هل السعودية تتمرد على أميريكا؟ بيريسترويكا السعودية وثرثرة فوق الرمال

في يقيني ان الثورات نار .. وسلوك النار لايتغير مع الزمن لأنها تتحرك وفق قوانين الفيزياء .. ولذلك فان النار لاتهبط من الاعالي والقمم نحو الوديان والسفوح بل انها تنطلق من المنخفضات وتصعد نحو القمم والذرى .. وعليه فان الثورات التي تأتي من فوق ليست ثورات فهي اي شيء الا ان تسمى ثورة .. ولذلك فان مصطلح الثورة من فوق الذي اخترعه ميخائيل غورباتشوف مصطلح مخادع مخاتل لايصح ولايجوز .. وبسبب هذا الخلل في فهم الثورة وفهم حركة النار فان كل امبراطوريته انهارت وبدل ان تكون ثورة كانت كارثة .. والحقيقة التي لاتجامل احدا هي ان الثورة لاتكون الا في المجتمع ومن المجتمع وتصعد نحو القمة السياسية والاجتماعية وتحدث التغيير .. والتغيير القادم من القمة قد يحدث كما في تجربة بطرس الاكبر في روسيا وفي حركة التنوير الاوروبية التي تقودها النخب .. وهي تسمى عملية تنوير تحضر للثورات من تحت ..


اليوم في السعودية يحاول البعض ان يرى ان مايحدث في السعودية هو ثورة من فوق يقودها الامير محمد بن سلمان (غورباتشوف السعودية) .. ولكن هذا الكلام سيكون صحيحا فيما لو كان لورنس العرب قد خرج ومات وانتهت مفاعيل الحرب العالمية الاولى .. فمنذ تلك المعركة عام 1914 دخلت بريطانيا الى الشرق الاوسط والتي صنعت المملكة العربية السعودية ثم قامت بتصميم دويلات الخليج وعائلاتها المالكة .. ولم تخرج منها الى يومنا هذا ..


طالما ان المملكة لاتزال احدى منتجات مرحلة لورنس والعقلية الاستعمارية فان لاثورة يسمح لها ان تتشكل في اي مكان من القاعدة الى الذروة .. ولذلك فان بريطانيا كانت تسمح بكل اشكال العنف الوهابي ضد الشعب العربي في منطقة الحجاز والخليج العربي وتحميه وتمنع ادانته او معاقبته وتحيطه بالصمت المطبق لأنها كانت تطلق ايدي العائلات المالكة الخليجية بالعنف والقاء الرعب في قلوب الناس بدل ان تتكفل بهذه العملية بنفسها اي ان العمليات القذرة في القمع كلفت بها عائلات عربية بدل تلويث يد بريطانيا بالدم العربي رغم ان اليد التي تقتل عربية فان العقل القاتل بريطاني والعين التي ترى عين بريطانية .. والحماية الاخلاقية والسياسية التي منحت لأنظمة الخليج سياسيا لاتختلف عن الحماية التي منحت لاسرائيل واستثنائها من اي عقوبات او ادانات .. فالمشروعان الاسرائيلي والوهابي النفطوي مشروعان دينيان أقامتهما بريطانيا اثر نظرة استراتيجية عميقة لبناء أنظمة ملكية سياسيا في المنطقة العربية واسنادها بالشرعية الدينية .. وبناء نظام ديني يهودي في فلسطين تسنده الشرعية الدينية التلمودية ..والمشروعان يتكاملان ويتعاضدان ويتبادلان الخدمات والادوار التي أرادتها النخب السياسية الاستعمارية البريطانية والغربية عموما ..


فما الذي تغير في النظام السياسي الخليجي العربي عموما والسعودي خصوصا حتى نظن ان السعودية شربت حليب السباع وصارت تتحدى اميريكا والدولار وتتمطى شرقا ؟؟ .. فهذه المنطقة هي مزرعة نفطية أنغلوساكسونية ومحرمة على اي تدخل خارجي .. بل ان البريطانيين من شدة حرصهم عليها كانوا يخشون من تدفق الشيوعية الى المنطقة العربية جنوبا وتهديد هذه المزرعة فخلقوا المشكلة الكردية كونها تشكل حاجزا بشريا من شمال ايران الى تركيا مثل السد في وجه الشيوعية الروسية التي قد تتواصل مع الشيوعية العربية واليسار الثائر ..
وعندما تجرأ صدام حسين على أطراف هذه المزرعة وحاول اشعال ثورة في الخليج النفطي ودعوة الشباب العربي الى تبديل هذه الانظمة العائلية بمنطق الجمهوريات العربية وجعل الكويت جمهورية جديدة نفطية .. ازاء ذلك استنفر الغرب كله وتم اغتيال العراق بقسوة .. وعلق جثمانه لمدة 13 سنة على بوابات الشرق حتى مرت القومية العربية ونظرت الى العراق المعلق على أعمدة الفصل السابع وقالت أما آن لهذا الفارس ان يترجل؟؟!! ولم يترجل الفارس الا الى الدفن في قبر طائفي مقيت كتب عليه الدستور العراقي التحاصصي الطائفي ..
الغرب الذي وقع صفقة شهيرة مع الحكم السعودي في لقاء عبد العزيز ورزفلت الشهير على السفينة الامريكية يقضي بتبادل الحماية مقابل تسليم قرار النفط وتسعير النفط للاميريكيين .. لم يوافق حتى الان على تغيير الاتفاق المقدس .. وهو الاتفاق الذي يعتبر الاستمرار او الحلقة الثانية لمشروع مرحلة لورنس العرب .. ولذلك كان ترامب في منتهى الوضوح والصراحة لتهديد العائلة المالكة السعودية من أن اي تغيير في ولائها او نهجها او دفعها الاتاوات المالية والعينية عبر اصدار سندات فتاوى تساند المشروع الامريكي سيعني انهاء الاتفاق القديم وانهاء العائلة المالكة خلال اسبوعين والتي صمتت ازاء هذا التهديد العلني .. كان سبب التهديد أن الاميريكيين لاحظوا ان صراعات الاسرة المالكة التي تتبع لوبيات وزارة الخارجية والبنتاغون او العلاقة مع بريطانيا قد تتسبب في محاولة ادخال قوى دولية للتوازن في داخل أعمدة العائلة بسبب توسع وتمدد قوى العائلة .. وشمّ الاميريكيون هناك تسللا روسيا وصينيا خفيا ورائحة تميل مع الشرق .. فتم ادخال محمد بن سلمان على خط الصراع العائلي مقابل تصفيته لكل مراكز القوى في العائلة المالكة .. وبعد تمكينه تم توريطه بالتواطؤ مع تركيا في جريمة الخاشقجي لابقاء ملف المحكمة الجنائية الدولية سيفا على رقبته الى الابد .. سيجعله مثل خاتم شبيك لبيك بيد اميريكا ..


المخابرات الامريكية والاسرائيلية متغلغلة في كل خلايا المملكة ومراكز قرارها السياسي والاقتصادي .. وهذا مايفسر عجز المملكة عن اتخاذ اي خط سياسي مستقل والذهاب الى كل حروب اميريكا كأنها جندية اجبارية منذ 100 سنة .. فهي وقفت ضد القومية العربية وضد مشروع ناصر ومشروع الخميني ومشروع البعث والمشروع الشيوعي وضد الاتحاد السوفييتي وعطلت كل فعاليات وآليات الصراع مع اسرائيل وكانت أخر المهمات التي اوكلت لها هي مهمة اطلاق الربيع العربي وتدمير الجمهوريات العربية او ماتبقى من فترة الاستقلال الوطني العربي وهي اليوم تقوم بحرب اليمن بتكليف لم يصدر قرار ايقافه بعد ..


البعض يرى في الحركة السعودية بالاقتراب من الصين او مسايرة روسيا في سوق النفط على انه عملية استقلال سعودية وهناك ترويج لفكرة ان السعودية قد شبت عن الطوق الامريكي وصارت تهز اصبعها في وجه اميريكا وتعرف كلمة لا !!
ولكن هذا لاينسجم مع طبيعة السعودية ونشأتها وعلاقتها العضوية بمشيمة ضباط لورنس العرب ولوردات بريطانيا والسير بيرسي كوكس الذين أوصلوا عبد العزيز آل سعود الى الحكم .. والتغير في طبيعة الحكم لن يكون الا بثورة من تحت وليس بثورة من فوق كما يصور لنا الاعلام وبعض الاقلام ..
سنمر بنفس الخديعة التي مررنا بها عندما كانت قطر تؤوي مشاريع المقاومة وترعى اعلام المقاومة ضد الامريكيين حتى ان البعض صدق أن بوش وبلير تبادلا فكرة قصف محطة الجزيرة لشجاعتها في تحدي الغزو الامريكي للعراق رغم انها هي التي سهلت الغزو عبر احباط معنويات العراقيين وترويج الشائعات .. رغم انه تم تسويقها على انها المحطة التي تمثل الضميرالعربي والحنجرة العربية .. وعرفنا بعد ذلك ان تلك الشجاعة كانت مهمة استخباراتية وتضليلية لصناعة رأي عام جديد ومصادرة العقل العربي الذي سيتم ترحيله الى مرحلة الانتحار الذاتي في الربيع العربي ..


ربما من واجب من يطرح هذه الشكوك القوية بالجسارة السعودية ان يقدم تفسيرا لهذه الجسارة السعودية في التقرب علنا من الصين وروسيا تحت عين اميريكا .. ويدهش الانسان من رؤية اقتراب الصين من السعودية التي جاءت بالعالم العربي للقاء الصين وكان الرؤساء العرب مصطفين كما الجنود أو مثل مبعوثين اميريكيين للصين يقولون لها ان أصدقاء اميريكا سيفتحون قلوبهم للصين اذا مااقتربت الصين من اميريكا على حساب تحالفات أخرى كما فعلت عندما اقتربت منها ونأت بنفسها عن الاتحاد السوفييتي .. هذا الحشد العربي الترغيبي تزين بفلسطين وحقوق فلسطين من أجل خديعة شعوب المنطقة وخدعة الصين واظهار ان السعودية مستقلة وجادة في التحدي وانها تستعمل اسم فلسطين جهارا نهارا .. وجاءت بديكورات فلسطينية مثل الديكور محمود عباس الى القمة والذي كان دوره فقط تأمين غطاء فلسطيني للحركة السعودية التي تتذكر فلسطين في استعراضاتها الاعلامية وتنساها في المذابح والاغتيالات والتهويد .. كما يتذكرها اردوغان تماما بنفس الطريقة ..


هذه القمة لاقيمة لها وهي ليست جادة بل هي تكليف امريكي .. ويكفي غياب سورية وقوى الرفض العربي التي تحدث التوازن العربي حتى نقول انها بلا قيمة وبلا مصداقية .. والصينيون كما قلت ليسوا سذجا وهم يقتربون مجاملين ويدركون ان جنود العسل العرب ليسوا الا سموما .. ولكنهم لن يخدعوا .. ومن يذهب الى الصين ويرى كيف ان الثقافة الصينية والاعلامية تركز على تلقين الشعب الصيني ان الغرب لايحب الصين ولايجب الوثوق به سيعرف ان للبراغماتية الصينية حدودها .. وان الصراع مع الغرب واميريكا لايزال مفتوحا ..
والخلاصة ان العرب الخلايجة لايزالون يعيشون مرحلة ونتائج الحرب العالمية الاولى وان عاصفة لورنس العرب وبرسي كوكس لاتزال تعبث بالرمال حتى اليوم كما لايزال الشرق العربي في الشمال وفي شمال افريقيا ضحية من ضحايا سايكس بيكو اللذان لايزالان يسيران الامور بين الحدود من قبريهما ..


هل ندرك اليوم معنى اننا نحتاج الى ثورة من تحت تصل هذه القمم .. ومعنى ان المزرعة البريطانية صارت مشروعا بريطانيا امريكيا لتربية الابقار العربية .. ؟؟ وان كل هذه البطولات العربية المتمردة فارغة لأنها داخل المزرعة الامريكية .. وان نهاية عصر لورنس لاتكتب الا بثورات من القاع .. وعدا ذلك نسميه ثرثرة فوق الرمال ..

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s