مقال منقول: قرنٌ من التطرف ، والارهاب : من حسن البنّا إلى سلطة الشرع… سقوط الإمارة التي وُلدت ميتة !!! – د. بسام أبو عبدالله

أولا” – لا يمكن فهم صعود الأصولية الإسلامية دون العودة إلى البذرة الأولى التي وضعها حسن البنّا عام 1928. فالرجل الذي بدأ بدروس وعظ بسيطة في الإسماعيلية انتهى إلى تأسيس تنظيم يقوم على “البيعة”، و”السمع والطاعة”، وهي مفاهيم مستمدة من نموذج “الجماعة المغلقة” لا من الدولة الحديثة. في “رسالة التعاليم” كتب البنّا مفهوم “الأستاذية” التي تجعل التنظيم مشروعا” فوق الدولة، وتحوّل السياسة إلى عبادة، والنقد إلى خيانة. هذه القاعدة هي التي أنتجت لاحقا” ثقافة التكفير السياسي، لأن من يرى نفسه “حامل الرسالة” بالضرورة يرى المجتمع ناقصا”، فاسدا”، جاهلا”، يحتاج إلى إعادة تشكيل.

ثانيا” – جاء سيد قطب ليحوّل هذا الانغلاق إلى معركة وجودية شاملة. في كتابه الشهير “معالم في الطريق” كتب عبارته الأخطر: “لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء الإسلام.” أي أن كل ما بنته البشرية طوال 13 قرنا” هو جاهلية من جديد . هذا المفهوم هو حجر الأساس لعقيدة التكفير الحديثة. فحين يُنظر إلى المجتمع والدولة والمؤسسات باعتبارها جاهلية، يصبح الخلاص في نظر أتباع قطب ممكنا” فقط عبر القطيعة، ثم المواجهة، ثم إقامة “المجتمع المسلم”. من هنا بدأ التطرف يأخذ شكلا” منهجيا” : الدعوة أولا” ، ثم التنظيم، ثم الصدام. ولذلك قال المفكر محمد عمارة إن قطب “لم يكن يكتب سياسة، بل يكتب لاهوتا” ثوريا”.

ثالثا” – أبو الأعلى المودودي، الذي تأثر به قطب لاحقا”، هو صاحب البناء العقدي الأكثر تأثيرا” في مفهوم “الحاكمية”. ففي “المصطلحات الأربعة” و“نظرية الإسلام وهديه في السياسة” وضع القاعدة التالية : “إن السيادة لله وحده، ومن يشرّع من دونه فهو كافر.” هذا التصور، رغم أنه يبدو نظريا”، يعني عمليا” أن أي برلمان أو دستور أو تشريع مدني هو عدوان على الله. هنا يتأسس رفض الدولة الحديثة من جذوره. لا يعود هناك معنى للمواطنة أو القانون أو المؤسسات، بل تصبح السياسة امتدادا” للعقيدة. ولهذا لم تنجح أي تجربة حكم استندت إلى المودودي أو قطب أو البنّا في بناء دولة، لأنها بالأساس مشروع يقوّض الدولة.

رابعا” – مع عبدالله عزّام وبن لادن تنتقل الفكرة من النص إلى الدم . عزّام في كتابه “الدفاع عن أرض المسلمين” قال: “الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة.” وهو ما يعني أن الحرب ليست ظرفا”، بل قدرا” دائما”. أما أسامة بن لادن فحوّل هذا الفكر إلى شبكة عالمية مسلحة، تقوم على فكرة “قتال العدو البعيد” لإسقاط الأنظمة. هنا تحول التكفير من حكمٍ فِقهي إلى ممارسة قتالية. بينما جاء أبو محمد المقدسي — صاحب كتاب “ملة إبراهيم” — ليقدّم الأساس العقدي الأكثر صلابة، بقوله: “البراءة من المشركين أصل من أصول الدين.” وهو النص الذي اعتمدته كل الجماعات التكفيرية ، من القاعدة إلى داعش . فهؤلاء لا يرون العالم إلا بمنطق ثنائي صارم: إيمان وكفر، ولاء وبراء ، دار إسلام ودار كفر. وحين يتحول العالم إلى هذا التصنيف، تصبح الدولة الحديثة خيانة، والدستور شركا”، والمعارضة ردة، والمواطنون أصنافا” من “الطواغيت” و“أعوانهم”.

خامسا” – التجارب الميدانية أثبتت أن الخلل ليس في الأشخاص، بل في البنية الفكرية نفسها. في أفغانستان في الثمانينيات، قدّم عزّام نموذج “الأمة المقاتلة” بدل الدولة. وفي السودان في عهد الترابي لم تنجح التجربة لأن الدولة تحولت إلى ساحة ولاءات تنظيمية. وفي غزة تحوّل المشروع إلى صراع دائم مع الداخل والخارج . أما داعش فقدّمت النموذج الأكثر فجاجة: إمارة بلا مؤسسات، حكم قائم على الدم، ونظام لا يمكنه البقاء إلا عبر الحرب. كل هذا ليس شذوذا” ، بل هو النتيجة الطبيعية لفكرٍ يقوم على الحاكمية والولاء والبراء والجهاد المفتوح . مجتمعٌ قائم على التكفير، لن ينتج سوى مزيد من التكفير.

سادسا” – في التجربة السورية الأخيرة — تحت سلطة أحمد الشرع منذ ٨ كانون الأول ٢٠٢٤ — ظهر كل هذا الفكر في صورته العارية، بلا أقنعة. خلال عام واحد فقط انهار الوعد الذي روّج له التنظيم : الحوكمة الرشيدة، العدالة، النزاهة، الأمن، الإصلاح الاقتصادي. ما ظهر بدل ذلك هو تسعيرٌ طائفي غير مسبوق، بث للكراهية ضد العلويين والدروز والمسيحيين، وصولا” لارتكاب ابادات جماعية في الساحل ، والسويداء ، واستمرار عمليات قتل واعتداءات ممنهجة يومية، تفشي الجريمة، انهيار الخدمات، وتفكيك مؤسسات الدولة. ليس لأن السلطة فاسدة فقط، بل لأن النموذج الفكري نفسه لا يقبل الدولة، ولا يحتمل التعدد، ولا يرى الناس مواطنين بل أصنافا” بين مؤمن ومرتد، بين نافع وضال. لقد قدّم الشرع ونظامه الدليل القاطع على أن هذا الفكر حين يصل إلى السلطة لا ينتج دولة، بل ينتج “إمارة” مغلقة، تدمّر المجتمع باسم تطهيره، ولهذا لم يلفظوا كلمة ديمقراطية أو حكم الشعب، لأن الأساس الفكري لديهم أوضحناه أعلاه، وما يقومون به مجرد حركات استعراضية مسرحية لإرضاء الخارج دون قناعة أبدا”، أي إجراء تغييرات شكلية ، وليست جوهرية ، أي سوفت وير وليس هارد وير، باللغة الرقمية.

سابعا” – التخادم مع المشاريع الغربية ليس حدثا” طارئا” بل خطّ متصل منذ نشوء هذا الفكر . فالبريطانيون شجعوا الإخوان في بداياتهم لاحتواء الحركة الوطنية المصرية. الأميركيون دعموا المجاهدين بقيادة عزّام وبن لادن في أفغانستان. فرنسا والولايات المتحدة دعمتا الإسلام السياسي في مواجهة الأنظمة الوطنية من الجزائر إلى سوريا. حتى اليوم، لا يزال بعض الغرب يرى في هذه الجماعات أداةً لتفكيك الدول والمجتمعات . وهذا ليس سرا” ، فقد قال زبيغنيو بريجنسكي — مستشار الأمن القومي الأميركي — بعد سنوات من دعم المجاهدين الاسلاميين : “لقد صنعنا وحشا”، لكنه كان وحشا” مفيدا” ، واليوم، حين تقدّم التجربة السورية نفسها على أنها “تحرير”، يكشف الواقع أنها أداة لتمزيق المجتمع وإعادة تشكيله على أسس طائفية، بما يخدم المشاريع الخارجية أكثر مما يخدم السوريين .

ثامنا” – إن منطق “الولاء والبراء” هو العامل البنيوي الأكبر في فشل المشروع الأصولي. فهذا المنطق يعني أن ولاء الفرد ليس للدولة ولا للقانون، بل للجماعة؛ وبراءه ليس من الظلم أو الفساد، بل من المختلف دينيا” أو طائفيا”. ولهذا تفشل هذه الجماعات كلما حكمت لأن الدولة تحتاج عقدا” اجتماعيا” شاملا”، بينما يحتاجون هم إلى اصطفافٍ عقائدي. الدولة تقوم على القانون ، وهم يقومون على السمع والطاعة. الدولة تقوم على المواطنة، وهم يقومون على الفرز الإيماني. لهذا تنتهي كل تجاربهم إلى الانقسام الداخلي . فقد انقسم الإخوان على أنفسهم، وانقسمت القاعدة، وانشقت داعش إلى ثلاثة تشكيلات، وانفجر الصراع داخل سلطة الشرع نفسها خلال أشهر قليلة .

تاسعا” – على المستوى الاقتصادي والإداري، تثبت التجارب أن هذا الفكر لا يمتلك أي تصور للدولة الحديثة. فلا رؤية اقتصادية، ولا مؤسسات مستقرة، ولا إدارة محترفة، بل استبدال الكفاءة بالولاء، والخبرة بالبيعة، والمواطنة بالانتماء التنظيمي. وفي التجربة السورية الأخيرة رأينا كيف انهارت البنى الخدمية والاقتصادية لأن السلطة الجديدة لا ترى هذه القطاعات علما” ومؤسسات ، بل “غنائم”، فتتحول موارد الدولة إلى توزيع نفوذ ومكاسب، وتصبح كل سلطة أمنية فرصة لتصفية الحسابات. وهكذا تُفكَّك الدولة باسم الدين، ويُدمر المجتمع باسم العقيدة، ويُستباح الاختلاف باسم “تطبيق الشريعة”.

عاشرا” – المفكر الفرنسي روجيه غارودي قال جملة تصلح أن تكون مفتاحا” لفهم كل ما حدث: “الأفكار التي تعجز عن صنع الحياة، لا تملك إلا أن تصنع الموت.” وهذا هو جوهر المشروع الأصولي منذ قرن: فكرٌ يعجز عن بناء دولة، فيبني إمارة ، يعجز عن صياغة قانون، فيسقط في التكفير، يعجز عن التنمية، فيستبدلها بالجهاد ، يعجز عن التعدد، فيحوّله إلى حرب، يعجز عن حماية المجتمع، فيحوّله إلى غابة. وكلما طبّق نظريته، انكشف التناقض بين الشعارات والواقع. يقولون “أمة”، لكنهم يمزقون المجتمعات. يقولون “عدالة”، لكنهم يغرقون في الفساد. يقولون “شريعة”، لكنهم يبرّرون كل تجاوز باسمها. هذه ليست أخطاء أفراد، بل هي النتيجة الحتمية لبنية فكرية لا تنتمي إلى العصر، ولا تعرف الدولة، ولا تفهم العالم.

أخيرا” – الحصيلة النهائية العلمية، والموضوعية واضحة: المشروع الأصولي سقط من الداخل قبل أن يسقط من الخارج. سقط لأنه لا يملك مقومات البقاء، ولا القدرة على بناء نموذج إنساني قابل للحياة، بل نموذج موت، وقتل، ودمار، وسقط أخلاقيا” لأن الخطاب يتناقض مع الممارسة ، ولأن النفاق أصبح القاعدة ، لا الاستثناء . من حسن البنّا إلى سيد قطب إلى المودودي إلى بن لادن إلى المقدسي إلى أحمد الشرع، السلسلة واحدة، والنتيجة واحدة: تدمير الدولة والمجتمع، وفشل مشروع الإمارة، وسقوط نموذجٍ لم ينجح مرة واحدة خلال قرن كامل.

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق