
لماذا سورية ؟
لأنها آخر قلعة و حصن و خط دفاع عسكري وفكري وقومي في وجه الامبريالية العالمية. لم يكن إضعافها وشيطنتها وتحويلها إلى مادة دسمة للتلفيق وروايات الزور ، فعلاً عابراً أو بريئاً . بل كان خطةً ممنهجةً لطمس الحقيقة و كل ما هو جميل في ذاكرتنا الجمعية وهويتنا الوجودية . يريدوننا أن ننكر تاريخنا ، وأن نكذب ما عشناه من عزة وشموخ و بطولات نرفع بها رؤوسنا ، لأننا رفضنا الدخول في “العصر الأمريكي”، ذلك العصر الذي يبدو دخوله سهلاً … لكن ثمنه فادح. ثمنٌ يُدفَع من كرامة الوطن وأرضه وتاريخه وثقافته و عنفوانه وسيادته . ثمنٌ ما كنا لنقبله أبداً ، ولا يمكن دفعه إلا عبر الخونة والعملاء والوكلاء المأجورين.
لا يتمثل الخطر القائم في سورية اليوم فقط في وجود سلطة أمر واقع إرهابية ، وصلت إلى موقعها عبر تفاهمات دولية بعد عقدٍ ونصف من استخدامها لاستنزاف الدولة والجيش والشعب . بل يكمن الخطر الأعمق في محاولة إخراج سورية من سياقها التاريخي الوطني والقومي الذي تأسست عليه. إنه انقلاب على الأسس التي أرساها آباء الدولة السورية منذ معركة ميسلون عام ١٩٢٠، برفضهم الاحتلال و الوصاية و مصادرة القرار الوطني و التقسيم الطائفي والإثني وسعيهم الدؤوب و حربهم بكل الوسائل المشروعة للاستقلال والسيادة و وحدة الأراضي السورية.
إن هذه السلطة القائمة تقوم بكل فعل شائن يُنقِص من قيمة سورية ومكانتها . لا أتحدث من موقع تمنٍّ للخير من هذه الشرذمة الإرهابية القاتلة للأوطان، بل من خوفٍ حقيقي … ماذا سنجد عند رحيلهم؟ وطناً بلا روح، وهويةٍ مُحَيِّدة ، و مجرد من سلاحه و الخوف و عدم الثقة مزروعة بين أبنائه.
عوداً على بدء، لماذا سورية؟
لأنها البلد العربي الوحيد الذي قدَّم مشروعاً نهضوياً شاملاً للأمة. انطلقت شرارته من شهداء السادس من أيار ، حين حاول الأتراك بتر أول صوتٍ نادى بالعروبة. واستمرت المسيرة و الكفاح حتى الاستقلال ، ثم مواجهة أول تهديد للأمن القومي بقيام الكيان الصهيوني، حيث كان جيش الإنقاذ العربي وجيش سورية القوة العربية التي صمدت في وجه تلك العصابات الصهيونية و حققت تقدماً ميدانياً . وكان لنا دورنا في العدوان الثلاثي على مصر ، من قطع خطوط النفط البريطانية الواصلة لشواطئ المتوسط ، إلى المشاركة في إغراق المدمرة “جان بارت” على يد البطل السوري جول جمّال.
من خلال إيمانها العميق بالعروبة فعلاً لا قولاً فقط ، توحدت مع مصر وإن لم يُكتب لهذا المشروع الاستمرار بسبب ظروف وأخطاء عدّة. وفي لحظة تجلّى فيها عنفوان الأمة ، كانت حرب العزة و الشرف ” حرب تشرين ” حيث تدافعت الأقطار العربية لدعم سورية و مصر في حربهما لتحرير أراضيهما و استعادة الكرامة العربية المسفوحة . حتى على صعيد الوحدة العربية بذلت سورية جهوداً جادة، من محاولة الوحدة مع العراق التي حَطمها انقلاب “العميل” الذي نسف حلم الوحدة و أدخل المنطقة في حروب و صراعات ما زلنا ندفع أثمانها لليوم و أهم تلك الصراعات ” تحويل الصراع من عربي صهيوني إلى عربي فارسي ثم جعله صراعاً طائفياً ” .إلى السعي لاتحاد ثلاثي مع مصر وليبيا.
ثم جاء دورنا في لبنان و المحافظة عليه و حمايته من الاحتلال و إخراجه عن محيطه و حاضنته العربية و مساعدته في بناء مقاومته و دعمها حتى التحرير . بعد ذلك بدأ الهجوم البربري و احتلال العراق و بدء لغة الإملاءات و الشروط التي رفضتها دمشق حتى وصلنا أحداث الربيع العبري .
هذا السرد التاريخي البسيط هو تذكير بأننا كنا دوماً في عين العاصفة و بإرثنا وثقافتنا وهويتنا و مواقفنا المشرفة التي يحاول هؤلاء المجرمون طمسها، متحججين بمحاربة إرث النظام السابق. ذلك النظام الذي بغض النظر عن أخطائه الاقتصادية و المعيشية كان في خطه الوطني والقومي الأحرص والأصلب في رفض تقسيم المنطقة وشرذمتها و يبحث عن كل ما هو جامع لتوحيد موقفها و كلمتها على أضعف تقدير ، و كان في صراع دائم في مقاومة دخول عصر الهيمنة الأمريكية، متمسكاً بمبادئه حتى النهاية.
وهنا نعرف لماذا سورية مُستهدَفة بهذا العنف: لأن فيها روحاً لن يقدروا على قتلها. روحاً متجذرة في أبناء هذه الأرض الطيبين، ولا بد لها أن تنبثق من جديد ، لتلفظ خطاب الحقد والكراهية ، وتُطفئ نار الفتنة. فروحها أقوى من كل مشاريعهم، ونورها سيُمحي ظلمهم وظلامهم.