آراء الكتاب: شيطان المنطقة: تركيا بين خطاب المظلومية وممارسة الهيمنة – بقلم: نوروز

بينما تتصدر تركيا الخطاب الإسلامي المدافع عن قضايا الأمة في المحافل الدولية، خصوصاً القضية الفلسطينية، ينعكس في الواقع وجه مغاير تماماً، يكشف تناقضاً بين الشعارات والممارسات، في المقابل تمضي إسرائيل في سياساتها المعلنة بوضوح، رغم ما تحمله من عنف واستيطان واضطهاد، دون تزيين خطابها بشعارات دينية أو إنسانية.

هذه المفارقة بين العدو الظاهر والخصم المتخفي تثير تساؤلات حقيقية، من هو شيطان المنطقة الفعلي؟ من يحارب الأقليات بوحشية تحت غطاء الوطنية والدين؟ ومن يستخدم الأيديولوجيا كأداة قمع داخلي وتدخل خارجي؟

بين تل أبيب وأنقرة عداء ظاهر وتحالف خفي، العلاقة بين تركيا وإسرائيل تُمثل نموذجًا للتناقض السياسي. فعلى الرغم من أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يقدم نفسه كـ”زعيم الأمة الإسلامية” وخصم دائم لإسرائيل، إلا أن العلاقات الاقتصادية والتجارية بين أنقرة وتل أبيب لم تنقطع يوماً، بل شهدت نمواً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة.

تركيا تصدر لإسرائيل أكثر مما تصدر لغزة، وتستقبل طائرات إسرائيلية في مطاراتها، بينما تكتفي بإرسال رسائل استنكار رنانة عقب كل عدوان على غزة، دون أن تقدم دعماً حقيقياً لفصائل المقاومة أو حتى دعماً إنسانياً على الأرض. وعلى الرغم من خطابها الإعلامي الذي يوحي بعداء وجودي لإسرائيل، لم تُفتح جبهة واحدة بين أنقرة وتل أبيب، لا ميدانياً ولا سياسياً على مستوى التحالفات الدولية.

إن سياسة “دس السم في الدسم” والقمع باسم الدين

في الداخل التركي، تُمارس الدولة سياسة ممنهجة ضد الأقليات القومية والدينية، تحت غطاء الحفاظ على الوحدة الوطنية ومحاربة الانفصال، لكن في العمق هي إستراتيجية تقوم على قمع التنوع، وتجفيف منابع الهوية خارج الإطار القومي التركي.

فمنذ قيام الجمهورية، انتهجت تركيا سياسات صارمة لـ”تتريك” المناطق الكردية حُظر استخدام اللغة الكردية، وأُعيدت تسمية آلاف القرى، وتعرض الأكراد لمجازر جماعية وقمع سياسي ممنهج، أبرزها:

ثورة الشيخ سعيد 1925، مجازر ديرسم 1937–1938، فالحرب ضد حزب العمال الكردستاني منذ 1984 حتى يومنا هذا، في الوقت الذي تدّعي فيه تركيا محاربة الإرهاب، تُصنّف أي تحرك كردي سياسيًا كان أو ثقافيًا ضمن هذا التعريف، ما يبرر لها القمع، والاعتقالات الجماعية، بل والتدخل العسكري في شمال سوريا والعراق، بذريعة ضرب التهديد الكردي.

حتى العلويون الذين يشكلون نسبةً معتبرة من سكان تركيا، يعانون من تهميش مركب ديني، ثقافي، وسياسي، لا تعترف الدولة بمراكزهم الروحية، ولا تدرّس معتقداتهم، وتُكرّس مؤسسة الشؤون الدينية (ديانت) لنشر الإسلام السلفي فقط، وشهدت تركيا عدة مجازر بحق العلويين، أبرزها: مجزرة ماراش 1978، أحداث تشوروم 1980، ومجزرة سيواس 1993، ورغم تعاقب الحكومات، لم تُحاسب الجهات المتورطة، ولم تُعالج جذور الكراهية الطائفية في الإعلام والتعليم والمجتمع.

لطالما رفعت أنقرة شعار “نصرة الشعب السوري”، لكنها عملياً إنخرطت في الحرب السورية ليس نصرةً للثورة، بل سعياً لتوسيع نفوذها الجيوسياسي، ومنع تشكل كيان كردي على حدودها الجنوبية، تركيا دعمت فصائل مسلحة موالية لها، وفرضت إدارة تركية مباشرة في مناطق من شمال سوريا، كما قامت بعمليات تهجير وتغيير ديموغرافي ممنهج، خاصة في عفرين وتل أبيض، والخطاب الديني كان حاضراً بقوة في تسويق التدخل، لكن الواقع كشف أنه إحتلال ناعم مغلف بالشعارات.

في المقابل إسرائيل التي تمارس سياساتها بوضوح، ورغم وحشية السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، إلا أن إسرائيل لا تُخفي نواياها، وتعلن عدائها لحركة حماس ولا تتردد في استخدام القوة ضدها.ولا تتبنى خطابًا دينيًا موجهًا للعالم الإسلامي، وتحصر خطابها في الأمن القومي والإستيطان، دون محاولة تجميل صورتها أمام العرب أو المسلمين.

إن هذه الشفافية الصادمة تجعل من إسرائيل خصمًا واضحًا، بينما تجعل من تركيا خصمًا مزدوج الوجه، يُدين الظالم وهو يُمارس نفس الظلم في الخفاء، إن لم يكن بأسوأ منه.

“تركيا لا تحارب إسرائيل بل شعوبها وأقلياتها” إن الجيش التركي، الذي يصور نفسه كدرع الأمة الإسلامية، لم يوجه سلاحه يومًا إلى إسرائيل، بل كانت فوهات بنادقه دائمًا موجهة إلى القرويين الأكراد في جبال جنوب شرق الأناضول، والعلويين في مراكزهم الدينية والمناطق المنسية، واللاجئين السوريين داخل المدن التركية، والسياسيين والنشطاء الذين يطالبون بالديمقراطية وحقوق الإنسان، في المقابل نادراً ما نُصِر الفلسطينيون من قبل تركيا دعمًا فعليًا سياسيًا أو عسكريًا بل غالبًا ما يُستخدم ملف “غزة” كورقة دبلوماسية موسمية، لا أكثر.

إن الفرق الجوهري بين تركيا وإسرائيل لا يكمن فقط في السياسات، بل في طريقة تقديم هذه السياسات للشعوب، إسرائيل تعلن حربها وتتحمل كراهيتها، أما تركيا فتخفي نواياها خلف ستار الدين والقومية والمظلومية.

لذلك، يمكن القول إن شيطان المنطقة الحقيقي هو من يرفع راية الأخوّة ويطعن ظهر الأقليات، من يخدع ضحاياه قبل أن يهاجمهم، ويبرر طغيانه بالشعارات المقدسة. هذا الشيطان لا يأتي من تل أبيب، بل يلبس عباءة عثمانية، ويتحدث بلغة الخلافة، ويقاتل من أجل النفوذ لا المبادئ.

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق