ماذا قال الزلزال لنا؟ سقوط الارتقاء .. ارتقاء الانحدار .. وعودة الحيوان


قدرنا أن نجلس على حدود الشقوق والفوالق الكبرى .. وعلى حواف الصفائح التكتونية التي تراقص بعضها .. وقدرنا أن نجلس على حواف الفوالق الجغرافية .. والفوالق السياسية .. وعلى حواف الفوالق الحضارية حيث تتناطح الحضارات على نفس فوالق الزلازل .. وكأن هذه البقعة من العالم تثير شهية الأرض كي ترقص .. وتثير شهية التاريخ كي يرقص فيها .. وتثير شهية الجغرافيا كي ترقص فوق الحدود .. وتثير شهية الغزاة كي يمروا عليها .. تثير شهية الموت كي يبقى فيها كما تثير شهية الحياة كي تنطلق منها ..

الزلزال هز الأرض بعنف .. وهز الثريات المعلقة في السقوف بعنف .. وهز الاجساد .بعنف . وهز الحياة .. وشق صدور الجدران .. وبقر بطون المدن و الارض .. وهشم أجساد وعظام البيوت .. وهز الموت اصبعه الزلزال في وجوهنا .. وهانحن اليوم نجلس بعد هذه الرجة الهائلة للأرض .. نجلس ونتأمل في ما جمع الزلزال في حقيبته من أشلاء وعظام للبيوت وجثث الشوارع .. ولحم البشر .. وغرف من دموعهم وملأ بها زجاجته الضخمة كأنها الدرر .. أو أنها نبيذ الأرض ..


وجاءت اللحظة التي نجلس فيها الى مابقي فينا من صبر وحان وقت أن نسأل عما أراد الزلزال ان يقوله لنا؟ وماذا سنقول له؟ ..


لن نعاتب الله .. ولن نشكوه الى نفسه .. وسنقول ان الله يقسم الارزاق والمصائب بالعدل بين البشر جميعا .. ولكن في هذا الزلزال كأن الأقدار أصيبت بالجنون والفصام .. فلم كل هذا البلاء؟ زلزال يطبق علينا في قلب الليل .. في قلب البرد .. في قلب العاصفة .. في قلب الثلج .. في قلب الفقر .. في قلب الحرب .. في قلب الحصار .. في قلب اليأس .. وفي قلب الأمل ..


ماذا أراد الزلزال ومن صمم هذا الزلزال في السماء أن يقول لنا؟ ماهي الدروس والمواعظ التي ألقاها هذا الزلزال المجرم الاخرق؟ .. وماهي المواعظ والدروس التي تعلمناها عن الحضارات وعن نشوء الانواع وتطور الانسان ونظرية الارتقاء؟
لله حكمته وارادته وقراره الذي لانملك القدرة على التدخل فيه .. وان كنا نمتلك الجرأة على التسليم بقضاء الله وقدره .. فاننا نسلم بقضاء الله وقدره مع العتاب .. واصرارنا اننا لم نفهم لم فعل بنا هذا؟


الزلزال انتهى وقام بواجبه ونفذ مهمته التي خلق لها .. ونحن سننهض من تحت الركام كما في كل مرة ونمشي فوق الزلزال الذي مشى على جثثنا .. كما مشينا على ركام زلزال السياسة .. وزلزال الجغرافيا .. وزلزال التاريخ .. فمن جلس على حافة الصفائح التكتونية يعرف ان الارض قد تهتز به في أي لحظة … وهو لن يغير مكان بيته فوق بيت ابيه وجده .. ومكان قلبه بجانب قلب ابيه وجده .. ومكان قبره بجانب قبر ابيه وجده .. حتى وان راقصت الصفائح الصفائح وان غازلت الزلازل الزلازل ..


ولكن من وجهة نظري فان الزلزال الاخر الذي حدث هو زلزال في مكان آخر .. انه الرجة الكبيرة التي ظهرت في حقيقة ان من يحكم في الغرب هم نوع من بقايا الانسان في طريق رحلته ونكوصه نحو الحيوان .. فهذه اللامبالاة بزلزال سورية في النخب الغربية والطبقات السياسية التي وجدت فيه فرصة للتشفي والانتقام من البشر وصارت تبحث عن الاعذار في عدم انتشال الضحايا لأنهم يخضعون لقيصر .. هذه النخب من أشباه الانسان تسبب الحرج للنوع البشري كله .. فهذه ظاهرة مثيرة للقلق عندما يتوقف الارتقاء والتطور البشري ويبدأ رحلة العودة نحو البهيمية ونحو مرحلة القرود .. وتبدأ مظاهر التآكل في عملية تطوره النفسي والاخلاقي والحضاري .. فهل هناك أي منطق في التاريخ يقول ان الكوارث الطبيعية تخضع لنفس حسابات النظريات السياسية؟


أظن ان اكثر من اهتز في الزلزلال هو نظرية الارتقاء والتطور لصاحبها تشارلز داروين .. وهي النظرية العبقرية التي تفترض اننا حيوانات أرقى .. واننا نهضنا من قاع السلم البيولوجي وتسلقناه حتى صرنا في ذروته .. ولكن لم يقل صاحب النظرية ان هناك مؤشرات وطفرات دفعت بنا الى ذروة السلم .. الا ان هناك طفرات أخرى قد تدفع تحرك التطور نحو الاسفل في حركة الانحدار .. وان هذه الطفرات الدنيا بدأت تظهر في النوع الاوروبي .. فما فعله هذا العالم في سني الحرب كان فيه بعض الجدل ربما .. وكان من الممكن التذرع بالسياسة .. وبالغطاء الاعلامي .. والتضليل .. وكان من الممكن التذرع بصراح الحضارات .. ونهاية التاريخ … ولكن الزلزال كشف عن عورة قبيحة في نظم الحكم الغربية التي مافتئت تتحدث عن أخلاق الانسان .. فيما هي تتمتع بأخلاق الحيوان .. وتكشف ان نظرية داروين كانت على خطأ او انها تحتاج الى تعديل واعادة نظر .. فما حدث لم يكن انهيارا للابنية فقط وتحركا للصفائح التكتونية .. بل كان انهيارا للنظريات والصفائح التكتونية لنظرية التطور والنشوء ..

فالذي تعرض للاهتزاز العميق وكانت بؤرة الزلزال فيه هو ايماننا ان الانسان تطور ونهض وانفصل عن حيوانيته وخاصة الانسان الاوروبي الذي تبين انه باقترابه من نقطة الاشباع التقني والاشباع الحضاري .. بدأ رحلة الانحدار في تطوره النفسي والبيولوجي .. وسقط ظننا ويقيننا أننا في زمن هذه الحضارة الغربية أكثر تطورا من القرود التي نشأنا منها كما قال داورين واننا ابتعدنا عنها .. وتبين لنا ان الحضارات لاتسقط بالهزائم وتقلبات مصائرها السياسية أو بالزلازل .. بل انها تسقط عندما تنحدر نحو سلوك الحيوان في جشعها وطمعها وفي شهوة الانتقام في رؤية الكوارث هدية من الله اليها كما نظر الاميريكيون الى القنبلة الذرية على انها هدية الرب الى المؤمنين كي يدافعوا عن أنفسهم وايمانهم بهذا الشكل المجنون ..


فلم يبد الاوروبيون متلعثمين او محرجين وهم يتجاهلون المأساة الطبيعية التي تجاوزت حدود تركيا وضربت سورية .. وتعاملوا مع الزلزال على انه زلزالان .. زلزال يقف عن الحدود والمعابر .. ولايملك فيزا او صورة شخصية او جواز سفر عبر وسائل الاعلام وتاكله ألسنة الصمت والتشفي .. وزلزال تحمل له أمتعته وجواز سفره وسائل الاعلام ووسائل البكاء ..


الزلزال زلزالان .. زلزال سمعوا به وسمعوا صهيله وزئيره وشمروا عن سواعدهم للمساعدة في مواجهته .. وزلزال صامت لاصوت له ولا صدى وليس لضحاياه اي أثر.. فقد تبخروا من التاريخ والوجود الحسي .. فزلزال تركيا أخذ زلزال سورية من الاحاديث .. وصار هناك زلزال يصيب حكومة الأسد وزلزال لايصيب حكومة الاسد .. وصار للزلزال هوية سياسية ووظيفة ؟؟ فهو حليف جديد للغرب ولقيصر يساعده في معركة احتواء هذا الشعب الذي لم يستسلم .. ولذلك تم التعامل مع الزلزال السوري على انه هدية من الاقدار لجهود قيصر في اضعاف شكيمة الشعب السوري .. ونقل الاهتزازات المرتدة الى أعماقه والى تضاريس روحه المتعبة بزلازل السياسة ..
للأسف تبين لنا اننا اذا شرحنا نظرية داروين اليوم لوجدنا انها ناقصة لأن الارتقاء البيولوجي وتطور الانواع هو عملية لاقيمة لها على الاطلاق .. فذكاء الانسان وقدرته على هزيمة الحيوانات والانواع الاخرى ليست ذات قيمة بيولوجية .. وهي اتجاه اختارته الطبيعة لأسباب نجهلها .. وتبين ان النظرية مضطرة الى تعديل نفسها .. فالنوع الذي يرتقي لايستمر بالارتقاء .. بل يصاب بالنكوص والعودة والانحدار عائدا الى مابدأه عندما تفشل قواه الحضارية والأخلاقية والعقلية على التطور ومجاراة الارتقاء بالروح والقدرة على التخلص من شهوة الانتقام والافتراس التي تتمتع بها الضواري .. وهذا النوع البشري الذي تطور في الغرب في شكله وصار أكثر نعومة .. وأصابعه أدق وهو يضرب على ازرار الكومبيوتر .. صارت روحه تعاني من انحدار وتقهقر في قوة مواجهة شهوة الحيوان بالافتراس .. والانتقام .. فخلف الأصابع الدقيقة ينهض حيوان ضار


في حربنا مع الغرب كنا نظن اننا نحارب من أجل استقلالنا الوطني .. واننا نتعامل مع عقيدة استعمارية .. ولكن الزلزال كشف شيئا آخر وهو أن هذه المعركة مع الغرب ليست فقط معركة استقلال .. بل معركة بين الحضارة واللاحضارة .. بين أخلاقنا وأخلاقهم .. بين نبلنا ونذالتهم .. بين ارادتنا وارادتهم .. بين نظرية داروين في الارتقاء والتطور .. ونهايتها بانحدار الانواع .. فنحن من نحافظ على ارتقاء النوع البشري .. وهم من يجر النوع البشري للانقراض سواء بالحروب او النكوص التطوري والروحي وعودته الى البهيمية ..


ولذلك ومن أجل ذلك كله أحس أن الزلزال قد ايقظني أكثر الى ان مسؤوليتي كبيرة جدا على هذه الارض .. وانني ولحكمة أرادها الخالق أقف كمشرقي على حافة هذا الفالق الحضاري كحارس للانسان .. وحارس للتطور البشري النوعي .. وحارس للقيم .. وحارس للحضارة .. ومعركتي لم تعد من أحل نهاية التاريخ او بدايته .. وليست من أجل اي نظام سياسي .. وليست من أجل الرأسمالية او الاشتراكية .. وليست بين الايمان واللاايمان .. بل هي معركة النوع البشري مع أشباه البشر الذي يبدؤون رحلة النوع البشري نحو مرحلة الحيوان ..

نحن سنبقى بشرا وفي ذروة السلم .. ولن نقبل أن ننتمي الى عالم اشباه الانسان واشباه الحيوان حيث الغريزة وحب النفس والشهوة والمادة .. ولن نسلم هذا العالم لأشباه الانسان .. وهذا الفالق الزلزالي هو مابين الانسان واللاانسان .. ولذلك فاننا مرفوضون من قبل عالم الحيوان .. الذي يريدنا ان نقبل بالسير معه الى العالم السفلي وعالم الكراهية والحقد البهيمي الذي يهوي اليه ..

عالم الحيوان الذي يعود الى براري اوروبة بعد غياب طويل .. يبدأ بالعنصرية من أجل العنصرية والكراهية .. ويتطور بمزيد من الكراهية للبشر .. وحب الذات .. الى حد الموت بالذات .. كما يموت الحيوان ..

هذا المنشور نشر في المقالات. حفظ الرابط الثابت.

4 Responses to ماذا قال الزلزال لنا؟ سقوط الارتقاء .. ارتقاء الانحدار .. وعودة الحيوان

  1. لانا كتب:

    لماذا العجب يا سيدي؟ وكأنك تكتشف الغرب لأول مرة!
    زملائي بالعمل كلهن يعرفون بأنني سورية، كلهن يعرفون بأنني اذهب كل سنة الى سوريا، كلهن يحبون الحلو العربي السوري يحبون الزعتر السوري ، وكلهن يعرفون صابون الغار الحلبي كلهن يحبون علب الموزاييك السورية ….. لكن للأسف ولا واحد منهم سألني سؤال واحد عن الزلزال ولا واحد سألني ازا عائلتي هناك تأثرت بالزلزل!
    وكأن سوريا غير موجودة على الخريطة !
    ماذا تريد ان أقول لك؟ الغرب خابزينو وعاجنينو ا من زمان واللذي يعتقد أن الغرب ديموقراطي وحر ويحترم حقوق الإنسان فهو لا يعرف شي من الغرب سوى المظاهر الكاذبة.

  2. السلام عليكم .
    لم يفاجئني الغرب المجرم و الذي بالمناسبة هو هوى الى رتبة الشيطانية و التي تاتي بعد البهيمية و السبعية . وحتى خذلان السعودية و مصر . بل الذي زلزلني و ايقض نومي العسلي هو خذلان الصين لسوريا الذي لم استوعبه الى الان .

  3. ISMAIL كتب:

    يعطيكم العافية، وقلوبنا منفطرة لسوريا العروبة وشعبها الشامخ المكافح الصابر. رحم الله الشهداء وشغى الجرحى وكان في عون المصابين. هل تتوفر نسخة باللغة النجليزية عن الملصق باسماء الدول التي ارسلت مساعدات الر سوريا وتركيا؟ وهل هناك تحديث لهذا الملصق. لقدتاثرت كثيرا بما قالته اليوم سفيرة دولة بنجلادش من على شاشة الأخبارية السورية، وهي تستقبل طائرة المساعدات من دولة بنجلادش!؟

  4. Abdellah hamid كتب:

    بقدر ما المنشور مدمي فهو في منتهى الروعة
    انت ابن الشام والشام مهد الحضارة وقاطرة التحول النوعي البشري ومقبرة الغرب.
    من لا يتطور تقصيه الطبيعة٧

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s