الثقوب السوداء في الكون العربي .. كتاب غير ديبلوماسي للديبلوماسي الأول


من فضائل الهزائم انها تلقي علينا الدروس .. وتطرح علينا أسئلة كنا نتجاهلها ونعاملها بلامبالاة ان لم نطردها باحتقار كما يفعل الحمقى .. ورب هزيمة كانت خيرا من النصر اذا كان النصر سيقودنا الى جهالة وجهل او غرور وطيش وغفوة عن الزمان ..
ان تشريح الهزيمة هو جزء من البحث عن النصر .. ولاشك اننا لازلنا في بحث طويل يفسر لنا هذه الحالة التي نمر بها كمجتمعات مرت بنكبات وأهوال وهي تعيد انتاج نفس الاخطاء دون ان تتجنبها ..
ومثلي مثل كثيرين لاأزال أبحث في كتب التاريخ عن تلك الثقوب السوداء العملاقة التي تشبه الثقب الاسود الذي سيمتص كل الكون يوما .. في تاريخنا ثقوب سوداء مثل ثقب الفتنة الكبرى وثقب موت الفلسفة العقلية وثقب انتصار النص على العقل في طريقة تفكيرنا .. وهناك ثقب أسود كبير هو الثقب العثماني الذي سقطنا فيه 400 سنة كاملة .. وهناك الثقوب الاستعمارية التي تسببت في تدمير مجتمعاتنا وتفتيتها ..
فهذه الثقوب السوداء في تاريخنا تمتصنا ونسقط فيها كما نسقط في مجال مغناطيسي لكوكب .. فلهذه الثقوب السوداء قوانين جاذبيتها التي لاتقهر كلما اقتربنا منها .. وكلما اقتربنا منها امتصتنا بسرعة وهوينا الى مهاويها السحيقة لا حول لنا ولاقوة ..


وفي بحثي المستمر عن هذه الثقوب السود كنت ألوم الثقافة يوما وفي يوم آخر ألوم الدين والتراث .. واحيانا ألوم الاستعمار والغرب .. ولكن علينا نحن لوم يجب ان نتعرف عليه وهو أننا لم نضع خارطة للثقوب السوداء الرهيبة – كما خرائط الالغام – التي كلما اقترب منها المجتمع والناس سقطوا فيها كما تسقط الطائرات وتغوص السفن في دوامات مثلث برمودا وتختفي .. يجب علينا ان نضع أسوارا واسلاكا شائكة تمنع الناس من الاقتراب من تلك الثقوب لأنها للأسف خطرة جدا ومن يقترب منها ستسحبه تياراتها العنيفة وينتهي أمره .. وعلينا ان نقرأ الربيع العربي على انه فتح حقير للثقوب السوداء في العقل العربي لم نغلقها فسقطنا في دواماتها العنيفة ولم نخرج منها بعد .. ولايزال البعض يقف حارسا يمنعنا من أن نردم هذه الثقوب او أن نسيجها ونمنع الاقتراب منها ..


واجبنا كنخب وطبقة مثقفة معنية .. ان نبحث دوما في تشخيص عللنا ومشاكلنا وأن ننتهز فرصة الوجع والحمى وارتفاع درجة حرارة الأمة في عللها وسقمها من أجل دراسة دمها وتجرثمه في ساعة الحمى كي نعطيها الدواء الصحيح والمضاد الحيوي المناسب ..


في كل كتاب وفي كل عمل فكري هناك محاولة للرتق ومحاولة للتشخيص والعلاج .. ومن بين الاعمال الفكرية الهامة التي وقعت بين يدي كتاب هام جدا وبديع من تأليف من لم أتوقع ان يكون من أصحاب البحوث التاريخية العميقة التي تريد ردم الثقوب السوداء في العقل العربي .. وهو الديبلوماسي الأممي الدكتور بشار الجعفري .. نعم انه نفس الدكتور بشار الجعفري الذي عهدناه ديبلوماسيا رفيعا في الامم المتحدة .. وربما هذا الفهم لعقدة المشكلة في العقل العربي هو الذي قاده لفهم عقدة الخصم أيضا الذي كان يستهدف العقل العربي .. فناوره وبارزه وهو على دراية بما يبارز ..


سيفاجا الكثيرون بأن الدكتور بشار الجعفري يخفي شخصية أخرى مثيرة للاهتمام والاعجاب في ثنايا روحه لاتشبه مانعرفه عنه .. فصورته التي حفرت في الذاكرة لاتنسى وهو في مجلس الامن يتحدث في السياسة بالانكليزية ويقتبس بالفرنسية ويشكو العروبة والعرب بالعربية .. في ذاكرتي وذاكرة الجميع هو أستاذ الديبلوماسية المخضرم الذي كان يطلق النار الديبلوماسية في مجلس الامن وينسف الاقتحامات الانتحارية للمندوبين الغربيين الذين كانوا يهاجمون سورية ليلا نهارا .. في هجمات متتالية في تنسيق مع هجمات جبهة النصرة وداعش وموجات الانتحار البشري الذي كانت تقوم به فصائل المعارضة الارهابية بكل اشكالها .. ففي عقب كل هجوم على الجيش السوري او قبله كان لابد من قصف غربي امريكي تمهيدي بالمدفعية الديبلوماسية الثقيلة يترافق مع هجوم ديبلوماسي في مجلس الامن على المندوب السوري الذي خاض أقسى المواجهات وأعتاها مع عقول الشر والحرب .. وكان في موقع لايحسده عليه أحد وهو يتلقى السهام التي لاتتوقف عن الانهمار مثل المطر على موقف سورية الدولة الوطنية ..


ولكن ليس هذا هو كله الدكتور بشار الجعفري .. فهناك جانب مختلف فيه لم أتعرف عليه وهو انه باحث في التاريخ وروائي من طراز رفيع .. وقد قدم عملا روائيا تاريخيا مثيرا للدهشة في عمله الكتابي المسمى (أولياء الشرق البعيد) أساطير مجهولة في أقاصي المعمورة .. كتبه عندما كان في العمل الدبلوماسي في الشرق الأقصى.. وهو رواية تاريخية حول انتشار الاسلام في أرخبيل الملايو .. والحقيقة أن البحث حاول أن يفسر لنا طريقة وصول الاسلام الى أقاصي الشرق بعيدا عن التخمين وعشوائية التحليل فأعاد قراءة تلك المرحلة وشخصياتها .. صبها في قالب روائي فأعاد رواية التاريخ عبر رواية حقيقية.. ولكن وفيما هو يقدم تلك المرحلة وقع على كنز آخر .. وهو ان تاريخنا اليوم هو استعادة لتاريخنا بالأمس .. وأن ماعانيناه اليوم من فوضى ومن أزمات عقل وأزمات عقيدة هي من نفس منجم الخيبة .. والمرض الذي أصاب النفوس دوما ..


في ذلك العمل البديع يتخلص الدكتور الجعفري من ثوب الديبلوماسي وربطة عنقه والقيود الرسمية للديبلوماسي الرصين ويشمر عن ساعديه ويبدأ في جس نبض التاريخ .. وفحص القلب والبطن والصدر .. وتدفق الدم في العروق .. ويقوم بعملية تحقيق مرهقة في أحداث تاريخية ويقوم بعملية نقل لها على شكل قصة وحكاية عن فترة اللااستقرار في المنطقة العربية في القرن الرابع والخامس الهجريين حيث الخلافة العباسية تعيش فترات من الفوضى والاضطرابات والمد والانحسار في قوتها .. ولكن يتبين للقارئ أن هذا الاضطراب والدوامات السياسية كانت سببا في دفع مجموعة من السادة الاشراف لمغادرة المنطقة العربية والابتعاد عن هذه الصراعات والتوترات السياسية والدينية والاستقرار في أقاصي الشرق .. ومن هناك بدأت عملية انتشار الاسلام .. التي لاتزال مصدرا للتساؤلات ولغزا من الالغاز .. وينسبها البعض للتجار المسلمين .. لكن الحقيقة هي انها نشاط دعوي ونموذج أخلاقي وانساني فذ لعائلات عربية أصيلة .. وهم الاولياء التسعة او (والي سونغو) رؤساء الدعوة الاسلامية في ارخبيل الملايو..


اذا ماقرأت الكتاب يساورك شعور غريب انك تقرأ مايعيشه الشرق اليوم من فوضى واقتتال وتنمر وطغيان الفئات على الفئات والنزعات الطائفية والتهافتات السياسية .. ولايخامرك شك ان معاهد الابحاث الغربية قد درست هذه الاحداث وحللت الشخصية العربية والمشرقية التي بنتها أحداث هذا التاريخ .. ولذلك كانت عملية احيائها سهله وثقب العقل العربي مجددا من تلك الثقوب القديمة بعد ان نجحت مرحلة الصراع مع الاستعمار الغربي في تحييد هذه النزعة التناحرية وهذه الانشقاقات الطائفية ..


هذه المرحلة القلقة من التاريخ اليوم ليست وليدة اليوم بل جذورها قديمة … فثورات الزنج وثورات القرامطة والثورات الداخلية والصراعات والدسائس التي لانهاية لها تشبه في منطقها وطبيعتها اليوم مانطلق عليه الربيع العربي .. فهناك كم كبير من العنف والاستهتار بحياة الناس .. وهناك حركة نزوح كبيرة ولجوء كبير الى دول الجوار .. وهناك هجرة ورحيل الى أقاصي الارض بحثا عن الأمان من فجور الثورات وفجور الساسة والسياسيين .. وهو في النهاية تفجر المجتمعات بسبب تدني المستوى القيمي والاخلاقي في أوساط نخبها وأجيالها .. فيسقط الجميع في الانهيار الاخلاقي الذي يتلوه انهيار اقتصادي وفقر وهذا سيتلوه نزاعات وحروب ومطاحن ومعارك تزيد الفقر فقرا وتزيد الجهل جهلا وتأكل من مخزون الاخلاق أكثر .. فيزداد الأمر سوءا على سوء وتعيد الازمات انتاج نفسها .. وربما كانت كلمة السر في هذه الفوضى في تلك المرحلة هي في تدني المستوى الاخلاقي للنخب السياسية والثقافية والسياسية .. انه انهيار شامل في القيم الاخلاقية بين شرائح النخب والحكم ..


ماحدث اليوم حدث بالأمس .. فرغم ان هناك اليوم صراعا لفصل الدين عن الدولة منذ زمن الا انه لاتوجد محاولة لربط الدين بالأخلاق .. فكي نحل أزمة الدين عندما يفصل عن الدولة يجب ان نربطه بالأخلاق .. فنقرأ في الكتاب كيف ان ضعف الدولة المركزية وتشتت قواها بسبب تشتت رأيها وانفصال الدين عن الاخلاق وارتباطه بالدولة وفسادها .. أوصل صبيان الحكم الى حلبة السلطة وهم الذين كانوا يتقافزون ويتقاتلون من أجل المناصب والمال ويتناهشون البلاد (حيث تفلت الصيدة منهم) .. وهم أنفسهم أصحاب تلك المرحلة القديمة التي أنتجت اليوم شيوخ النفط وأمراء النفط وملوك النفط والاخوان المسلمين الحاليين الانتهازيين .. ويكاد القارئ يشهق ويجحظ بعينيه من حجم التطابق بين تلك المرحلة وبين هذه المرحلة وكأنه يقرأ الربيع العربي بنسخة القرون الهجرية الأولى وبغياب أسماء برنار هنري ليفي ومجلس الأمن ولكن ذلك الزمان كان فيه تدخلات خارجية داخل قصر الخلافة العباسية وداخل الوزارات ولهم برنارهم ومجلس أمنهم في ذلك الزمان .. وكانت هناك انشقاقات وتمردات ودسائس .. لاتنتهي ولاتتوقف .. وكأنك تقرأ عن دسائس دول الخليج وعن كواليس جامعة الدول العربية المعيبة ..


الكتاب مذهل ومدهش في سرده لدور آلاف الشخصيات والأسماء التاريخية التي يمر عليها الكتاب في صناعتها للتاريخ والاحداث والجغرافيا .. في شكل مكثف وسرد مبسط .. وهناك كم كبير من الهوامش الثورية بالمعلومات اليقينية التاريخية.. ولكنه رسالة كثيفة جدا من أن الهزيمة الحقيقية تأتي من الداخل ومن طريقة التفكير ومن عدم قدرة الناس على التمييز بين الغث والسمين وبين الحق والباطل وبين الخديعة والذريعة .. وبين الدين والاخلاق .. وهذا ماسلط قوى الشر عليهم ..
في هذا الكتاب الثمين والكثيف الذاكرة تضع يدك على كم هائل من الثقوب في الشخصية والثقافة العربية .. ولكن أعظم هذه الثقوب هو الثقب الاخلاقي الذي نجم عن فصل الدين عن الاخلاق .. فهناك مشكلة في ان الدين الذي تولاه وعاظ السلاطين والساسة والخلفاء لايعترف بالأخلاق الا على انها صادرة عنه وأنه أبو الاخلاق ومالكها وهي ملك يمينه ويحق له التصرف بها وتغييرها .. فتصبح الخيانة والغدر والدسائس مبررة لأن لها غطاء دينيا من الصلاة والزكاة والنفاق كما اليوم .. فيسقط الدين وتسقط الدولة والمجتمع .. ولذلك فان الدين هو الذي كان يفصّل الاخلاق على مقاسه دوما في كل الفترات .. ولايعترف بسطوتها ومكانتها الا على انه فرع منه ..رغم ان الدين هو أحد فروع الاخلاق الانسانية .. مع ان الدين مكمل لها والاخلاق هي قلب الدين .. واذا كانت الاخلاق مثل الماء فان الدين هو ذلك الوعاء الذي يحويها ويحتويها ونشربها منه .. ولكن الاهتمام بالوعاء وزخارفه جعله مثقوبا .. بلا ماء .. فماذا ينفعنا ذهب الوعاء اذا كان الوعاء بلا ماء؟؟ عندما تنفصل الاخلاق عن الدين فان الدين يصبح بلا أخلاق .. وتصبح الأخلاق منفلتة تبحث عن وعائها الذي انكسر . فتسير على تراب الارض وتتحول الى مستنقعات وبرك آسنة للبعوض والحشرات ..


المدهش في قصة انتقال الاسلام عبر القيم الاخلاقية التي حملها الاوائل الهاربون من الاضطهاد الديني في الشرق العربي نحو أقاصي الشرق الاسيوي انه قدم نموذجا بديعا للاسلام الروحي الصوفي المتسامح المشبع بالاخلاق والتسامح والذي حمل الأخلاق معه .. وترى البيت الواحد فيه الأخ مسلم وأخته مسيحية دون ان يكون هناك قتل وتكفير .. وذبح وحروب ..


نحن سنبقى غير قادرين على رتق ثقوبنا العقلية لأنه لايزال يمكن للدين ان يفعل مايشاء طالما انه ينفذ الوصايا العبادية من صلوات وزكاة وحج .. وهذا ماحدث عندما تقرر ان الاسلام بني على خمس .. وكل أركانه الخمسة طقوس تؤدى للخالق وليس هناك اي التزام للمخلوق .. وليس هناك اي قاعدة لاعلاء شأن الاخلاق الفردية .. بذريعة ان الخوف من الخالق سيحمي المخلوق من قلة الاخلاق لأنه سيطيع تعاليم الخالق .. ولكن هذا الشيء هو ماتسبب بالخلل في قراءة الاسلام والاديان عموما .. اذ ان ربط الدين بالأخلاق هو مايحمي الدين من السقوط الاخلاقي .. ولذلك فان المسيحية تآكلت عقائديا عندما صارت الأخلاق فيها هي جمع المال لبناء الكنائس فنهض مارتين لوثير متمردا ليرتق الثقب الذي صنعته الكنيسة في أخلاق الايمان المسيحي .. وهذه الثورة كانت ثورة أخلاقية في جوهرها .. واستمرت في سلطتها على الضمير المسيحي الذي أطلق عصر النهضة .. واستمرت في انتاج النهضة والتطور الفكري الى أن سقطت المسيحية في اوروبة عندما انتصرت أخلاق الهيكل عليها وأخلاق راسالمال اليهودي .. وهي أخلاق الصيارفة والمرابين وأصحاب فكر الغزو والاستعمار .. فصارت اوروبة تابعة للهيكل .. في اميريكا .. كما هو اسلام هذا الزمان.. اسلام في خدمة الهيكل..

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s