أمام الكتابات البديعة العظيمة ترتجف قلوب الفلاسفة .. وترتعد كتبهم التي ترى انها كتب للعبث امام ماتكتبه الحقيقة والوجع البشري ..وعندما تحدث ملحمة وطنية ولاتنتج ملحمة ثقافية فانها ملهاة ومأساة ينخلع لها قلب الحضارات .. انها كمن يتزوج حبيبته ولاينجب منها من يحمل دمه من بعده ..
واذا كانت الحروف والكلمات هي التي تصنع ضمير الامة وتصنع جسدها وعيونها وآذانها وترسم عروقها وشرايينها .. فان الدم أيضا هو من يسقي الحروف .. انها علاقة جدلية .. الحرف وعاء الدم ووعاء الدمع .. لذلك عندما تنتهي الملاحم ستورق القصص والروايات والحكايات .. واذا لم تورق فان الملحمة تتحول الى سيرة شعبية للحكواتيين في المقاهي عن زير وعنترة من أجل ناقة وامرأة .. ولكن ستموت الاغنيات العظيمة التي تسبح في الوجع العظيم ولن تحملها أجنحة من ألم عظيم يخترق الزمن والعصور .. وستموت الروايات التي تحكي سيرة الالهة والاساطير .. الالهة التي كانت بشرا وارتقت بأعمالها العظيمة لتصبح قصصا في ارفع مكان ..
في الملحمة السورية العظمى كنت أفتش عن تلك البذور والبراعم التي تنهض من قلب التراب كشقائق نعمان تحمل معها رايات حمراء لقصص الابطال والشهداء وقصص الناس وتاريخا لن يكتبه اي مؤرخ في الوجود .. فالمؤرخ مهما كان عملاقا سيكتب عن السياسة والقادة .. ولكن من سيكتب عن الناس وعن فلسفة البسطاء في القتال والصمود والبقاء؟؟ .. عن فلسفة أم تقدم أبناءها من اجل تراب عاشت وعاشوا عليه؟؟ .. عن فلسفة شاب كان يحلم بحبيبته ويحلم برفاق حارته؟؟ ولكنه في لحظة مواجهة مع الدناءة والسفالة والهمجية التي تريد ان تقتل الحياة قرر أن يفتدي الجميع وان يموت كي تعيش حبيبته ورفاق حارته ويعيش كل من يريد الحياة .. فهو يتحول الى مسيح في لحظة فداء .. ويقرر ان يصعد بنفسه الى الصليب وأن يضع اكليل الشوك ويتلقى السياط والرماح ..
وأخيرا لمحت عيناي تلك البراعم .. وتلك الشقائق .. ووجدت ضالتي في المشروع التنويري الثقافي عبر مجموعات من المنشورات الملتزمة .. في دار دلمون للنشر هناك عشرات العناوين التي تفحصتها .. ودققت فيها .. عناوين جديدة وأسماء جديدة .. وقصص جديدة .. وروايات جديدة .. كتّاب لم نكن نسمع عنهم ولكنهم يكتبون ويغمسون أقلامهم في دمهم ودموعهم ويتفوقون على نجيب محفوظ وعلى يوسف ادريس وكل الروائيين والقصاصين العرب ..


هذه المؤلفات التنويرية والمجموعات القصصية والروايات تركت المقاهي وثرثرات المقاهي وحكايات الحارات الشعبية التي انشغل بها نجيب محفوظ ويوسف ادريس وكتبت شيئا مختلفا .. لتجعل النفس تشتهي القراءة والورق .. لأنها تبث شيئا ساحرا في الروح لايقاوم … فهو خلطة مابين الحكاية والرواية كما هي خلطة رائحة الليمون مع النعناع .. وخلطة اليانسون مع النبيذ والسكر .. ومزيج مابين القصة والسيرة والوثيقة كما هو مزيج الحب والصداقة .. وتداخل مابين الفلسفة الكبرى للاله وفلسفة الانسان .. لاشيء من الخيال .. بل حقائق صافية مثل الذهب المصفى الذي لاتشوبه الخلائط ..
بعض القصص لكتاب ناشئين كانوا يظنون انهم ليسوا كتابا .. ولم يخلقوا ليكتبوا .. ولكني كنت أترك نفسي منسابا في كتاباتهم التي كانت تدوخني .. فهي قصص بلغة بسيطة جدا ولكنها مروية بالفلسفة والنظريات في الحياة والموت ومسقية بالثقافة والمعرفة والتجربة والابداع والمشاعر والصدق والبراءة .. وهي قطع رخامية من التاريخ لهذه الفترة من العصر الظلامي الذي مرت به سورية ..
لايمكن لأي ناقد ان يتجاهل مثلا قصص (العناقيد الاخيرة) لوليم عبدالله الجميلة الرائعة التي تشبه اشجارا للفلسفة واشجارا للأرواح .. قصص تنحت الدهشة في الذاكرة والقلب .. وتؤرخ للحظات ميلاد الحياة وميلاد الموت لايمكن ان يؤرخها اي مؤرخ ولو كان هيرودوت نفسه .. لأنها تأريخ لجغرافية الرحيل .. وجغرافية الوجع لحظة مفارقة الحياة او لحظة الخروج من فم الموت ..
هذه القصص وقصص مثل قصة (طفلة تلد أمها) و(هذه حكايتي) .. هي لكتاب لن يكونوا مجهولين بعد اليوم .. وهناك عشرات العناوين التي تتدفق من دار دلمون .. الدار التي تتحول تدريجيا الى مركز للتنوير والاشعاع في لحظة مظلمة من حياة أمة وحياة ثقافة .. وتترك العناوين التافهة وعناوين الخيال الديني والعلمي دون ان تكترث بها .. ليس هناك كتب مستوردة .. ولاكتب مكتوبة قبل 1500 سنة ولا خرافات الخلفاء والامراء .. ولاسيرة بني هلال التي مللنا منها ولاتفسير الاحلام .. ولا أحاديث ولا ثرثرات .. ولاكتب لابليس ولا كتب للعفاريت والجن .. وطبعا ليس فيها أكاذيب (مهنتي كملك) للملك الجاسوس حسين بن طلال ولا تخاريف (البحث عن الذات) للسادات .. ولا (زبيبة والملك) .. لكنكم ستجدون مذكرات المخلص لفلسطين أحمد جبريل بكل مافيها من اسرار مدهشة لايتخيلها عقل عربي .. انها كتب للضوء .. ونحت للحدث على وجه الضوء .. وكل كتاب يقرأ بمثابة مصباح أو سراج يعلق في العقل المظلم .. وكم تحتاج عقول هذه الامة من المصابيح والفوانيس والشموع ..
اياكم أن تظنوا أن أحدا من المؤرخين وطلاب الاكاديميات والشهادات والدكتوراه سيكتب عن تاريخ هؤلاء الذين كانوا في الحرب يوما وناموا مع الرعب وغنوا وراقصوا الدبابات والسيارات الانتحارية وغنوا مع قذائف الهاون واقتربت أعناقهم من حد السكاكين وتفاوضوا مع الموت .. هؤلاء يشبهون النفائس والمجوهرات التي تظهر على غير انتظار كما تظهر الكنوز المخبوءة في قلب غار او كهف مظلم .. وهؤلاء لن يكتب عنهم الا نحن .. نحن الذين عشنا معهم .. وشربنا معهم .. وخفنا معهم وفرحنا معهم .. هؤلاء هم الفلاسفة الحقيقيون الذين لم يتسن لهم أن يكتبوا لنا عن فلسفتهم التي انبثقت في لحظة الوجع .. فلسفة الفقراء التي يخلطونها مع فلسفة التحدي .. وربما لو نقبنا في قلوبهم لوجدنا ما يرتعد له ديكارت من شدة الهيبة .. ويهتز له ايمانويل كانط من شدة الايمان .. وترتجف له أصابع نيتشه وهو يكتشف الانسان المتفوق الذي بحث عنه طويلا .. وتنبأ به وانتظره .. ليجده ولد في هذه الحرب .. ولم يكن انسانا واحدا متفوقا بل كانت هناك عشرات الالاف من السوبرمانات المتفوقة .. التي كانت تقاتل بالصبر والأمل .. وتقاتل بالعناد فقط .. وتقاتل بالرفض والعصيان.. وتتمترس بصور الاحبة .. ولم يكن معها سلاح سوى انها مؤمنة انها جاءت في موعدها مع القدر لتوقف هذا الجنون الكوني والهستيريا التي تريد أن تأكل لحم البشر ولحم الجغرافيا ..
ان الكتابات الناهضة من بين حطام المدن وحطام الأرواح هي الأنوار الجديدة .. وكل قصة هي حزمة من ضوء .. ولذلك فانني متفائل .. فرغم الحرب والحصار والتجويع والعوز والحرب على الليرة واللقمة فان حركة التنوير انطلقت .. والفجر يطلع .. والكل يصنع خيوط الفجر .. وعلى كل من لديه حزمة من ضوء ان يضمها الى هذه الحزم ليخرج النور . وستهرب الخفافيش وتفر الذئاب وكل الحيوانات التي انطلقت في ظلام الربيع العربي ..
طلع الفجر .. وكل الخفافيش آوت الى شقوق الدول وأجهزة المخابرات التي انطلقت منها .. ولن نسمع في بلادنا بعد اليوم الا تغريد عصافير النهار ..





