

في صباح من صباحات بيروت العظيمة قبل اثنين وأربعين عاماً ويوم، اهتزت الأرض بصوتٍ لم يكن مجرّد انفجار، بل صرخة الأرض على حضور الغريب. لم تكن السيارة المفخخة مجرد آلةً مجنونة، بل كائن من غضب ونار، يعبّر عن إرادةٍ لم يُحسب لها حساب، وعن قوةٍ تفوق الحديد والرصاص، وعن عمل جريء من لدن حافظ الأسد. وكما قال شكسبير: «الدموع وحدها لا تغيّر العالم، لكن العمل الجريء يفعل» — وهنا كان العمل فعلَ وعيٍ وجرأة، لا اندفاع انفعال.
ومن دمشق، كان حافظ الأسد واقفاً كمن يقرأ العالم من وراء ضبابه، عيناه تهزآن بالخرائط، وتلتقطان الإشارات قبل أن تهتز الأرض. لم يكن عناده قسوةً، بل فنّاً في الإصرار، يوازن فيه بين النار والانتظار، بين المبدأ والضرورة، بين الممكن والمستحيل. كان حافظ الأسد يفاوض بالنار، لا ليحرق، بل ليذكّر خصومه أن الحوار لا يُفرض بالقوة وحدها، وأن الذكاء السياسي قد يكون أفتك من الجيوش. وكأن ماركيز في “خريف البطريرك” يكتب عن هذا الزعيم الذي يصبح جزءاً من دورة الطبيعة، لا ينفصل عنها ولا تنفكّ عنه.
النار من لدن حافظ الأسد ليست اندفاعاً، بل أداة تفكير، تلتف حول كل خطوة للقوى الأجنبية، وتهمس لذلك العقل الأمريكي الماكر — إرث كيسنجر وفطنته الباردة — أن في الشرق عقلًا لا يقل دهاءً، وصبراً يعرف كيف يحوّل الخسارة إلى توازن. كانت الرسالة واضحة: من أراد أن يفهم سوريا، فعليه أن يفهم طبائع التاريخ، لا شهوة السلاح.
لم يكن ذلك الانفجار الذي أخرج القوات متعددة الجنسيات من بيروت انتصاراً في الميدان فحسب، بل منعطفاً في فنّ إدارة الصراع. فقد أدرك الأسد أن الحرب ليست دوماً ما يُخاض بالسلاح، بل ما يُدار بالعقل حين يشتعل العالم من حولك. عرف متى يلوّح بالنار، ومتى يخمدها ببرودة المراقب، وكيف يترك الخصوم يواجهون صدى أفعالهم دون أن يطلق رصاصة.
كان الزمن في فكر الأسد أداة من أدوات الحكم، لا مجرّد مسارٍ يمرّ على الأحداث. ولهذا جعل حافظ الأسد من البطء نهجاً، ومن الانتظار مدرسة، ومن الصبر عقيدة وجود. لم يكن الزمن عنده عدوّاً ولا حليفاً، بل مادةً يعيد تشكيلها ببرود الجبال. ترك خصومه يحرقون سنواتهم في نيران الانفعال، بينما كان يطفئ الزمن في كفّه كجمرةٍ يعرف متى يبرد لها اللهب.
بهذا الإدراك العميق لتحولات الزمن، صار الأسد أشبه بمهندسٍ للتاريخ، يعرف أنّ الأحداث ليست معارك منفصلة، بل موجات تتوالى على شاطئٍ واحد. لم يكن يريد النصر السريع، بل البقاء الطويل؛ فصار البقاء نفسه استراتيجية، والزمن جيشه الذي لا يُهزم. ولأنّ الأمم تُبنى ببطء لا يشبه استعجال الثورات، كان الأسد يراهن على التراكم لا الانفجار، على الجيل الذي لم يولد بعد أكثر من الجيل الذي يصفّق اليوم.
ومع مرور السنين، لم تخمد النار التي اشتعلت في بيروت، بل تحوّلت إلى وعيٍ متوارث، يسكن في ذاكرة الشرق كما تسكن الحكمة في التجربة. أدرك الجميع أن ما جرى لم يكن انفجاراً في جدارٍ من إسمنت، بل في جدار الزمن نفسه، لحظةٌ انكسر فيها الغرور الإمبراطوري، وبدأ عصرٌ جديد تتكلم فيه الشعوب بلغتها الخاصة، لغة الرفض والعقل والانتظار الطويل.
وحين يتأمل المؤرخون ذلك المشهد، يرون رجلاً يقف في مكانٍ ما من التاريخ، يراقب اللهب لا ليحرق، بل ليضيء، يفاوض لا بالكلمة ولا بالابتسامة، بل بصبرٍ يشبه الجبال، وبزمنٍ يعرف أنه في صفّه. فالحكمة التي تركها الأسد في الوعي الجمعي لم تكن مجرد درسٍ في السياسة، بل كانت وصية للشرق: أن تعرف متى تصمت، ومتى تتكلم بالنار، ومتى تجعل من الزمن حليفاً حتى تُرهق به أعداءك.
وهكذا، من رماد بيروت إلى هدوء دمشق، ظلّ الوعي السوري يرسم معالم الشرق الجديد: شرقٍ لا يُهزم مرتين، لأنّه تعلّم أن المقاومة ليست محوراً ينتصر أو يهزم، بل إكسير وجود وفلسفة كمون ثم ولادة من جديد، وأن التاريخ لا يُشتري ولا يُفرض، بل يُفهم ويُحترم..
وفي قلب الصقيع الذي يجتاح سوريا اليوم، حيث يهيمن الظلام على بعض المساحات، ويغدو من اختار التماهي مع القوى الاستعمارية كأنّه شبحٌ في مأزق اللحظة، يبقى زمن سوريا الحقيقي متوارياً لكنه حيّ، ينتظر من يقرأ إشاراته، ويعيد ترتيب البوصلة الوطنية.
إن ما مضى من بيع الأرض والقرار ليس إلا ظرفاً طارئاً في تدفق الزمن الطويل، لحظة عابرة لن تُمسّ جوهر الأمة. فكل صبرٍ، وكل درسٍ مرّ في تاريخ المقاومة، يعلمنا أن القوة الحقيقية لا تُشترى ولا تُفرض، بل تُبنى على وعي الأجيال وثبات الأرض.
فللشعب السوري اليوم أن يعرف أن النار التي أشرقت في بيروت لم تُطفأ بعد ولن تنطفئ، وأن الانكسارات العابرة لن تصنع الهوية. وأن ما يُظنُّ انتصاراً للغزاة العابرين في الزمن السوري، هو في الحقيقة فرصة لتجديد الصمود، وإعادة صياغة زمن المقاومة بوعي جديد.
في هذا الزمن، يمكن لكل قلب صادق أن يقرأ التاريخ كما قرأه الأسد: الصمت ليس هزيمة، الانتظار ليس ضعفاً، وكل لحظة من الألم يمكن أن تتحوّل إلى نقطة قوة، وإرادة الشعب إلى سلاحٍ يفوق كل مؤامرة.
فلتبقَ العيون مشرقة، ولتستيقظ العقول، ولتدرك الأمة أن زمن بيع سوريا ظرفي وطارئ، وأن الشمس ستشرق من جديد على أرضٍ لم تُهزم، أرضٍ تعرف كيف تتحول النكبات إلى درس، والانكسار إلى عهد جديد، والموت إلى صرخة حياة.