصحابها من اطلاقها بحجة الكرامة وأظافر الاطفال لأن أي عاقل كان يدرك ان الشعار هو مجرد ضوضاء لاصدى له لأن الشعب السوري كان يحس بكرامته الوطنية واعتزازه بنفسه كأفضل شعوب المنطقة تعليما وثقافة .. وهو مكتف اقتصاديا و صاحب أهم وزن سياسي في المنطقة أرغمت الأمريكان على الرضوخ له وحسابه في اي معادلة سياسية طوال خمسين سنة .. لكن تم اختراع المظلومية السنية التي بنيت على حدثين سابقين .. الأول في خلق المظلومية السنية العراقية بانجاز اعدام صدام حسين ووثانيا في خلق المظلومية السنية في لبنان عبر قتل الحريري .. وكان لابد من وضع الثالوث في المظلومية باختراع المظلومية السنية في سورية التي استفادت دعايتها من المظلوميتين السابقتين .
كل خطاب المعارضة تحول بشكل سريع في الأشهر الاولى للحرب السورية من الكرامة والحرية الى المظلومية السنية وأهل السنة الذين يقتلهم العلويون والنظام النصيري .. حتى تشكل وعي مختلف واحساس مضخم بالمظلومية السنية رغم انه في جميع المواجهات بين الدولة السورية (التي سميت بالعلوية) مع المعارضين كانت القوى الاسلامية السنية هي المبادرة بالاعتداء .. ففي مجزرة مدرسة المدفعية قررت الجماعات الاخوانية الاسلامية التعبير عن رفضها للنظام ببيان دموي تعكس من خلاله رؤيتها ومظلوميتها عبر رفضها العنيف للأقليات وهي انها ترى الاكثرية الدينية هي الأولى بالحكم (وليس الاكثرية الحزبية او السياسية كما جرت عليه العادة في البلدان المتقدمة ) .. فكان تخصيص العلويين بالمجزرة رسالة للأقليات واعلان المظلومية السنية بأنها أكثرية مظلومية لأنها لاتحكم .. ومنذ ذلك الوقت وقعت أحداث حماة التي أيضا كانت الجهة المبادرة بالهجوم والعنف هي جماعة الاخوان المسلمين والتي يجب ان يوجه لها اللوم الاكبر في تلك الاحداث لأنها هي التي اختارت نوع المعركة ومكانها وطبيعتها وفي قلب احياء المدنية وهي التي بادرت اليها وليس جيش الدولة ..
المظلومية السنية صارت جزءا من الوعي الجماعي والجمعي وصار كل ماتقدمه الدولة السورية التي سقطت لايشبع رغبتها في التخلص من الشعور بالمظلومية .. والغريب ان دورة العنف التي دمرت سورية لايراها العقل المظلوم على انها من صنعه هو .. بل في ضميره ووعيه ان كل القتل والموت صار بيد النظام .. وكل الشر تسبب به النظام .. وكل التهجير تسبب به النظام .. ورغم انه كان يرى ان المعارك تخوضها الجماعات المسلحة في شوارعه واحيائه ولاتبالي بالثمن الذي تدفعه هذه الاحياء فانه يلوم الدولة على كل رصاصة وقذيفة رغم انه ووفق العقد الدستوري فان الدولة مكلفة بحمايته وابعاد العنف والاعمال المسلحة عن المدنيين والمدن .. وحاولت الدولة جاهدة تحييد المدنيين وابرام المصالحات التي لم تكن غالبا في صالحها .. ولو لم تفعل فان ذلك سيعني دستوريا وأخلاقيا انها ستتخلى عن واجبها الدستوري ..
ايضا لم يقدر اي جهد في اقناع كثير من الناس ان قضية الكيماوي ليست حقيقية وانها ملف سياسي للابتزاز فقط .. ولايقبل العقل السني المعارض الا ان ينسب الضربات الكيماوية المزعومة للدولة والنظام .. ولكن السبب الحقيقي للعناد والرفض ليس لأن المواطن لم يقتنع بالبراهين التي تبرئ الدولة بل لأنه يريد ان يبرر مظلوميته وحقه في تدمير الدولة التي تدمره بالكيماوي .. فالايمان واليقين بالكيماوي هو من طرق تعزيز المظلومية السنية .. وطريقة لتبرير العنف تجاه الاخر .. وهذه هي الطريقة لتجريده حتى من حسه الانساني بدليل ان المذبحة في الساحل كانت تباركها الاصوات الحاقدة وتدعو اليها ويلاقيها برود سني .. بحجة ان (جنت على نفسها براقش) .. ولكن الحقيقة هي ان جزءا من الكتلة السنية تم تجريدها من الانسانية عبر حقنها بالكراهية وتلقينها قصصا مضخمة ومشوهة عن حقيقة الفظائع التي تعرضت لها .. وصارت الانسانية لديها تقتصر على وجعها الخاص الضيق فقط لأن شعورها بالمظلومية تورم جدا وغطى على بقية الاحاسيس الطبيعية للأسف ..
وتاتي قضية تهجير السكان ليصب اللوم كله على الدولة التي حاولت ان تتجنب وجود مهجرين ولكنها كانت تواجه عصيانا في الاحياء وتواجه اعمال عنف وانتشارا لجماعات فوضى حيث اختارت هذه الجماعات عن عمد خوض المعارك في المدن والبلدات لأنها كانت تريد خلق مشكلة استقرار وتهجير .. ولايمكن بل ويستحيل ان يكون التهجير سياسة الدولة التي خاضت صراعا مريرا لتحييد المدنيين .. ولكن المشلكة انه تم حشو مظلومية جديدة وهي ان المهجرين فقدوا بيوتهم بسبب سياسة التهجير التي اتبعتها الدولة رغم ان الحس السليم يدرك ان المهجرين اما تركوا أماكن سكناهم بسبب انعدام الامن وتحول مناطقهم لمناطق نزاع وحرب فرضتها النشاطات العسكرية والقتالية للمجموعات المسلحة التي دخلت بسلاحها عنوة الى تلك المناطق وفرضت معركة داخلية على الدولة تسببت في هروب السكان من النزاع .. كما ان كثيرا من الخارجين من البلاد نزحوا بسبب الوضع الاقتصادي المتوحش بسبب الحرب وتلاشي فرص العمل .. وكان هروبا اقتصاديا تسببت فيه نشاطات المعارضة التي كانت تتباهى أنها دمرت اقتصاد النظام (حتى ولو كان على حساب السكان السوريين) ..
المظلومية السنية هي شيء مضخم ومصنع ليتحول الى عقدة نفسية ساهمت في ان يصبح الشعور بنهاية المظلومية هو في وصول اي نظام حكم سني .. والقبول بأسوأ نموذج يمكن ان يحكم سورية (كان المؤسسون الاوائل للدولة السورية يرفضونه وينظرون له باحتقار) .. النموذج الظلامي الذي لن يضمن استمراره الا بابقاء الشعور بالمظلومية حيا .. ولايمكن ابقاء الشعور بالمظلومية الا عبر حقن الجمهور بالكراهية ضد اخوانهم العلويين وتحميلهم عقدة الذنب تجاه كل الاحداث وتبرئة كل الذين ارتكبوا الجريمة الكبرى في سورية من هذا الوزر ..
ولكن كي يستمر الشعور بالمظلومية يجب ان يستمر الشعور بالهوية الدينية السنية .. وهذا لن يكون الا عبر ضخ المزيد من التدين والتمذهب والاختباء تحت ظل الطائفية السنية .. أي نشر التدين الظلامي واعتماد نموذج طالبان للحياة ونموذج داعش .. أي ان المجتمع سيتحول بالتدريج السريع نحو الخروج من الجامعات الى الالتحاق بالجوامع .. وستتراجع عملية التعليم والوعي .. ويتم التركيز على الدراسات الاسلامية التي لن تقدم شيئا للمجتمع وسيكون مصير المجتمع السوري انه سيتحول الى محتمع خامل ميت ينتظر الجنة والنار والمعجزات ويعيش أساطير الدين .. ويصبح بلا قدرة على الانتاج كما حدث مع المجتمع السعودي الذي نام عقودا بسبب الرعب من العقاب العنيف للمجموعات الدينية والتي حولته الى مجتمع يقوده الجامع والمفتي ..
خلال سنوات اذا نجح المشروع الغربي في فصل الداخل السني عن تأثير التفاعل مع المجتمعات المتعلمة والمنفتحة وخاصة في الساحل السوري الذي بحكم اتصاله بالبحر المتوسط سيبقى قادرا على ان يكون متنورا أكثر ومتعلما أكثر وسيغرق السني الداخل في الظلام .. وهذا مانرى اليوم انه هدف اميريكي واضح لتحويل المذهب السني في الشام الى مفرخة للارهاب والمجاهدين ورجال الدين .. وهذا النموذج هو الافضل لأمن اسرائيل لانه لن يقدر على التطور وسيكرر مأساة المجتمع السعودي الذي وللمفارقة بدأ يحاول الخروج منها .. وحدث تبادل أدوار سيكون كارثيا على المجتمع السني الشامي حتما الذي دخل مرحلة الظلام .. وقام بخيانة نفسه .. لأن الدخول في الظلام عمدا وبرغبة واندفاع هو خيانة للذات .. وقتل للذات .. والغرق في الظلام وفقء العيون لتمنع عنها النور والبصر هو جريمة يرتكبها النسان بحق نفسه وأبنائه .
لن ينقذ السنة في الشام أحد الا السنة في الشام أنفسهم الذي وقعوا في فخ تاريخي وهم الصيدة الحقيقية التي وقعت على رأي حمد بن جاسم القطري الذي كان يقول ان الصيدة هربت وأفلتت .. ولكن الصيدة الحقيقية وهدف الحرب هو سنة أهل الشام بالذات الذين ستتقاسمهم تركيا والسعودية واسرائيل واميريكا وقطر .. وستكون هزيمة النظام السابق هي هزيمة لأهل السنة لن يدركوها بل ستدركها أجيالهم اللاحقة التي ستفتح هذه المرحلة وتقرأ كم كان أهل السنة في الشام عرضة لمؤامرة رهيبة استهدفتهم وضللتهم وأوقعتهم في براثن الجهل والتخلف .. مؤامرة ستنجو منها الاقليات السورية .. التي لن تقع في الفخ التكفيري .. بل وستعمل قوى كبرى على منحها وضعا تفضيليا لتكون مثل النمور الاسيوية اقتصاديا .. فهي في النهاية أقليات لاتقدر على صنع دول مؤثرة عسكريا بل بؤر اقتصادية ومحطات استثمار على عكس الكتلة السنية الكبيرة التي يمكن ان تشكل بؤرة توسع وانتشار وقوة عسكرية لكنها الان وقعت في الأسر ..وسيتم ترويضها مثل النمر البري الذي سيصبح مشاركا في العاب السيرك الاقليمي بعد أن كان طليقا وخطرا .. وسيكون ناطورا على مشاريع اميريكا فقط وخزانا بشريا لحروبها القادمة .. انه العقل الانغلوساكسوني الذي رسم سايكس بيكو وخلق هويات لبنان والأردن من لاشيء .. هو نفسه اليوم خلق الوهم والمظلومية السنية التي يحركها اليوم ويصنعها في الساحل لصنع مظلومية علوية بالقوة والدم والمذابح لتصبح خزانا للكراهية المناقضة .. ليستفيد منها أيضا في مشاريعه القادمة ..
تذكروا .. لن ينقذ اهل السنة في الشام لا اميريكا ولا مجلس الامن ولا العرب ولا اوروبة .. بل ان الجميع يتآمر عليهم .. فقط أهل السنة في الشام هم من يقدرون على انقاذ أنفسهم والاستيقاظ من هذا الوهم وهذا الجنون الجماعي .. وعليهم ان يخرجوا في الطرقات لايقاف هذه المهزلة قبل ان يتأخر الوقت .. وتأكلهم المهزلة .. وتأكل أكبادهم .. وفلذات أكبادهم ..
