
ظلّ خطابٌ سياسيٌّ لعقودٍ يردّد أنّ حافظ الأسد “باع الجولان” عام 1967.
تكرّر الاتهام حتى صار مسلّمة،
لكنّه—حين يُختبر بوثيقة—ينهار.
لا اتفاق،
لا توقيع،
لا مقابل،
ولا اعتراف.
ما حدث في حزيران 1967 كان هزيمةً عسكريةً عربيةً عامة،
مأساةً في ميزان القوى والقرار،
لا صفقةً في دفاتر السياسة.
الهزيمة—مهما كانت قاسية—ليست خيانة.
الخيانة تحتاج ورقًا،
والورق غير موجود.
بعد ستّ سنوات، خاضت سوريا حرب تشرين 1973.
لم تكن نصرًا كاملًا،
لكنّها كانت حربًا حقيقية:
هجومًا،
واستعادةً لأجزاء،
وكسرًا لأسطورة.
من يبيع لا يحارب،
ومن يحارب لا يُتّهم بالبيع دون بيّنة.
قانونيًا، ثُبّت الجولان أرضًا محتلة بقراري مجلس الأمن 242 (1967) و338 (1973):
عدم جواز الاستيلاء على الأرض بالقوة،
ووجوب الانسحاب من الأراضي المحتلة.
ورغم كل ما يُقال عن النظام السوري،
لم تُوقَّع وثيقةٌ واحدة تعترف بضمّ الجولان.
بقي الملف مفتوحًا—ولو مجمّدًا—نصف قرن.
ثم جاء زمنٌ آخر.
زمن ما بعد الدولة.
زمن “الواقعية” السريعة،
والشرعية المستعارة،
والابتسامات أمام الكاميرا.
هنا تغيّر المشهد لا الأشخاص.
لم تعد الأرض تُخسَر في حرب،
بل تُمنَح في مجاملة.
باعوها برشّة عطر.
لا معاهدة،
ولا حرب،
ولا حتى اعتراف بالهزيمة.
{رحم الله أبا محجن الثقفي حين قال:
إنّ الكرام على الخيول مبيتهم
(فدعي الرماحَ لأهلها و تعطّري)}
رشّة عطر على كتف سلطة جديدة،
ابتسامة أمام الكاميرا،
ووعود دعمٍ مؤجَّل،
ثم قيل لنا إن الواقعية تقتضي الصمت.
الجولان،
الذي صمد في النصوص الدولية،
وفي قراري مجلس الأمن 242 و338،
وفي ذاكرة السيادة نصف قرن،
لم يسقط هذه المرّة تحت الدبابات،
بل تحت المجاملة.
لم يُؤخذ بالقوة،
بل أُهدي بلغة ناعمة.
لم يُحتل،
بل أُغلق ملفه
بجملة عابرة.
وحين أعلن الرئيس الأمريكي اعترافه بضمّ الجولان،
لم يكن ذلك زلّة لسان،
بل كسرًا صريحًا للقانون الدولي،
وتتويجًا لمنطق جديد:
الأرض تُعطى،
لا تُستعاد.
لكنّ الأخطر لم يكن في التصريح،
بل فيما تلاه.
ففي الأيام الأخيرة،
غابت هضبة الجولان المحتلة،
وغاب لواء الإسكندرون المحتل،
عن الخريطة السورية الرسمية المتداولة.
الأولى في الجنوب،
والثانية في الشمال،
كانتا لعقودٍ ثابتتين في الخرائط،
وفي المناهج،
وفي الوثائق،
وفي الذاكرة القانونية للدولة السورية،
بوصفهما أرضًا محتلة لا متنازَلًا عنها.
اليوم،
لم تُمحَ بقرار،
ولا ببيان،
ولا حتى باعتراف صريح.
مُحيت بهدوء.
خريطة نُشرت احتفاءً برفع العقوبات،
من دون الجولان،
ومن دون الإسكندرون،
وكأن الغياب تفصيل تقني،
لا موقفًا سياديًا.
وهنا تكمن الخطورة:
فالسيادة لا تُفقد فقط حين تُوقَّع المعاهدات،
بل حين تُزال الأرض من الخريطة.
ما لا يُسمّى لا يُطالَب به،
وما لا يُرسم لا يُدافَع عنه،
وما يغيب عن الوثائق
يغيب لاحقًا عن المرافعات،
ثم عن الذاكرة.
هكذا،
لا تعود الأرض محتلة،
بل “غير موجودة”.
ولا يصبح التنازل فعلًا سياسيًا،
بل تعديلًا بصريًا.
الجولان لم يسقط بالدبابات،
ولا بالإملاءات،
بل بممحاة.
ولواء الإسكندرون،
الذي اقتُطع يومًا
بصفقة دولية وصمت محلي،
يُمحى اليوم من الخريطة ذاتها
التي كانت تقول لأجيال كاملة:
هذه أرضك، ولو طال الزمن.
ما جرى ليس خطأً تقنيًا،
بل موقفًا سياسيًا مُقنَّعًا.
ومن لا يضع أرضه على خريطته،
لا يملك حق المطالبة بها غدًا.
المفارقة الأخلاقية جارحة:
من اتّهم غيره بالخيانة بلا وثيقة،
قبل اليوم بخسارة الأرض
بلا مقاومة،
وبلا حتى لغة اعتراض سيادي.
الجولان ليس رمزًا فحسب؛
هو ماءٌ وزراعةٌ وطاقةٌ وحدود،
قيمةٌ استراتيجية واقتصادية
تُقاس بمئات المليارات—وربما أكثر—على المدى الطويل.
التفريط به ليس خطأً تكتيكيًا،
بل قرارٌ يُعيد تعريف معنى الدولة.
الهزائم تُغفَر،
والعقوبات تُرفع،
لكن الأرض التي تُحذف من الخريطة
تُحذف من المستقبل.