منقول: مقال كابوسي الى نخب سورية الواهمة: سوريا هي افغانستان الرعب – بقلم: Avin Dirki

كان طبيب القلب الأفغاني ينظر لي بهدوءٍ مريب وقال يوم سقط النظام في سوريا:
(اليوم تسقط التماثيل… غداً سوف يسقطون كلّهم)
ثم ابتسم تلك الابتسامة التي لا تشبه الفرح أبداً، وحكى:
عندما سقطت أفغانستان بيد طالبان كان الناس يحتفلون أيضاً، يوزّعون الحلوى ويهنّئون بعضهم: “الحمد لله… عاد الدين إلى الدولة”. هو وحده عرف أن القادم أسوأ. بدأ رحلة الهروب عبر جبال أفغانستان ثلاثة أشهر كاملة من الجوع والبرد والخوف، حتى وصل إلى كابول، ثم خارج البلاد.

يومها قال لي: (لا تثقي أبداً بجمهور يتعلّم الاحتفال قبل أن يتعلّم التفكير).

اليوم، نسمع الجملة نفسها تتكرر في سوريا بشيء من الفخر الفارغ:
(نحن لسنا أفغانستان)
يقولها بعض مثقّفي الأكثرية وهم يرتدون بدلاتٍ أنيقة ويكتبون منشورات مطمئنة: نحن مجتمع مختلف، متعلّم، مدنيّ، عندنا مدن كبرى وجامعات… وكأنّ كابول كانت قرية بلا تاريخ، بلا موسيقى، بلا شعراء صوفيين، بلا نساءٍ يدرسنَ الطبّ والهندسة قبل أن يُغلق عليهنّ باب البيت وباب السماء معاً.

نعم، نحن اليوم لسنا أفغانستان.
لكن إذا نظرنا إلى التاريخ، وإلى كيف تتبدّل الأفكار، وكيف تتحول الأيديولوجيات من همس في المساجد إلى قوانين في الشوارع، ومن نكتة في منشور إلى رصاصة في رأس، سنعرف يقيناً أننا نسير بخفّة نحو ما هو أسوأ من أفغانستان… فقط أمهلوا هذا الجنون سنوات قليلة ليكتمل.

هل قرأ أحدكم عن أفغانستان حقاً؟
عن أقليّاتها، مكوّناتها، لغاتها، موسيقاها، رقصات الهزارة، حكايات الصوفية في هرات، المدارس المختلطة في كابول قبل طالبان؟
هل قرأتم كيف تحوّلت كلّ هذه الحياة إلى ظل باهتٍ يمشي على أطراف أصابعه خوفا من “إخوة” يملكون مفاتيح الجنّة وجداول الإعدام معاً؟
هل فهمتم أنّ الأقليّات هناك اليوم ليست (مكوّنات وطنية)بل كائنات نادرة، تُعامل كما تُعامل الحيوانات المهدّدة بالانقراض: إمّا تُخفى، أو تُزيَّن في تقارير حقوقية، أو تُترك لتموت ببطء؟

الآن، انظروا جيّداً إلى سوريا.
لدينا “ثورة”، “نظام سقط هنا وبقي هناك”، لدينا أعلام كثيرة، أسماء كثيرة، لكن تحت هذا الضجيج، هناك مشروع واحد يتشكّل بهدوءٍ قاتل: سوريا تُدفع دفعاً إلى نسخةٍ أكثر رعباً من أفغانستان. ليس لأنّ الناس مولودون سيّئين، بل لأنّ الأيديولوجيا حين تمسك بالمخيال الجماعي تشتغل كآلة: تصنع عدواً، تصنع جمهورا تصنع مثقّفين يطبلون، ثم تترك الجميع يكتشفون الحقيقة متأخّرين… عند الحدود، في المخيّم، في طابور اللجوء.

سيقولون لك اليوم بثقة:
(لا تخافي، نحن مجتمع معتدل، عندنا تاريخ من التعايش، لسنا طالبان)
وفي الوقت نفسه، يضحكون على فيديو رجم شابين علويين.
يتركون “إيموجي الضحك” تحت مشهد إعدامٍ ميدانيّ لرجل علوي.
يشاركون مقاطع لخطف نساءٍ علويّات ودرزيّات، ويضيفون تعليقاً دينياً صغيراً يطمئن الضمير: “هؤلاء حاضنات النظام”، (هؤلاء مباحات الدم والعرض)
ثم يكتبون بعد سنوات، من أوروبا أو كندا أو تركيا: “هذا ليس ما كنّا نريده… لقد اختُطفت ثورتنا”.

الكوميديا السوداء هنا ليست في النص، بل في الواقع نفسه.
الأكثريّة التي تطبّل اليوم لمشروعٍ يشبه القاعدة، تتلذّذ برؤية جاراتها يُسحبن من بيوتهن، وبناتٍ يُهدَّدن بالاغتصاب، وأطفالٍ علويين ودروز يبيتون في الأحراش، سيقف جزء كبير منها غداً في طوابير عند أبواب السفارات، يبكون ويقولون للعالم: “نحن ضحايا أيضاً، لسنا مسؤولين”.
لكن الذاكرة لا تمحو بسهولة صور التعليقات، ضحكات المعلّقين، الفتاوى التي باركت، والمثقّفين الذين فرشوا السجّاد الأحمر للأيديولوجيا الجهادية ثم هربوا قبل أن يشتعل السجّاد تحت أقدامهم.

ومن باب الكوميديا السوداء، تخيّلوا المشهد بعد عشرين سنة:
أقليّات سوريا تُعرض في تقارير دولية كـ “مجتمعات في طريق الزوال”،
أسماء القرى العلوية والدرزية تُذكر في كتب التاريخ كما نذكر اليوم قرى الأرمن والسريان الذين اختفوا من خرائطٍ كثيرة،
ومثقّفٌ من الأكثريّة، صار لاجئاً رمادياً في ضاحية باردة، يكتب منشوراً باكياً:
“لقد خُدعنا… لم نرد كلّ هذا الدم”.
لكن العالم يومها سيكون قد حفظ الفيديوهات، حفظ الضحكات تحت مشاهد الرجم، وحفظ أسماء من برّروا خطف النساء، ومن قالوا إنّ اغتصاب العلويّات والدرزيّات “تفصيلٌ مؤسف في حرب مقدّسة”.

لذلك، احفظوا الأسماء من الآن.
احفظوا أسماء “المثقّفين” الذين طبّعوا مع الفاشية الجديدة، الذين شرحوا لنا بلغة أكاديمية أنّ القاعدة “مرحلة عابرة” أو “حالة غضب مشروعة”، الذين قالوا إنّ خطف النساء “استثناءات فردية”، وإنّ قتل العلويين والدرور “مبالغات إعلامية”.
هؤلاء لن يكونوا مجرّد تفاصيل في الحكاية؛ هؤلاء هم المهندسون النفسيون للكارثة، هم من أعطوا الجمهور رخصةً أخلاقية ليضحك على الدم.

ومن فرط السخرية، يمكننا أن نتخيّل أفغانستان نفسها تكتب لنا رسالة:
“لا تكرّروا النكتة.
كنّا مثلكم تماماً: نعتقد أننا مختلفون، أن الله سيحمينا من أنفسنا، أن المتطرّفين ‘أولادنا، وسنضبطهم’.
استيقظنا بعد سنوات لنكتشف أنّنا غرباء في بلادنا، وأنّ الأقليّات التي كانت تغنّي معنا وتشاركنا الخبز، صارت إما في المقابر أو في مخيّمات الحدود.
الفارق الوحيد بيننا وبينكم أنّنا لم نُتحف العالم بكلّ هذه الضحكات على الجثث في وسائل التواصل. أنتم وثّقتم عاركم بأنفسكم، HD وبزاوية تصوير ممتازة”.

لسان حال أفغانستان يقول اليوم لسوريا:
أنا، بكلّ كوابيسي، سأبدو يوماً أفضل منكم بألف مرّة… لأنّكم رأيتموني تسقطون، ورأيتم أقليّاتي تُسحق، ورأيتم كيف تحوّلت بلادي إلى سجنٍ مفتوح، ومع ذلك قرّر بعضكم أن يسير في الطريق نفسه وهو يغنّي.

في المستقبل، حين تبكي الأكثريّة في المنافي وتقول: “لم نرد هذا المصير”، لن يكون الجواب بسيطاً.
هناك فرق بين من صمت خوفاً، وبين من صمت تواطؤاً، وبين من صرخ: “اقتلوهم، اغتصبوهم، خذوا نساءهم”، ثم يريد لاحقاً أن يُعامل كضحية كاملة البراءة.
المأساة أنّ الدم لا يكتفي بأن يلطّخ الأيدي؛ هو يلطّخ الذاكرة أيضاً، ذاكرة الأبناء قبل ذاكرة العالم.

هذا النص ليس دعوة لكره الأكثريّة، بل دعوة للأكثريّة أن ترى وجهها في المرآة قبل أن تكتمل الكارثة.
من يطبّل اليوم لتحويل سوريا إلى حديقة خلفية لمشروع القاعدة وأخواتها، من يضحك على اغتصاب العلويّات والدرزيّات، من يبرّر خطف الأطفال وتشريد الناس في الأحراش، لا يحقّ له غداً أن يقف أمام خرائط الدم ويقول: “نحن بريئون تماماً”.
ليسوا بريئين.
وإذا كان ثمة أملٌ صغيرٌ في ألا تصبح سوريا نسخةً أسوأ من أفغانستان، فهو في أن يخرج من هذه الأكثريّة من يقول بوضوح:
نحن نرفض هذا،
نرفض أن تُبنى حريّتنا على حرق الآخرين،
نرفض أن نغنّي للأيديولوجيا فوق جثث جيراننا…
وإلا، فليستعد الجميع لمرحلة جديدة من الكوميديا السوداء:
حين يصبح اسم “السوري السنّي” مرادفاً، في خيال العالم، لـ “إرهابي محتمل”،
وحين يكتشف هؤلاء الذين تغنّوا يوماً بسقوط التماثيل أنّهم هم أنفسهم صاروا تماثيل للعار، لا تتحرّك إلا في كوابيس أبنائهم.

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق