مقال جدير بالقراءة: الفساد في زمن الأسدين: بين تهويل الميديا وبراءة التاريخ – بقلم: وتد من قاسيون

منذ أن وقف قابيل على جثمان أخيه، يحدّق في أول دمٍ سُفك باسم الغيرة، والإنسان يلهث خلف وهم الطهارة المطلقة. يبحث عن العدل كما لو كان جوهرة برّاقة يمكن انتزاعها من الطين دون أن تتلطّخ يداه. وهكذا، في كل عصر، يولد بيننا من يريد للعالم أن يكون نقياً كالحلم الأبيض، وينسى أن التاريخ لا يُكتب بالماء المقدّس، بل بالعرق والدم والرماد.. والوحل المتسخ في كثير من الأحيان.

كان عليّ (ر)، حين مشى بين الناس، أطهر من أن يُدرك، وأعدل من أن يُحتمل بين الناس، لكن طهره ذاته صنع الفتنة، إذ لم يحتمله الذين آمنوا بالسياسة أكثر مما آمنوا بالحق، فملأ علي نفوسهم تململاً، وملأوا قلبه قيحاً. ومنذ السيف الأول الذي سقط على صدر الإسلام، صرنا نتوجّس من النقاء، ونتهم من بقي نزيهاً بأنه غريب عن الواقعية، أو خطر على توازننا المصلحي. أليست تلك لعنة الطهر الأولى؟ أن يكون النقاء نفسه جريمة؟ ويكون الفساد كالعاهرة، يشتمها الجميع في العلن ويشتهيها الجميع في السر.

وهكذا، في كل زمنٍ يأتي رجلٌ من لحمنا ودمنا، يقف في وجه العاصفة، فنقول: لِمَ لا يكون طاهراً كعليّ؟ كأنما السياسة بيتُ عبادة لا ساحةُ حرب. ننسى أن علياً ذاته لم ينجُ من فتن طهره، وأن نقاءه هو الذي أخرج السيوف من أغمادها مرتين، وأن الحقّ حين يتجرّد من الدهاء يُصلب ولا يُنتصر.

فكيف يُطلب من قائدٍ يقاتل دهاء العالم أن يكون رئيساً لا يُخطئ ولا يمكر (والله خير الماكرين)؟ كيف نزن رجلاً يواجه قبح الكون بميزان المثاليات؟ من قال إن النجاة من الفساد تكفي لإنقاذ الأوطان، إن لم يصحبها دهاء يحمي العدالة من ذئابها؟

تلك هي مفارقة التاريخ الأبديّة: أن من لا يتلوّث لا يحكم، ومن يحكم يُدان لأنه تلوّث. وأن الطهر في السياسة يُصلَب إن لم يتكفّن بالبراغماتية. ولكن، رغم ذلك، يولد من الرماد دائماً من يصرّ على المقاومة، لا بوصفها فعلَ عناد، بل بوصفها شكلاً من أشكال الإيمان بالكرامة.

ولعلّ ما جرى في ليلة 8 ديسمبر 2024 – ليلة الانهيار العظيم – لم يكن سقوطاً بل اغتسالاً قاسياً من وهم الكمال، وبداية خلقٍ جديدٍ لمسار كفاحٍ أكثر نضجاً، وأكثر وعياً، وأقرب إلى المعنى العميق للبطولة: أن تَخسر لتتعلم كيف تنتصر، وأن تُكسَر لتعرف من تكون.

الفساد ليس ابنَ سوريا وحدها؛ هو ميراثُ الإنسان منذ وُجدت الغريزة وصيغت السلطة بشكلها الأول. لا بلدَ نقيّاً إلا في الأساطير، ولا نظاماً بلا شقوق في الجدار. لكن في سوريا، بدا الفساد أكثر فجاجةً، لا لأنه أعمق، بل لأنه عُرض في الضوء وسلطت عليه كل كميرات الدنيا، حيث الدولة أُجبرت على إدارة البقاء في زمنٍ أُغلق فيه الهواء والماء عليها.

في زمن الحصار، لم يكن الفساد ترفاً بل وسيلةً لإدامة الدوران. حين تُغلق الأبواب كلها، يُصبح الفساد شكلَ إدارةٍ موازية، لغةً خفية بين الدولة ومجتمعها. كان بشار الأسد يرث دولةً ما فتئت في خضم حربٍ طويلةٍ مع الغرب، حتى حُوصرت البلاد حتى في أنفاسها، فكان عليه أن يُبقيها واقفة ولو على قدمٍ واحدة.

لم يكن بإمكانه أن يختار الملائكة ليحكموا، بل أن يختار من الفاسدين من يمكنه أن يخدم فكرة البقاء. فالفاسد في نظامٍ محاصرٍ لا يشبه فاسد الرفاه؛ الأول يُطعِم نفسه كي لا يموت النظام، والثاني يسرق كي يشتري أسهماً في بورصةٍ مفتوحة.

لقد أدار النظام الفساد كما تُدار النار في البرد القارس: لا يمكن إطفاؤها لأنها تدفئ، ولا يمكن تركها تستعر لأنها تحرق. ومن رامي مخلوف إلى القاطرجي، لم يكن المشهد مجرد حفلة نهب، بل شبكة بقاءٍ أُنشئت لتؤمّن استمرار الدولة حين انهار كل شيء. كانت البراغماتية في أبشع صورها، لكنها أيضاً في أنجعها، إذ حافظت على تماسك وطنٍ كان يُراد له أن يُمحى لا أن يُنقّى.

ولم يكن الأسد نفسه بعيداً عن هذا الإدراك، فقد فهم – بوعيٍ تاريخيٍ مؤلم – أن المثالية تُسقط الدول كما أسقطت عليّاً. وأن العدالة المطلقة، في عالمٍ بلا عدالة، انتحار. وهنا، في هذه النقطة بالذات، وُلدت سوريا المعاصرة: دولةٌ لم تدّعِ الطهر، لكنها قاومت الانكسار.

لقد كان درس عليّ أول من علّمنا أن الطهر بلا دهاء محض عبادة لا تستوي وأحكام الأرض. ثم جاء الحسين، ليحوّل الجرح إلى معنى. ومنذ الحسين.. وحتى اليوم، تتكرّر الحكاية في سوريا: يذهب الفداء وتبقى المظلومية فعل ندب وعويل.. وها هي المظلوميات في سورية تتناسل من رحمٍ واحد، كل مدينةٍ ترى نفسها كربلاء، وكل طائفةٍ تروي حكايتها كأنها الحسين.

لكن ما لا يراه الجميع، هو أن المظلومية السورية الواحدة في عهد الأسدين لم تكن
طائفية يوماً إلا في عين من أرادها كذلك.

لقد دُفن في سورية الشهيد باسم الوطن لا باسم المذهب. وسُفك الدم لا لينتصر طرف، بل ليبقى البلد الذي قاوم أكثر من نصف قرن دون أن يبيع رايته.
بلدٌ جمع في خطابه الوطني كل الألوان، ورفض أن يكون صدى لأي هويةٍ دون الهوية السورية.

حين يُطوى سجلّ التاريخ عن الحقبة الأسدية، يظهر الفرق جلياً بين ما قبل سقوط الدولة وما بعدها. قبل الانهيار، كانت سوريا، رغم الأخطاء والفساد الظاهر، واقفةً على قدميها، مؤسساتها تعمل، المدن تحيا نسبياً، الأمن والتعليم والطبابة ما زالوا متاحين، والفوضى لم تتحول إلى واقع يومي لكل شارع وطريق. الفساد كان ظاهراً نعم، لكنه كان منظماً، أداة بقاء وليست متعة نهب، وبراغماتية الدولة كانت تدير النار في برد الحصار القارس.

أما بعد الانهيار، فقد غدت سوريا فوضى كاملة: قتل متنقل، طائفية متصاعدة، انهيار للمؤسسات، وانقسام المدن والريف. الفساد هنا لم يعد وسيلة للبقاء، بل أداة لتدمير ما تبقى، والخراب صار لغة يومية، والموت يرافق كل رحلة بين الطرقات.

إن براءة الحقبة الأسدية تكمن في هذا التمييز: أن الدولة بقيت، ولو على قدم واحدة، وأن من حكمها – الأب والابن – لم يترك الوطن يسقط بالكامل. لقد حافظوا على مؤسسات الدولة والحد الأدنى من الكرامة الوطنية، في مواجهة ضغوط داخلية وخارجية غير مسبوقة، رغم أن الدولة نفسها سقطت جزئياً في متاهة الحرب والفوضى.

الدرس التاريخي هنا واضح: الطهر بلا دهاء، والعدالة بلا إدارة، لا تحمي الأوطان. ومن بقي واقفاً بين أنقاض المؤسسات، محافظاً على وحدة الشعب والأرض، فقد نال براءة الزمن والإنصاف التاريخي، ليس تكريماً، بل اعترافاً بأن إدارة دولة محاصرة، تحت نيران الداخل والخارج، لا يمكن الحكم عليها بالمثاليات وحدها، بل بمدى صمودها وبقاء كيانها رغم كل الخراب.

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق